التقت العينان، العيون البنفسجية الفاتحة لبريسيبي والعيون الحمراء، في الهواء.
“بريسيبي!”
ما إن دوّى صوته وهو ينادي اسمها حتى اندفع فينريك نحوها دون أدنى تردد.
“الدوق فينريك!”
ما الذي حدث؟ وكيف وصل إلى هنا بهذه السرعة؟ كان لديها آلاف الأسئلة لتسأله، لكنها لم تفكر في أي منها. كل ما شعرت به هو رغبة ملحّة بالوصول إلى فينريك الذي يقف أمامها الآن.
“…….”
لكن يد فيدار كانت أسرع من خطوات بريسيبي.
فجأة أطلق قبضته عن كتفها ومد يده. من كفّه انبثق ضباب أسود كثيف، يلتف حولها كما لو كان حاجزًا يحاصرها. أدركت بالفطرة أن لمس هذا الضباب لن يجلب لها شيئًا سوى الهلاك، وفهمت كذلك أن فيدار استخدم قوته ليقيدها في مكانها.
“فينريك.”
حدق فيدار في فينريك بعينيه الزرقاوين اللتين التهبتا بحدة مخيفة. كان في بريقهما غضب أشد مما أطلقه حين نظر إلى بريسيبي من قبل.
لقد كان قتلاً صافياً يتلألأ في عينيه.
“أجل. كل شيء انحرف بسببك.”
تمتم فيدار بصوت غارق في الظلمة، كأنه يلفظ لعناته.
“أنت كائن لم يمنحك هذا العالم أي دور، لا تساوي أكثر من حشرة تافهة. ومع ذلك واصلتَ أن….”
“لا أدري… لكنني لا أوافقك.”
رد فينريك وهو يحدق مباشرة في عيني فيدار، صوته ثابت وقاطع.
“أنا لست مثلك، فيدار.”
“أتراك الآن تفهم حدودك؟”
“لا، ما أعنيه… هو أنني مختلف عنك منذ البداية. أنت تتحرك فقط وفق ما هو محدد لك، كقيمة مبرمجة، غير قادر حتى على التحكم في مشاعرك. أما أنا…”
“……ماذا؟”
“على الأقل أنا اخترت بريسيبي بإرادتي. أنا اقتربت منها بقلبي.”
“…….”
“أما أنت؟”
إرادتي؟
أنا أيضًا وضعت بريسيبي في قلبي. أنا أيضًا اخترتها بإرادتي. لم يكن شيء من ذلك مفروضًا عليّ!
لكن رغم صرخاته الداخلية، كانت عينا فيدار الزرقاوان ترتجفان بعنف، كأن ما قاله فينريك قد اخترق قلبه.
“كائن بلا دور، حشرة تافهة؟”
قال فينريك ساخرًا، ابتسامة لاذعة تزيّن وجهه.
“إذن، وأنت الذي تعيش فقط لأداء دورك الممنوح، وتتحرك وفق ما رسم لك، هل تظن نفسك أفضل من حشرة؟”
ما الذي يقوله بحق السماء…
شحب وجه بريسيبي وهي تستمع إلى الحوار، قلبها يضرب بقوة.
هل كانا يعرفان؟ كلاهما؟
أن هذا العالم مصطنع؟ وأنهما شخصيتان بدور محدد سلفًا؟
منذ متى؟ وكيف؟
“الذي لم يفهم حدوده هو أنت، فيدار.”
“…….”
“إن كنت مجرد دمية تتحرك وفق ما وُضع لك، فبأي حق تقول لي تلك الكلمات؟”
شعر فيدار بشيء غريب يتغلغل في صدره. كان من المفترض أن لا تؤثر فيه طعنة سهم تافهة، ولا أن تنال من جسده أي جروح كهذه. ومع ذلك، سقط قلبه بثقل مدوٍّ، كما لو أنه هُوي إلى الأرض.
شعور بغيض، شعور أكثر إيلامًا حتى من إدراكه أن بريسيبي حاولت الهرب منه.
وربما كان ذلك لأن كلمات فينريك صدقت، ولأنه لم يجد أي حجة ليدحضها.
لكن مع ذلك، لم يكن فيدار مستعدًا للاعتراف بالحقيقة.
“…….”
انعكس وجه فينريك القابض على سيفه فوق عيني فيدار الزرقاوين.
في تلك اللحظة، تذكّر.
حين قتل إيفان وبدأ يهيم على وجهه، ثم التقى فينريك لأول مرة. يومها باح بالحقيقة: أن الهدف الحقيقي لبريسيبي هو الهرب من هذا العالم. حتى في ذلك اليوم، هاجمه فينريك. تمامًا كما فعل الآن، وهو يغرس السهم في صدره.
في هذا العالم لم يكن بوسع أيٍّ كان أن يؤذي فيدار، باستثناء فيدار نفسه. أما قدرة فينريك على مهاجمته فسببها كونه لم يعد خاضعًا لسلطة اللعبة. وكان من المؤكد أن فينريك يعرف تلك الحقيقة. لذلك كان يجرؤ على الاندفاع نحوه بلا أدنى ذرة خوف.
لكن… أنا أيضًا أستطيع قتلك.
تلألأت عينا فيدار بوميض قاتم.
“إن كان الموت أمنيتك… فسألبيها.”
ما إن انتهت كلماته حتى انطلقت من أعماق الغابة المحرّمة كائنات لا تُحصى من الوحوش.
حتى الفرسان الذين قضوا حياتهم في المعسكرات وسط الغابة المحرمة، وحتى فينريك الذي جاب ساحات القتال ضد الأعداء والوحوش، لم يرَ يومًا مثل هذا العدد.
“ت… تنين!”
“هذا مستحيل! صحيح أن التحركات في الغابة لم تكن طبيعية، لكن احتراقها بالكامل لم يمضِ عليه سوى أيام قليلة…!”
“تلك وحوش أسطورية من العصور القديمة! إن بقينا هنا فسنُباد عن آخرنا!”
انقلب المكان إلى ساحة فوضى عارمة.
الفرسان، والجنود الذين أرسلهم ديتريش من القصر، وجنود فينريك الخاصون، كلهم شُلّت أذهانهم من الرعب، أفواههم مفتوحة على اتساعها.
لكن لم يكن هناك وقت للذهول.
فالوحوش، ما إن ظهرت، بدأت بمطاردة البشر وقتلهم، فتناثرت الدماء في كل مكان.
وبينما كان الجميع يصارع للبقاء، تقدّم فيدار نحو فينريك بخطوات ثابتة بلا أي تردّد.
أنا قادر على قتل أيٍّ كان…
قبض فينريك على سيفه بيد متشنجة، عروقه بارزة، وهو يتمتم:
حتى لو كان ملك الشياطين نفسه.
رفع سيفه بسرعة وخطّه في الهواء، وفي الوقت ذاته مدّ فيدار يده.
كما في السابق، اخترق النصل الحاد جنب فيدار بدقة.
لم يكن معتادًا أن يتعرض لأي هجوم قط، لذا لم يفكر حتى في الدفاع عن نفسه. كان كل ما في قلبه هو قتل فينريك.
“…….”
حتى حين اخترق السيف جسده وخرج من الجهة الأخرى، لم يبعد فيدار خصمه. بل اقترب أكثر فأكثر. وحين غاص النصل إلى حد مقبضه في جسده، عندها فقط رفع فيدار يده التي لا تكف عن إطلاق الضباب الأسود، وأمسك بعنق فينريك.
كان يريد قتله بأقصى قدر من الألم. لا أن يقتله بسرعة بسحر يخنق أنفاسه، بل ببطء شديد.
غرز أظافره التي طالت في عنق فينريك وكأنه يريد كسر فقراته. تصاعد الدخان الحارق من جلده المحترق. تقاسمت ملامح فينريك آلامًا مريرة، لكنه ظل متماسكًا.
ولم يكن عزمه على القتل أقل من عزيمة فيدار.
ففي لحظة خاطفة، أخرج فينريك شيئًا من بين طياته، وغرز به أسفل عنق فيدار مباشرة.
وفجأةً أبدى فيدار رد فعل لم يتوقعه أحد… ولا حتى فينريك نفسه.
ارتسمت على وجهه ملامح ألم فادح، وجسده يتمايل بعنف. لم يحدث ذلك حين اخترق السهم بطنه أو حين مزّق السيف جنبه.
تطلعت عيناه نحو السلاح المزروع في جسده.
لم يكن سيفًا عادياً، بل خنجر صغير مرصّع بالأحجار الكريمة، يلمع ببذخ لا يليق أبدًا بفينريك.
“أنت…!”
اندفعت من بين شفتيه نصف المنفرجتين زفرة أشبه بزئير. وكما خرجت أظافره، برز من رأسه قرنان حادان، وتمددت حدقتاه كعيون الوحوش.
ازدادت موجات الضباب الأسود انتشارًا، وتدفقت من الغابة وحوش أعظم من ذي قبل.
“ل… لا….”
شحب وجه بريسيبي العالقة داخل الحاجز.
لم ترَ في حياتها فيدار يكشف عن حقيقته بهذا الشكل المرعب. بدا وكأنه غارق في جنون مسعور يلتهمه غضب لا يُحدّ.
إن استمر الأمر هكذا… سيموت الجميع.
ليس فينريك وحده، بل كل الأبرياء من حولهم أيضًا. لن ينجو أحد.
لو كان الخطر يهدد حياتها وحدها، لاحتملت أكثر. لكن الوضع لم يعد كذلك.
شعرت بجسدها يحترق كما حدث يوم اخترقت ألسنة النار التي أشعلها إيفان. تصاعد الدخان من ملابسها الممزقة، وتحولت أطراف ثوبها إلى رماد متطاير. الألم يعصف بجسدها.
وبشكل غريب انهمرت دموعها. لم تعرف إن كان ذلك من شدة الألم، أم من الدخان الذي لسع عينيها، أم لأن الوضع كله كان لا يُطاق… أو لأنها لم تستطع الوصول إلى فينريك رغم قربه منها.
“فيدار… توقف.”
اقتربت منه وألقت ذراعيها حول ظهره، تعانقه لتمنعه من المضي أبعد.
“أرجوك.”
“…….”
“سأعود إلى الغابة المحرمة معك… فقط توقف. أعد الوحوش من حيث جاءت، واترك الدوق والناس وشأنهم.”
“بريسيبي!”
دموعها انهمرت وهي تحدق بفينريك.
“كاذبة.”
أجابها فيدار بصوت مشبع بالغضب.
“لن أصدقك بعد الآن.”
“أرجوك…”
“…….”
“أرجوك، مرة واحدة فقط…”
صرير أسنانه طغى على صمته، بينما فكر: هل ستتخلين عني مرة أخرى؟ هل ستهربين مجددًا لتنادين اسم فينريك كما فعلتِ آنفًا؟
شعر بألم غريب يمزق قلبه، لم يعرف له مثيلًا طوال حياته الطويلة. ربما لأنه لم يتجرع مثل هذه الضربة القاتلة من قبل.
لكن لم يكن فينريك وحده في مأزق.
إذ بعد أن تمايل واقفًا، أمسك فيدار بكتفي بريسيبي بعنف، واحتواها بين ذراعيه، ثم اختفيا معًا وسط الضباب الأسود الكثيف.
كل ذلك جرى في طرفة عين.
“هاجموهم! اقتلوا الوحوش! علينا حماية هذا المكان مهما كان الثمن!”
“سوف يصل القائد والإمبراطور قريبًا! ومعهم الكهنة! اصمدوا!”
لكن عددًا كبيرًا من الوحوش ظل يملأ المكان، وصيحات الرعب والاستغاثة دوّت في القرية المضرجة بالدماء.
وفي خضم تلك الفوضى، وقف رجل واحد ساكنًا لا يتحرك.
فينريك.
لقد فهم سبب رحيل بريسيبي مع فيدار. وفهم أيضًا أن ذلك ربما كان الخيار الأكثر حكمة.
على عكسه، بريسيبي لم تكن من النوع الذي يضحي بالآخرين.
ولهذا ساعدته في أول لقاء بينهما.
لكن شعور الخسارة، وهو يراها تُسلب من بين يديه مرة أخرى، كان مروّعًا.
“دوق فينريك، نحن…”
اقترب منه بعض الفرسان الملطخين بدماء الوحوش، وجوههم مصدومة.
“ماذا… ماذا رأينا للتو؟”
“…….”
“ما الذي كان ذاك المخلوق؟”
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 133"