“… فيدار.”
توقف فينريك عن الكلام، وحدّق بفيدار وهو يلهج باسمه.
لكن فيدار لم يُبدِ أي رد فعل. كل ما فعله هو النظر إلى فينريك بعينين غامضتين لا يمكن قراءة ما بداخلهما.
كانت نظرته، على غير العادة، وكأن تركيزه تلاشى، أو أنه شارد الذهن.
ترك فينريك لجام الحصان من يده. قفز من على صهوته، وتأكد من السيف المعلّق على خاصرته، ثم تقدّم ببطء نحو فيدار.
“ما الذي فعلته بحق الجحيم؟”
ثم سأله:
“لماذا قتلت إيفان بتلك الطريقة؟”
لكن فيدار لم يُجب، وما زال يحدّق فيه بنفس النظرة الشاردة قليلًا.
كان الأمر غريبًا. فقد توقّع فينريك منه أن يطلق كلماته الملتوية المعتادة ويبتسم ابتسامة ساخرة.
لم تكن هذه هي الاستجابة التي انتظرها، مما جعل فينريك يلتزم الصمت ويراقبه وكأنه يحاول فهمه.
وبعد مرور وقت ليس بالقصير، حرّك فيدار شفتيه أخيرًا، وبصوت منخفض جدًا:
“… لأنني غضبت.”
“ماذا؟”
“غضبت.”
أي هراء هذا؟ عقد فينريك حاجبيه دون وعي، لكن فيدار ظل محتفظًا بنفس الملامح الشاردة وكأنه فاقد التركيز.
“كنت أظن أن الأمور تسير وفق إرادتي…”
“…”
“لكن ربما… لم تكن إرادتي في الأساس.”
كان يبدو وكأنه شخص واقع تحت تأثير المخدرات. لم يرَ فينريك فيدار بمثل هذه الحالة من قبل، فحدّق فيه بدهشة.
لكن ذلك لم يدم طويلًا.
فعلى عكس وجه فيدار المليء بالشرود، كانت عينا فينريك تلمعان باليقظة والحذر، قبل أن ينطق ببطء:
“لقد كنت تُخفي هويتك.”
مجرد وحش عادي؟ أطلق فينريك ضحكة ساخرة وكمل:
“ملك الشياطين… الذي كان موجودًا في الغابة المحرمة منذ آلاف السنين.”
كان فينريك واثقًا تمامًا من حقيقة هوية فيدار.
فلو لم يكن ملك الشياطين، لما استطاع قتل ساحر عظيم مثل إيفان بهذه الطريقة.
لكن كانت هناك نقاط لا يفهمها.
“لماذا ساعدتني؟”
“…”
“ما هدفك الحقيقي؟”
“بريسيبي…”
لكن ما خرج من فم فيدار لم يكن إجابة على السؤال.
“هل تعرف بريسيبي أيضًا؟”
“ماذا؟”
“حقيقتي.”
تذكّر فينريك أن فيدار سأله نفس السؤال من قبل.
حين سأله إن كان في دم بريسيبي دماء وحوش.
وقتها أيضًا، سأله إن كانت بريسيبي تعرف ذلك.
… فجأة، تجمّدت ملامح فينريك وهو يحدّق في فيدار ببرود.
ثم، في لحظة خاطفة، سحب فينريك سيفه بسرعة من خاصرته.
“أخبرتني في ذلك الوقت… أنني أستطيع الآن قتل أي أحد.”
حدّقت عينا فيدار الزرقاوان الشاردتان في فينريك.
“وأنت أيضًا كذلك.”
“…”
“لا فرق بيننا، فيدار.”
على وقع الكلمات المهددة، ارتسمت على وجه فيدار ابتسامة باهتة، وكأنه يسخر.
تقتلني؟ كيف؟
فلولا مساعدته، لما استطاع فنريك حتى الاقتراب من بريسيبي في حياته كلها.
حتى لو قتل أَتاري هانان بمساعدته، وقتل نواه دفيرن، فما قيمة ذلك؟
مقارنةً بشخصيات ثانوية تافهة، فإن البطل الحقيقي – أي فيدار – كان يمتلك قوة من مستوى آخر تمامًا داخل اللعبة.
وفوق كل ذلك، كان فيدار أقوى كائن في هذا العالم الخيالي. لم يكن أحد قادرًا على قتله أو حتى إيذائه.
هكذا كُتب في إعدادات القصة.
فمن يقتل من؟ وبأي طريقة؟
“لا، أنت لا تستطيع.”
ابتسم فيدار بسخرية وهمس:
“لن أسمح لك بذلك.”
فأنت مجرد شخصية ثانوية عاجزة عن فعل أي شيء دون إذني.
حتى اقترابك من بريسيبي كان بفضل سماحي لك بذلك.
أن تتحدث معها، أن تقترب منها، أن تصبح شخصًا مهمًا لديها…
أن تجرؤ…
في تلك اللحظة، امتلأت عينا فيدار الشاردتان بمشاعر واضحة وحادة.
“سألتني عن هدفي الحقيقي… أليس كذلك؟”
هبط صوته على الشارع بصدى مظلم وبارد:
“أن أعيد كل شيء إلى البداية.”
“ماذا…؟”
“لأعيد الجميع إلى أماكنهم الأصلية… كما كانوا.”
كما حُدد في القصة الأصلية.
صحيح أن الأوضاع لم تعد تسمح بعودة الأحداث إلى مسارها الأصلي تمامًا، لكن طالما عاد الجميع إلى أدوارهم، فما أهمية الكيفية؟
هكذا فكّر فيدار.
“انتهت فائدتك بالنسبة لي.”
امتدت يد فيدار البيضاء، الملطخة بآثار الدم اليابس، بسرعة نحو فينريك.
“يعني أن هذه اللعبة السخيفة انتهت الآن، فينريك.”
كانت أبسط طريقة.
قتل فينريك، ثم الحصول على بريسيبي.
“…”
أمسك فيدار بعنق فينريك. ومع ضغط قبضته، قطّب فينريك حاجبيه محاولًا المقاومة.
وسرعان ما بدأ دخان أسود يتجمع عند أصابع فيدار، ينبعث منه لهيب حارق قادر على شوي الجلد حتى العظم، كما حدث مع إيفان.
انعكس السخرية في عيني فيدار الزرقاوين وهما تحدقان في فينريك.
مهما تظاهر بالكلمات القوية، كان فينريك بالنسبة له مجرد حشرة ضعيفة لا حول لها.
حتى لو حاول المقاومة، فلن يستطيع أبدًا أن يتغلب عليه.
لكن في تلك اللحظة تمامًا…
وبينما كان فينريك يعض على أسنانه متحملًا الألم، رفع سيفه بكل قوته وضرب فيدار.
“أه…”
مع شعور غريب بالألم، أفلت فيدار عنقه بلا وعي، ثم نظر إلى أسفل بذهول.
وتحديدًا، إلى جانبه الذي اخترقه سيف فينريك بالكامل، نافذًا من جلده السميك إلى الخارج.
“…”
كانت عينا فيدار، وهو يحدق في الجرح الذي يتدفق منه الدم بغزارة، تحملان الكثير من الاستغراب.
لم يكن القول إنه لم يُصب بأذى من قبل صحيحًا على الإطلاق.
فخلال انتظاره لآلاف السنين كائنًا لا يعرف حتى من ينتظر، وقد أنهكته الوحدة والعزلة، أقدم على قطع عنقه بيديه، وشق جلده بمخالبه الحادة ليستخرج أحشاءه.
لكن أن يؤذيه شخص آخر، لا نفسه، فذلك كان لأول مرة.
“لماذا…؟”
أمام هذا الهجوم المفاجئ، كان الشعور بالريبة أقوى من الألم.
كيف يمكن أن يحدث هذا؟
ولأي سبب؟
وسرعان ما أدرك فيدار الإجابة.
لقد كان فيدار أقوى كائن جرى ضبطه داخل اللعبة، بحيث لا يستطيع أحد قتله أو حتى إيذاءه.
تلك كانت القيم المبرمجة في اللعبة.
لكن فينريك لم يعد خاضعًا لتأثير اللعبة منذ اللحظة التي استعاد فيها وعيه بفضل بريسيسبي، وحتى الآن.
“ها…”
تسللت ضحكة ساخرة من بين شفتي فيدار المتفرقتين قليلًا.
لقد علّم كائنًا يملك وعيًا، مثله، كيف يحصل على السلطة داخل اللعبة، وسرّب له المعلومات.
… أليس من الممكن أنني ارتكبت حماقة شديدة؟
“…”.
مدّ فيدار يده ببطء، وأمسك بحزم سيف فينريك الحادّ. كان الدم يقطر من أطراف أصابعه المقطوعة بفعل النصل، لكنه لم يكترث لذلك على الإطلاق.
وبعد أن انتزع السيف المغروس في جسده، نظر مباشرة في عيني فينريك.
[إذن، هل ستبكي بنفس الطريقة إن أصيب إيفان أو ديتريش أو زيغفريد؟]
[بالطبع لا. هؤلاء ليسوا أشخاصًا عزيزين عليّ. الأمر مختلف مع الدوق فينريك.]
عندها، مرّ بخاطره وجه بريسيسبي وهي تبكي بحرقة أمام فينريك المصاب.
تُرى، هل ستبكي اليوم أيضًا؟
وهي تحدق في ذلك العنق؟
بينما تنظر إلى رقبة فينريك المحترقة بيديها، عضّ فيدار شفته بقوة.
… إذن، ماذا لو فعلت الشيء نفسه؟
ماذا لو قلدت ما فعله فينريك بالضبط؟
هل ستنظر إليّ وتبتسم حينها؟
فجأة شعر بغضبٍ جارف.
كيف يُسلب شيء كان ملكي في الأساس على يد كائن تافه كهذا؟
كان ينبغي أن تقلق عليّ أنا، وتبكي من أجلي أنا، لا من أجله…
المشاعر القبيحة، الملتوية أصلًا، راحت تلتف أكثر فأكثر لتبتلعه.
ربما لهذا السبب أراد أن يزرع اليأس في فينريك.
ذلك الذي لا يعرف أي شيء معرفة صحيحة، ولا يدرك قدر نفسه، ويستمر في تحديه بلا توقف.
كما أراد أن يخبره.
يخبره بالحقائق التي لم يدركها مطلقًا.
حتى يستوعب فينريك موقعه الحقيقي بشكل أفضل.
“مهما رغبت، لن تستطيع أن ترتبط ببريسيسبي.”
“ماذا؟”
“الهدف الحقيقي لبريسيسبي ليس هذا.”
الهدف الحقيقي؟
… إذن، لم يكن هدفها التخلص من التكرار المستمر والمعاناة التي سببتها الشخصيات الذكورية؟
اهتزّت عينا فينريك الحمراوان بعنف.
وفي تلك اللحظة تحديدًا، واصل فيدار كلامه بوجه يفيض بالسخرية:
“بريسيسبي ستتخلى عن هذا العالم.”
“…”
“سترحل عنه إلى الأبد.”
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 112"