ارتعشت عينا بريسيبي البنفسجيتان للحظة أمام السؤال الذي خرج خافتًا من فيدار.
“أنا…….”
“أنتِ?”
“لا أفهم جيدًا ما الذي تحاول قوله.”
لكن، حتى وهي تقول ذلك، كانت ذكريات واضحة تومض في رأسها. أشياء رأتها في أحلامها. وكلمات “يون جو-يون” الغامضة التي لم تفهم معناها آنذاك، تمامًا كما لم تفهم الآن ما قاله فيدار.
ولسبب ما، رفعت بريسيبي يدها لا إراديًا، وضغطت على جانب صدرها الأيسر، رغم أن الألم لم يكن موجودًا هذه المرة.
“مقززة.”
تبدّل بصر فيدار في لحظة. لم يعد في عينيه ذلك الحزن الموجع كما كان منذ قليل، بل امتلأتا الآن بالاستياء والمرارة.
“جعلتِ الأمر بحيث لا أستطيع حتى أن ألومك…….”
“…….”
“ثم ها أنتِ، بهذا الشكل مجددًا؟”
لو كانت بريسيبي تدرك أنها هي نفسها التي صنعت وجود فيدار، بل وصنعت هذا العالم كله، لكان قد صرخ في وجهها. لقال لها: لماذا جعلتني أعيش كل هذا العذاب؟ لماذا جعلتني أكون وحيدًا إلى هذا الحد؟ هل كان لا بد أن يكون الأمر هكذا؟
لكن بريسيبي لم تتذكر شيئًا. نسيت كل شيء، والآن ها هي تحاول أن تتخلى عنه مرة أخرى. لذلك بدى له مقززة… جديرة باللوم.
“……ماذا كنت تريد أن تفعل؟”
سألت بريسيبي بصوت متهدج وهي تحدق فيه.
“حين أتيتُ إليك… ماذا كنتَ تريد أن تفعل معي؟ لا بد أنك كنت تتمنى شيئًا.”
صمت فيدار طويلًا. وأعاد في ذهنه آلاف السنين التي قضاها وحيدًا. ماذا كان يريد أن يفعل؟ ما الذي كان يتمناه بشدة؟ ما الذي جعله ينتظر بريسيبي على هذا النحو؟
“لا أعرف.”
لكن الآن، لم يعد يتذكر بوضوح.
“لكن إن اخترتِني… وإن أحببتِني…….”
ما زال هناك بقايا أمل عقيم، أمل لم يستطع التخلي عنه قط.
“كنت أظن أنك ستفهمينني.”
“…….”
“على نحو مختلف تمامًا عن باقي البشر.”
“قلها. ما الذي أردتَ أن أفهمه؟”
“……لست واثقًا.”
تمتم فيدار بشحوب، كأنه يحدث نفسه.
“ربما أردت أن أُعوَّض عن كل تلك السنوات المملة. وربما أردت فقط أن أتمكن أخيرًا من أن أرتاح بسلام.”
“…….”
“لقد سئمت. من هذه الحياة.”
لم ترد بريسيبي. كل ما فعلته هو أن نظرت إلى جراحه التي لا تزال تنزف دمًا.
خفضت رأسها نحو فستانها الممزق الذي كشف عن جلدها في مواضع عدة. ثم مزّقت الجزء الأنظف منه، وربطت به جرح فيدار محاولة إيقاف النزيف، وقالت بهدوء:
“ربما كانت بريسيبي الحقيقية قادرة على تلبية توقعاتك.”
“……ماذا تقصدين؟”
“لكنني لست تلك التي تعيش في أوهامك. لست شيئًا يمكنك أن تعوض به وقتك الموجع.”
“…….”
“الآن أدركت أن حياتك كانت مليئة بالوحدة والعزلة. لكن…… كما أن لديك مشاعرك، فأنا أيضًا لدي مشاعري.”
(لا أريد أن أسمع. أيًّا كان ما تقولينه، لن أستطيع فهمه. أنا لست مثلكم، لا أستطيع أن أعرف كل مشاعري وأفسرها. أنا فقط… كنت أحتاج إليك.)
عضّ فيدار على شفته بقوة، ثم تمتم مجددًا ببطء:
“كنت أريدك أن تناديني باسمي. أن تعانقيني. أن تقولي لي آسفة، وأنك تفهمين قلبي كله.”
“…….”
“لو هددتك الآن أنني سأقتلك، هل ستفعلين كل ذلك من أجلي؟”
نعم. بإمكانك أن تقتليني بسهولة، فأنتِ أقوى كائن في هذا العالم. وقد رأيتك من قبل، غير مرة، تقتل البشر أمام عيني.
لكن بريسيبي هزت رأسها.
“يجب أن تستريح الآن.”
ثم أضافت بنبرة تحثه:
“جراحك عميقة.”
(لو تركته هكذا، سيموت؟ وإن مات فيدار، بصفته البطل الحقيقي للقصة، فهل سينهار النظام بخلاف ما حدث مع الشخصيات الأخرى؟)
كان من الكذب الادعاء بأن هذا التفكير لم يخطر ببالها. لكن، في هذه اللحظة، بدا فيدار أمامها مرهقًا للغاية. كأنه تلقّى على جسده مرة واحدة ثِقل آلاف السنين.
“إذن.”
لكن فيدار سألتها من جديد:
“هل هذا يعني… أنك ترفضينني؟”
“…….”
“هل ستتخلين عني مرة أخرى؟”
تلألأت لمعة غريبة في عينيه الزرقاوين وهو يحدق في بريسيبي. أمسك بمعصمها بقوة أكبر، جعلها ترفع عينيها بارتباك نحوه.
“……في، فيدار؟”
بدت مصدومة من ردة فعله المفاجئة، أما هو فواصل قبضته ببرود، وكأنه لا يكترث. حتى عندما تأوهت بريسيبي ألمًا، لم يتوقف.
(ربما علي قتلك.)
(لو قتلتك الآن، سأشعر بالراحة.)
كان أمرًا غريبًا. فجأة بدا له وكأن رغبته في كسب قلب بريسيبي قد تبخرت تمامًا.
ارتفعت يده الشاحبة من معصمها ببطء، صعدت إلى ذراعها، ثم إلى كتفها، حتى وصلت إلى عنقها.
عيناه الزرقاوان كانتا فارغتين، شاردتين، كأنه قد سُحر بشيء ما.
وفي تلك اللحظة بالضبط—
[تنبيه: بناء الثقة والإيمان الراسخ هو العنصر الأهم في اللعبة.]
ظهرت نافذة التعليمات أمامهما، وكأنها تحذير.
“…….”
لم تكن بريسيبي وحدها من استطاعت رؤيتها. فيدار أيضًا رآها، لأنه قد تحوّل بالفعل إلى “خلل”، وسرق كتاب الذكريات وفتحه كما يشاء.
(اللعبة…… النظام…….)
أخيرًا أدرك فيدار. سواء في قرية فانيسا أو الآن، تلك الرغبة القاتلة التي تستولي عليه بلا سبب، لم تكن مشاعره الخاصة، بل كانت مجرد قيمة مُبرمجة في النظام.
[أنا مختلف عنك، فيدار.]
مرّ أمام عينيه فجأة وجه فينريك، وهو يسخر منه.
[أنت تتحرك فقط وفق القيم المحددة. ولهذا السبب، من البداية، كان كل شيء مختلفًا بيننا. على الأقل أنا اخترت بريسيبي بإرادتي الحرة واقتربت منها. أما أنت؟]
“…….”
[الذي لم يفهم الموضوع هو أنت يا فيدار. في النهاية، لستَ أكثر من دمية تتحرك وفق القيم المبرمجة لك، فهل تملك حقًّا أن تقول لي مثل هذا الكلام؟]
لا.
لا، أنا……
لم أكن أقصد أن أفعل ذلك……
“أغـ…….”
حين خفَّ الضغط قليلًا عن عنقها، دفعت بريسيبي يده المتشبثة بها مطلقة أنينًا قصيرًا.
‘لماذا؟ لماذا ما زلتُ، على عكس فينريك…….’
ما زلتُ خاضعة لسيطرة اللعبة؟
ظهر الاضطراب جليًا على وجه فيدار.
ولم يخطر في ذهنه سوى شيء واحد.
كتاب الذاكرة.
الكتاب الذي لخص جميع أنظمة اللعبة قفص بريسيبي.
إذن، ماذا كان يجب أن أفعل؟ إذا جئتُ إلى هذا الحد وما زلت لا أستطيع أن أتصرف مثل فينريك، فما الذي تبقى لي أن أفعله؟
لو أنني قتلت الآخرين مثلما فعل فينريك، أكان سيتغير شيء ولو قليلًا؟
……ماذا لو أن بريسيبي علمت أنني، رغم معرفتي بكل شيء، لم أفعل شيئًا؟
وأنني لم أقم سوى بمراقبة ما يجري تاركًا فينريك يقود الأحداث؟ عندها، ماذا سيحدث؟
أفكار لم تخطر له من قبل اجتاحت عقل فيدار كالتسونامي.
“أنت…….”
صحيح أن بريسيبي شعرت بالذعر حين خنقها، لكن ارتباكها الآن لم يكن بسبب ذلك وحده.
بل لأن فيدار كان يرتسم على وجهه تعبير لم تره من قبل.
وجه شارد تمامًا.
“……سأستريح قليلًا.”
قال فيدار وهو يدير ظهره لبريسيبي.
“أنت على أي حال لن تتمكني من مغادرة هذا الغابة. جميع الوحوش يراقبونك. لذا من الأفضل ألا تراودك أفكار سخيفة.”
……إن كان هذا يحدث رغم أنه استعاد وعيه، فما الضمان أنه لن يقتلني ثانية؟
لم يكن هناك سوى طريقة واحدة لحماية نفسها: البقاء قرب فيدار ومجاراته، ريثما يحين يوم الاختيار……
“…….”
لكنها كانت تشعر في تلك اللحظة برغبة عارمة في الهرب. وجه فينريك الذي هرع إليها صارخًا باسمها ما زال واضحًا أمام عينيها، وصوته لا يزال يرن في أذنيها.
لقد لمحت وجهه للحظة قصيرة، لكنه لم يكن كافيًا. الحنين كان يتراكم أكثر فأكثر.
أو ربما كانت مشاعرها التي كبتتها طويلًا قد بدأت الآن تتفجر كالسيل.
“…….”
نظرت بريسيبي إلى فيدار بخوف، ثم سرعان ما أطرقت رأسها وأطلقت تنهيدة ثقيلة.
✦✦✦
“هل هذا كل شيء؟ هذه هي خلاصة ما جمعه الفرسان عن الغابة المحرمة حتى الآن؟”
“نعم، هذا صحيح.”
أجاب زيغفريد وهو يحدق في الوثائق التي يمسكها فينريك، ولا تزال ملامحه شاحبة.
لقد استدعى فينريك زيغفريد على انفراد لأنه كان يعتقد أن امتلاك أكبر قدر ممكن من المعلومات حول الغابة المحرمة سيكون ميزة كبيرة. صحيح أنه هو نفسه لم يكن عديم الخبرة تمامًا في دخولها، لكن بين يديه الآن يمكن أن تتجمع خرائط ومعلومات جمعها الفرسان طوال عقود.
“أنت ستبقى هنا لحماية الإمبراطور.”
“نعم؟ لكن……!”
“بمثل هذه الحال، الشيء الوحيد الذي ستفعله داخل الغابة هو أن تكون طُعمًا للوحوش لتكسبنا بعض الوقت. أنت تدرك هذا، أليس كذلك؟”
لم يكن مخطئًا. مجرد وصوله إلى هذا المكان من العاصمة كان مجهودًا فادحًا، فضلًا عن أنه ما زال مصابًا بجروح خطيرة.
“…….”
التفت فينريك من حوله ليتأكد من عدم وجود من يسمع، ثم انحنى قليلًا وهمس في أذن زيغفريد:
“المقصود أن تراقبه. لا بد أنك تفهم.”
لم يُجب زيغفريد. لكنه كان يعرف صدق كلام فينريك. لو تصرف ديتريش، الممسوس بالجنون، بمفرده في هذا المكان، لجلب خطرًا أعظم على الجميع.
“يبدو أنك فهمت جيدًا.”
رفع فينريك رأسه من جديد بعد أن أنهى كلامه، فبقي زيغفريد ينظر إليه قليلًا قبل أن ينطق بحذر:
“يا دوق فينريك، هل ستتمكن حقًّا من إخراج السيدة بريسيبي؟”
“…….”
“هل أنت واثق…… من أنك ستكون بخير؟”
“أحيانًا، سواء كنت بخير أم لا، تكون الإجابة محسومة سلفًا.”
أجاب فينريك ببرود.
“وبالنسبة إلي، السيدة بريسيبي هي مثل ذلك الجواب.”
نعم. لقد كان الأمر كذلك منذ زمن بعيد. لذا حتى لو اضطررت أن أخاطر بحياتي، فلا مفر إلا أن أذهب.
وكان فينريك يتذكر بوضوح عيني فيدار المرتجفتين حين غرس فينريك سيفها في عظم ترقوته.
إذا صح حدسي.
فحينها، سيكون الأمر ممكنًا…… دون عائق.
وبينما كان فينريك يعقد عزيمته على ذلك، حدث ما لم يتوقعه.
“يا دوق!”
دخل كيفن فجأة إلى الخيمة.
“لقد وجدت شيئًا غريبًا.”
“غريب؟”
ناول كيفن يديه كتابًا صغيرًا.
وكان العنوان مكتوبًا بخط كبير على غلافه:
[كتاب الذاكرة]
تقلصت عينا فينريك قليلًا وهو يتفحصه.
“قد لا يكون ذا قيمة، لكنني وجدته بالقرب من المكان الذي كانت فيه السيدة بريسيبي.”
“…….”
“يبدو أنه كتاب، لكن لا عنوان له، وداخله فارغ تمامًا.”
بلا عنوان؟
……أيعقل أن كيفن لا يرى العنوان؟
“ووجدت بجواره هذا أيضًا…….”
أخرج كيفن شيئًا صغيرًا من جيبه وناوله إياه.
“كنت أنوي قتله بما أنه وحش صغير، لكن انظر إلى مخالبه.”
“شَعر…….”
“نعم. أليس لونه مطابقًا تمامًا لشعر السيدة بريسيبي؟”
نظر فينريك إلى المخلوق الصغير الذي كان في كف يده بوجه متسائل، بينما أخذ ريك يغرّد بوجه يفيض بالقلق والحنين.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 136"