3
كم مرّةً من قبل أحسستُ أن الزمن لا يركض بل يطير، يندفع كسهمٍ يخترق الهواء بلا رحمة؟
وها هو اليوم الموعود، يوم التوقيع، يهجم عليّ فجأة كعاصفةٍ لم تمنحني فرصة لالتقاط أنفاسي. رفعت بصري نحو اللافتة العملاقة التي ازدانت بها القاعة، وقد كُتب عليها بخطٍّ عريض يتلألأ:
“الكاتبة الغامضة، أمّ كروكو، سوبوم… تظهر أخيرًا أمامكم اليوم!”
في اللحظة التي استقرت فيها عيناي على تلك الكلمات، اهتزّت روحي ارتجافًا، واضطربت معدتي كما لو أن غثيانًا يزلزل أعماقي، فوضعت كفّي على صدري أستجدي سكينةً تهدّئ خفقان قلبي المرتعش.
لقد ظللتُ أقنع نفسي على مدى أيامٍ طويلة أنني جاهزة، أنني أحكمت بناء قلعةٍ من عزيمةٍ وصلابةٍ حول قلبي. لكن ما إن خطوت عتبة القاعة، حتى غمرني بردٌ داخليّ لاذع، جمد أنفاسي، وقبض على صدري كقيدٍ من جليد. تجمّدت أطرافي كأنني تحوّلت إلى تمثالٍ هشٍّ من ثلج، عاجزةً حتى عن مدّ يدي لألتقط قناع “كروكو” الذي ناولني إياه نائب المدير، جانغ هان.
هناك، كان التمساح الصغير، كروكو، يبتسم لي ببراءة، كاشفًا عن أنيابه الطفولية الظريفة، غير مدركٍ لارتباكي الموجع. حدّقتُ فيه طويلًا، وكأنني أستمدّ من ابتسامته قوةً خفيّة، ثم مددت يدي المرتجفة وأخذت القناع. وما إن استقرّ بين أصابعي حتى انطفأت ابتسامته الكرتونية، وانكمش وجهه الضاحك في قبضتي كأنّه يعبس بيأسٍ مكتوم.
“آه… سامحني.”
همستُ بخجلٍ وأنا أبسط قبضتي، أمسح برفق على القناع الملتوي حتى يعود إلى صورته الأولى. وفي تلك اللحظة، شعرت بيدٍ تربّت بخفّة على كتفي. التفتُّ، فإذا بنائب المدير جانغ هان يبتسم إليّ ابتسامةً هادئة، كانت نظرة عينيه تضجّ بالطمأنينة كأنّه أبٌ يشاهد طفله يخطو خطوته الأولى. اجتاحتني رعشةٌ من الخجل الممزوج بالامتنان.
[لا تقلقي. لقد أعلنّا للزائرين أن من أراد أن يوجّه للكاتبة كلماتٍ، فليخطّها على هذه البطاقات… وهي ستجيبه.]
وضع بين يدي بطاقةً أنيقة، بديعة التصميم، على هيئة بطاقة بريدية، كانت ضمن الهدايا التي ترافق كتابي الجديد.
آه… وكيف لا أرتجف وقد كانت هذه هي العقدة الكبرى في حياتي؟
التواصل… الحديث… تلك الجدران التي تبنيها حولك وحدتك، ولا تتركك تعبر. كنت ممتنّة للقناع الذي يحميني، لكنه لم يكن كافيًا ليذيب عقدة الكلام.
ذلك هو الرعب الحقيقي الذي يسكنني: أن أعجز عن فهم ما يقوله قرّائي، وأعجز عن ردّ كلمةٍ واحدة، فأغدو مجرّد آلةٍ تترك توقيعًا باهتًا على الصفحة الأولى… بلا روح، بلا حياة.
قضيت ليالي طويلة أقاوم هذا الخوف بصمتٍ مرير، أخفي ارتباكي عن نائب المدير، لا أرغب أن أبدو ضعيفة وقد اخترتُ بنفسي مواجهة هذا الامتحان. لكنه اليوم، قدّم لي خيط خلاص لم يخطر بذهني، فتح لي نافذة لم أتجرأ أن أتخيّلها.
وفجأةً، ارتسمت أمامي صورتي بوضوح، كأنني سجينة في قفصٍ يشبه ذاك الذي حُجز فيه كروكو من قبل. غير أنني، بخلافه، لم أحاول حتى الهروب. اكتفيت بأن أظلّ قابعة، متجمدة، أراقب الأيام تمضي أمامي كظلال عابرة.
“آن لكِ أن تخرجي يا كاتبة بومي!”
ارتفع صوت نائب المدير جانغ هان، كصوت مستكشفٍ ينادي رفيقه من خلف الأسوار، واقفًا أمام قفصي الوهمي، واضعًا يديه على خاصرته، يهتف بحماسةٍ تشقّ قلبي. هززتُ رأسي بعنفٍ، غارقة في رعبٍ لا يلين. فلوّح هو بحبل النجاة، وألقاه إليّ.
“امسكي بالحبل.”
سمعت صوته الواثق يخترق ارتجافي. نظرت إلى كفّي المرتعشة التي كانت تعبث بالقناع، وفكّرت: لو أمسكت بالحبل، فإن راحتي ستُجرح، ستنزف وهي تحتكّ بخيوطه الخشنة… لكن ما من سبيل آخر للخلاص.
[…]
اقتربت طفلة صغيرة، تحمل بطاقة بين يديها، وعيناها تلمعان كنجمتين. سألتني ببراءةٍ مشاكسة:
[كروكو ولد، صحيح؟ لكن جايهيون يقول إنه فتاة لأنه ليس لديه شيء هناك! فتشاجرنا.]
ابتسمتُ تحت القناع وأجبتها هامسةً كأنني أفضي بسرٍّ مقدّس:
[كلام جايهيون صحيح، وكلام يونسو صحيح أيضًا. لكن لا تخبري أحدًا… كروكو يمكن أن يكون هذا أو ذاك، الأمر يعود لكِ كيف تريدينه أن يكون.]
اتسعت عيناها دهشةً كقطرتين من ضوء، ثم أومأت برأسها وقد بدت مقتنعة، فتنفستُ الصعداء.
مرّت ساعات التوقيع بسلامٍ لم أتوقّعه. كان الأطفال أكثر هدوءًا مما خشيت، ورغم أن بعض الأمهات أبدين ضجرًا خفيفًا، فقد ظلّ الجو مقبولًا. أما موظفو دار النشر، فانعكست على وجوههم ابتسامات ارتياح.
ورغم أن العرق بدأ يتجمع على جبيني تحت القناع، فقد كان قلبي يتمسّك بأملٍ واحد: أن تنتهي هذه اللحظة دون كارثة. انحنيت قليلًا، أحيّي بابتسامة خفيّة طفلة وأمها تقدمتا نحوي… لكن القدر كان يخبّئ صاعقته.
طفلٌ صغير دفع الطفلة جانبًا، وقفز على الطاولة، مدّ يده بخفةٍ جامحة يريد أن ينزع القناع عن وجهي. ارتددت للخلف في حركةٍ لا إرادية لأحمي قناعي. كان يمكن أن يُعدّ الموقف طريفًا… لولا أنّ الطفل فقد توازنه، وسقط رأسًا نحو الأرض.
“……!”
تجمّد صوتي في حنجرتي، وانطلقت من فمي شهقة مختنقة. ارتطم جسده بفخذي للحظة، قبل أن يهوي إلى الأرض بقوة، دون أن يسعني أن أمدّ يدي لأمسكه. أصابني الذعر بشللٍ مطبق، فلم أفعل شيئًا سوى أن أحدّق فيه بعيونٍ متسعة.
وقع رأسه أولًا، وإذا بدماءٍ حمراء تنزف من مؤخرة رأسه. ما إن رأيت الدم حتى تعكّرت رؤيتي، وانحبس نفسي في صدري. رفعت يدي بجنونٍ إلى عنقي، فيما دفعت الأخرى كومة البطاقات المتناثرة على الطاولة فتساقطت أرضًا كأوراقٍ هائمة.
ثم دوّى بكاء الطفل كعاصفةٍ تمزّق جدران القاعة. لم أسمعه كاملًا، لكنني شعرتُ بارتجاج صراخه يخترق عظامي. رفع يده المرتجفة إلى رأسه، فإذا بكفّه تتلوّن بالدم، فشهق بذهول وأطلق صرخة حارقة كسهمٍ مزّق قلبي.
تدفّق الحاضرون من كل جانب، وأُزيحتُ جانبًا وسط الفوضى. رأيت الأم وجهها قد شحب كقطعة ثلج، يكسوه الرعب والتيه. ورأيت نائب المدير جانغ هان يهرع مسرعًا وهو يحمل الطفل بين ذراعيه، خارج القاعة. الموظفون ارتبكوا، هرعوا في محاولةٍ لاحتواء الموقف، لكن الفوضى انفجرت. الأمهات صرخن، يلوّحن بأيديهن احتجاجًا وغضبًا، والأطفال اندفعوا بين الأرجل يثيرون صخبًا عارمًا.
أما أنا… فلم أجد ما أفعله إلا أن أطبق بيدي على وجهي خلف القناع، وأحني كتفيّ، منكسرةً تحت ثقل العاصفة التي اجتاحت عالمي.
هل كنتُ أنا يا ترى اليد التي هدمت كل شيء؟
أما كان يكفيني أن أبقى صامتة، متوارية خلف الكتاب، راضية بالقليل، بلا طمعٍ ولا اندفاع؟
بقعة الدم، تلك التي سالت من رأس الطفل البريء، ما زالت تلمع على الأرض كوصمةٍ أبدية. وحولها أوراق البطاقات البريدية، مبعثرةً كأسرار مفضوحة، أوراقي أنا… التي انزلقت من بين يدي لتشارك سقوطها في فضيحتي.
كيف أرفع عيني في وجه نائب المدير جانغ هان، أو في وجوه أولئك الذين مدّوا إليّ قلوبهم قبل أيديهم؟ رجال ونساء حملوا عني أعباءً لم يكونوا مضطرين إليها، فقط لأن إعاقتي فرضت عليهم جهدًا مضاعفًا… وها أنا الآن أرى عطاءهم يتبخر، كأحلامٍ لم تولد أصلًا. كيف لا تمزّقني الحسرة إربًا؟
كرهت نفسي. كرهت عجزي الذي يطوّقني كسلاسل صدئة. في قلب الفوضى، لم يكن بوسعي أن أصنع شيئًا، سوى أن أظل واقفةً أراقب موظفي الدار يركضون كطيور مذعورة، يحاولون جمع ما تناثر من كبريائي المكسور.
“كاتبتنا… هل أنتي بخير؟”
صوتٌ اخترق الضوضاء كنسمةٍ مشبعة بالقلق. كان أحد الموظفين، عيناه تبرقان بالاهتمام. أومأت برأسي، وابتلعت خجلي. وما إن اطمأن إلى سلامتي حتى جثا بجانبي يلتقط البطاقات. قلبي لم يحتمل… جثوت بدوري أمد يدي لألتقط معه. لكنه لوّح بكفّه رافضًا.
دعني على الأقل… أفعل هذا.
في أذني الميتتين انسابت وشوشات كالأفاعي. “لماذا هي هنا؟” “ما الذي تفعله؟” لعنات أوهام… لكنني كنت أعلم أنها حقيقة تسكن في عيون الآخرين. ترددت في رفع بصري خشية أن أجدها تفضحني.
وفجأة، يدٌ صغيرة اندست بين يديّ، وانتزعت قناع “كروكو” عن وجهي. ارتجفت. ارتفع رأسي من غير وعي.
أطفالٌ يصرخون نحوي، والهواء يلتوي حولي كما لو كنت محاصرة في فقاعة هلامية خانقة. فتحت فمي… ولا صوت. حاولت الإصغاء… ولا شيء.
لكنني أدركت الحقيقة: لم يكن هناك هلام.
إنها إعاقتي، هي التي خنقتني. عجز السمع الذي علّمني أن أنسى كيف يُنطق الكلام. كل أعذاري لم تكن سوى ستار هشّ.
ومع وهج البياض الذي بدأ يبتلع بصري، فجأة امتدت يدٌ قوية وقبضت على معصمي، تجرّني من الظلام إلى أنفاسي.
“آه…!”
شهقت شهقة كمن يبتلع الحياة من جديد. حدّقت في اليد التي أمسكت بي: يد رجل. أصابع طويلة، عروق زرقاء تبرق تحت جلده. رفعت نظري ببطء…
وتوقف قلبي.
عشرة أعوام من الزمن تدحرجت دفعة واحدة، ارتطمت بي كصخرة تسحقني. دوار اجتاحني، ورعشة ارتجفت في يدي الأسيرة بقبضته.
يا إلهي….
مددت يدي بخوف أبحث عن القناع لأخفي وجهي، لكنه سبقني. أمسك بمعصمي الآخر، وقال، ووجهه يتلوّى بالانفعال:
“دونغ-أون! سيو دونغ-أون… أليس أنت؟!”
وتوهمت أنني أسمع صوته! نعم… صوته كما كان في السابعة عشرة، حين كنا نتقاسم أسرار الصيف. لقد تغيّرت نبرته، صارت أكثر رجولة بعد البلوغ، لكن ظلّ الطفولة لا يزال يلوّنها… إنه صوته.
صوت ريو دونغ هوا.
شيء ما انفجر في صدري، كاد يقتلعني من جذوري. نزعت يدي بقوة، وقمت كمن يهرب من ماضيه.
وووووش——
صوت المطر دوّى في أذنيّ. بلحظة وجدت نفسي قد ارتددت عشر سنين كاملة. مطر غزير يجلد الأرض، وصفارات الشرطة تمزّق الهواء.
وكان هو… دونغ هوا… إلى جواري.
أغمضت عيني بكل ما أملك من قوة. قبضت كفّي حتى ابيضّت مفاصلي. وفي ظلمة جفني ارتسم خط أصفر، شريط الشرطة، حاجزًا صارخًا يمنعني من المضي.
تمامًا كما كان… في ذلك اليوم.
اليوم الممطر قبل عشر سنوات.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 4 - السبب الذي يجعل الرياح تهب 2025-08-28
- 3 - ضوءٍ وسط العتمة 2025-08-28
- 2 - بوحٌ خلف الشفاه 2025-08-28
- 1 - كيف نتذكّر أصوات العالم؟ 2025-08-28
- 0 - 0- -يسمّونه الحبّ الأول 2025-08-28
التعليقات لهذا الفصل " 3"