0
المُقدمة تخص وجهة نظر البطل : “القمر يحتضن في صمته أربعة مليارات عام، محافظًا على ملامحه الأولى كذاكرة أبدية لم تُمسّ بيد الزمن.”
تسلّلَت تلك العبارة إلى ذهني بغتةً، فدوّنتها فوق دفتري بخطٍّ عابر قبل أن يفلت القلم من أصابعي. انحنيت لالتقاطه عن الأرض، وحين رفعت رأسي لمحت زميلي يرمقني باستفهام، فاكتفيت بهزّ يدي إشارةً إلى أنّ الأمر لا يستحق، ثم نهضت من مكاني.
“إلى أين تذهب؟”
“إلى السطح قليلًا… أحتاج لبعض الهواء.”
غادرت المكتب. تراكمت ليالٍ طوال من السهر والكدّ حتى تيبّست رقبتي وثقُل رأسي. المصعد عالق في الطابق السفلي الثاني، ففتحت باب مخرج الطوارئ وبدأت أصعد السلالم ببطء. عادت تلك الجملة لتطرق رأسي مجددًا:
“القمر يحتضن في صمته أربعة مليارات عام، محافظًا على ملامحه الأولى كذاكرة أبدية لم تُمسّ بيد الزمن.”
‘آه… نعم. أظنّها كانت من كتاب لتيموثي فيريس.’
‘ربما كانت من كتاب الزمن الذي نشعر فيه بالكون… ما زلت أستحضر غلافه بوضوح؛ صورة ظلّ رجلٍ مستلقٍ في سكينة، يحدّق في الأفق حيث تتلألأ نجوم الليل. ذلك المشهد البسيط كان يوقظ في داخلي غيرة دفينة، غيرة من قدرته على الانغماس في سكون الكون، بينما كنت أنا أسيرًا لإرهاق السهر، مُثقلاً بصداع الأيام وليالي العمل التي لا تنتهي.’
هناك، في أمريكا، بدأت مشروعًا برفقة قلة من الزملاء الذين جمعتني بهم رؤية مشتركة. نلنا بعض النجاح، فأقدمت على توسيع نشاطنا في كوريا. لم يمضِ على عودتي سوى نصف عام، وما زال الأساس هشًّا هنا. في أمريكا كانت العقود الكبرى تتهادى إلينا، أما هنا فالأمر أشبه ببدايةٍ من الصفر. لم يعد ثمّة وقتٌ للنوم… بالكاد أجد وقتًا للطعام.
فتحت باب السطح فاندفع الهواء إلى وجهي. وخزني الغبار المتطاير في عيني. عبر الطريق، كان عمّال يكسون واجهة بناء، ولعله من هناك تطاير الغبار.
أترى… هل يملك القمر غبارًا شبيهًا بما يتطاير هنا على وجهي؟
سؤال غريب تسلّل إلى عقلي المرهق، كأنّه وليد سهرٍ طويل. أسندت ذراعي إلى درابزين السطح، وأرخيت جسدي للريح.
يُقال إنّ تربة القمر لا تبلى إلا بميليمتر واحد كل خمسين مليون عام. ميليمتران في مئة مليون سنة… وعلى امتداد أربعة مليارات، لم يخسر القمر سوى ثمانية سنتيمترات.
ثمانية سنتيمترات فقط، هي كل ما نُحت من صمته الأبدي، وكل ما انتزعته الأزمنة من جلده الحجري، بينما ظلّ باقي ملامحه شاهدًا أزليًا على أول فجرٍ للكون.
“ثمانية سنتيمترات… هكذا إذًا؟”
حرّكت إصبعي السبابة والإبهام محدّدًا الفجوة. ثم ابتسمت بسخرية: ما الذي أفعله بحقّ !! ومع ذلك، بدا لي أنّ ثمانية سنتيمترات ليست بالقليلة كما يخيَّل.
قيل إنّ القمر لا يعرف ماءً ولا ريحًا ولا هواءً، فلا تعرية تكاد تمسّه. غير أنّني، وأنا أحدّق في الفراغ بين سبابتي وإبهامي، شعرت أنّ تلك الحقيقة أقرب إلى الوهم. فالقمر لم يكن ساكنًا بالكلية؛ حتى وهو هناك، بعيدًا بلا شاهد ولا ساكن، ظلّ يصمد وحده في وجه الزمن، يفقد طبقةً طبقة، ويقذف فتات عمره إلى أعماق الفضاء.
‘أنا أحبّ ذلك، حقًا.’
تردّد في أذني صوت طفوليّ، مرتجف، كأنّ الريح تحمل همسَه.
‘تخيّل أننا حين ننظر إلى النجوم، نرى أضواءً عمرها مئات السنين… وأننا نرى المجرات كما كانت قبل ملايين السنين… أن الماضي بأسره يجلس معنا في هذه اللحظة. أليس هذا مدهشًا لحدّ القشعريرة؟’
لم تكن تلك الطفلة كثيرة الكلام. على عكس شقيقتها التوأم، كانت خجولة، قليلة الحديث. لذلك ظلّ ذلك اليوم عالقًا في ذاكرتي بخصوصيّة. يوم مررنا صدفةً على مكتبةٍ بعد المدرسة، فالتقطت كتابًا في الفلك للمراهقين، وما لبثت أن التفتت إليّ بعينين متلألئتين، تثرثر عن النجوم والمجرات كأنها هي ذاتها جزء منها. نعم… عيناها كانتا تشبهان النجوم التي تحدّثت عنها.
سيو دونغ-أون.
انتشلتُ اسمها من أعماق الذاكرة. تمتمت به مرارًا دون صوت، ثم حاولت طمره من جديد.
ومع ذلك، ما زالت تتسلّل إلى أفكاري بلا إذنٍ ولا موعد، كطيفٍ عنيدٍ يرفض الغياب. أحيانًا يكفي أن تلمح عيني عصابة شعر زهيدة على رصيفٍ عابر، أو أن يذوب في فنجان قهوتي الأمريكيّة خيطٌ من السكر، حتى ينهض اسمها في داخلي. لا أعلم ما الذي يربطها بتلك التفاصيل التافهة، لكن الذكريات، كعادتها، تأتي متنكرةً في أثوابٍ غريبة.
واليوم لم يكن مختلفًا. ما بدأت بكتابة جملة عن القمر، حتى وجدتني أبعثر الحروف وأتوه في متاهة ذكراها. وربما لأنني عدت إلى كوريا—إلى أرضٍ ما زالت جذور صورتها ضاربة في تربتها—صار هذا الحنين أثقل، أشبه بصخرة معلّقة في صدري
راودني فجأة شوقٌ لرؤية القمر. لكنّه لن يطلع قبل سبع ساعاتٍ على الأقل. أخرجت هاتفي وبحثت عن صور: بدرٌ كامل، نصف قمر، هلال رفيع… صور متدفّقة لا تنتهي.
“سيو دونغ-أون… دونغ-أون.”
ناديت اسمها كما لو كنت أهمس به بعد غياب عشر سنوات. جال الاسم في فمي كحبّات رملٍ خشنة. ذاكرة لم تُمحَ، وبقايا مشاعر تتشبّث بي كما تتشبّث الأشباح بالمكان.
تلك كانت حكاية حبّي الأول… حبٌّ لم يكتمل حتى باعترافٍ صغير، وانتهى قبل أن يبدأ. ذكرى في السابعة عشرة، حلمٌ لم يكتمل وكابوسٌ ما زال يترك ندوبه.
كان ينبغي لتلك الذكريات أن تتبعثر مع الزمن، أن تتلاشى كالغبار في مهبّ السنين. لكن لماذا ما زلت أستحضرها بهذه الحِدّة؟ لماذا أعجز عن محوها بالكامل، وكأنني عالق في أروقة ذلك العمر، أهيم في دهاليزه، لأصطدم بوجهها في كل منعطف؟
كأنها غدت جزءًا من كياني… ما إن يخطر لي عمر السابعة عشرة، حتى تتجسّد أمامي طيفًا حيًّا، يلمع كالوهم العالق بين الضوء والظلال.
‘دونغ أون… هل أنتِ بخير الآن؟’
ربما كان الغبار العابر مع الريح هو ما وخز عينيّ، أو لعلّها دمعة اشتعلت من عمقٍ قديم.
‘أخبريني… هل صرتِ بخير؟’
كنت أعلم أن لا جواب سيصلني، ومع ذلك ظللت أكرّر السؤال لذلك الطيف الذي يلوح أمامي. عادةٌ قديمة رسخت بي على مدى عشر سنوات مضت.
‘ستكونين بخير… لا بد أن تكوني بخير. أما سمعتِ؟ حتى القمر، على مدى أربعين مليار عام، خُدش بثمانية سنتيمترات فحسب. فكيف بكِ أنتِ؟ لا بد أن الزمن قد صقل جرحكِ، وخفّف عنكِ وطأة الكابوس، كما لو كان ينحت صخور القمر ببطء، تاركًا أثرًا لا يُمحى لكنه أقل وجعًا.’
صريرٌ مفاجئ قطع خلوتي… كان صوت باب السطح الصدئ يُفتح، يتبعه صوت زميلٍ صعد ليدخّن. بادرني بكلماتٍ عابرة، وأخذ يُلقي بنكاتٍ صغيرة. هززت رأسي مبتسمًا وأغلقت صورة القمر التي كنت أحدّق فيها بهاتفي.
ومع ذلك، لم أستطع نفض ما التصق في صدري من بقايا العاطفة. عشر سنوات مرّت… وما زال الحنين يثقلني كأوّل مرّة.
“ربما لهذا… يسمّونه الحبّ الأول.”
ابتسمت ابتسامة باهتة على مزحة زميلي، ثم رفعت بصري إلى السماء. لم يكن وقت القمر قد حان بعد.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 4 - السبب الذي يجعل الرياح تهب 2025-08-28
- 3 - ضوءٍ وسط العتمة 2025-08-28
- 2 - بوحٌ خلف الشفاه 2025-08-28
- 1 - كيف نتذكّر أصوات العالم؟ 2025-08-28
- 0 - 0- -يسمّونه الحبّ الأول 2025-08-28
التعليقات لهذا الفصل " 0"