2
“لِنَتناول الطعام.”
كلمات أبي جاءت كنسمة خفيفة. بسيطة، قصيرة، كأنها عابرة، لكنها لم تكن كذلك أبدًا.
لقد تعلّمت أن وراء جُمله المقتضبة يختبئ عالَم كامل من الصمت المضيء. كنتُ أعرف أن في كل كلمة صغيرة منه تُطوى حكايات، وأن في بساطة الأب تكمن أعظم المعاني.
بعد الإفطار، فتحت بريدي الإلكتروني، بلا توقّع، بلا رهبة. غير أن رسالةً واحدة قلبت عالمي رأسًا على عقب.
بين السطور، ارتجّت الأرض من تحتي:
‘حفل توقيع؟ أنا؟ أيمكن أن يكون لي، أنا؟’
توقف الزمن. شعرتُ بروحي تتراجع إلى الوراء كطائرٍ اصطدم بزجاج غير مرئي. أنفاسي تعثرت، وقلبي ارتجف. لستُ نجمة شاشات، ولا صاحبة ضوء يملأ المسارح، فكيف يُمكن أن يُقام لي حفل توقيع؟!
كِدت أن أردّ سريعًا على المحرر، لكن صوتًا داخليًا أوقفني: استشيري أباكِ أولًا.
فتحت مذكّرات هاتفي، وكتبت بعجلة، ثم أسرعت نحوه قبل أن يخرج من البيت.
قرأ سطوري، ثم رفع رأسه، وعيناه تتسعان بدهشة مضيئة.
“حفل توقيع؟”
أومأت.
مسح ذقنه ببطء، ثم سألني بصوتٍ لا تسمعه أذناي، لكنني قرأته بوضوح على شفتيه:
“وأنتِ يا دونغ أون… ما رأيك؟”
أمسكتُ هاتفي وكتبت، ثم محوت، ثم عدت وكتبت ثانية، مرتبكة بين خوفٍ ورجفة:
[أشعر بالارتباك… بالخوف أيضًا. حفل التوقيع مقامٌ للكبار وحدهم، للعظماء.]
ابتسم أبي ابتسامة خفيفة وكتب على هاتفه:
[ولِمَ لا؟ ألستِ “أمّ كروكو”، التي تهتف باسمها قلوب الأطفال؟ في كتاباتك لا أحد يسبقك.]
قرأتها… فتنهّدت. لم تُزهر ثقةً في داخلي، بل أضافت حجرًا جديدًا فوق كاهلي.
“أم كروكو”… لقب أطلقه القرّاء عليّ بحب، حتى فاق اسمي الأدبي “سوبوم”. كروكو، صغير التمساح الفضولي، الذي اخترق أسوار حديقة الحيوان ليكتشف العالم، ليجرّب الألم والصداقة، وليكبر في كل خطوة.
لكنه لم يكن مجرد شخصية. كان طفولةً منسية، كان الحكاية التي نسجتها مع “دونغ مي”… أختي التي رحلت، وتركتني نصفًا مكسورًا.
ما إن خطر اسمها حتى ضاق صدري.
ارتسم القلق في ملامح أبي، فوضع يده على كتفي بحنان. ابتسمتُ له ابتسامة واهية، كمن يريد أن يقول: “أنا بخير”… بينما روحي كانت تُسحق من الداخل.
‘ليتني تعلمت لغة الإشارة…’
أُريد أن أصرخ، أن أقول كل ما في قلبي دفعةً واحدة، لكنني مقيدة بحركات شفاه وبضع إشارات. يوم فقدت سمعي، لم أستطع مواجهة الحقيقة. لم أكن قوية بما يكفي لأتعلّم لغة العزلة. تركت الزمن يمضي، حتى صارت مذكّرات الهاتف وقراءة الشفاه كل عالمي.
كتبت لأبي مجددًا:
[أخشى أن يُخيّب الناس ظنهم بي.]
قرأ عبارتي، فاشتدّت ملامحه، ثم قال:
“إن كان هذا سببكِ… فأنتِ تخذلين قلب أبيكِ قبل أن تخذلي أي أحد.”
كنت أعلم.
كان يريدني أن أكون شامخة، كجبل لا تهزه الرياح. أن أُثبت أن الإعاقة ليست قيدًا، بل وهمًا. لكنه لم يعرف أنني، رغم عمري، ما زلتُ عالقة في عمر آخر… عمر السابعة عشرة.
ذلك الصيف الغارق في المطر، حين هطلت السماء ثلاثين ملليمترًا كل ساعة، ولم تتوقف. منذ ذلك اليوم، توقفت داخلي ساعة النمو. تجمدت في لحظة… ولم أكبر يومًا واحدًا.
لكن… هل سيخيب الناس أملهم في “أم كروكو”؟
لم تكشف دار النشر سرّي يومًا.
أرادوا ذلك، نعم، أرادوا أن يلمّعوا إعاقتي كأداة ترويجية. لكنني رفضت. لم أشأ أن تُباع كلماتي بالشفقة. كنت مستعدة أن أخسر العقد، فقط لأحافظ على كرامة النص.
ولم يحترم قراري سوى “جانغ هان”، المحرر الذي تعهّد ألّا يكشف عن شيء إلا برغبتي. وقد أوفى بعهدٍ استمر لسنوات.
واليوم… هو نفسه يطلب مني حفل توقيع.
لماذا؟
اشتدّ صداع رأسي، فوضع أبي كفه على شعري. خجلت من ضعفي أمامه. كتبت له:
[سأتحدث مع السيد جانغ أولًا.]
ابتسم أبي ابتسامة رقيقة، كأنها قبلة غير مرئية على جبيني. تلك كانت طريقته ليقول: “أنا معكِ.”
جلستُ مترددة، غارقة في صمتي. عندها، قفز “مونغشي”، كلبي الصغير، ووضع كفّيه على ركبتي.
شعرتُ وكأنه يهمس:
‘انهضي… تحلّي بالشجاعة.’
مددت يدي وربّتُ على رأسه بحنو، ثم أمسكت هاتفي، وكتبت للمحرر:
[السيد جانغ… أنا، سوبوم.]
وما إن فكرت بالرد، حتى ارتجف الهاتف بين يديّ، كأنه كان ينتظر هذه اللحظة.
[الكاتبة العزيزة! كيف حالكِ؟]
تساءلت فجأة: تُرى كيف يكون وقع صوت “المحرر جانغ” لو سمعته؟ هل سيكون رقيقًا، مستدير الحواف، لا يعرف القسوة… تمامًا كملامح وجهه المستدير الودود؟ كان دائمًا أشبه بملاذٍ آمن؛ رجل في الحادية والأربعين، يعيش وحيدًا مع ابنته ذات الأعوام التسعة. فقد زوجته بعد مولد الطفلة بوقت قصير، فظل وحيدًا يربيها. كم من قسوة تحملها قلبه منذ مطلع الثلاثينات، حين خُطفت منه شريكته مبكرًا.
ربما لهذا السبب وحده كنت أثق به. من عرف طعم الفقد، ومن تذوق وجع الفراق المرير، لن يكون يومًا ممن يتعمدون جَرح الآخرين. هكذا كنت أؤمن.
[اطلعت على البريد، سيدي.]
[فاجأكِ كثيرًا، أليس كذلك؟]
[ظننته أُرسل لي بالخطأ، كأنه يخص كاتبًا آخر.]
[بومي الكاتبة.]
ظهر اسمي الصغير في رسالته التالية. اعتاد أن يناديني “بومي”، لا بصفتي مؤلفة من بين عشرات المؤلفين، بل كما لو كنت ابنة أخٍ أو قريبة يتعهدها بالاهتمام. وفي تلك اللحظات تحديدًا… كنت أضعف أمامه.
[لماذا لا تجازفين؟ كما فعل “كروكو” أول مرة حين خرج يخطو إلى العالم؟]
(لكن…)
ترددت أصابعي فوق لوحة المفاتيح، ثم تجمدت بلا حروف. ربما لم يكن ينتظر جوابًا؛ إذ وصلت رسالة أخرى فورًا:
[سامحيني. لكن أثناء قراءتي لمسودتكِ الأخيرة، شعرت أنكِ أنتِ أيضًا تتمنين الخروج مثل كروكو. الخوف لا يعني رفضًا. الانكماش لا يعني أنك لا تريدين.]
شهقت، ثم سكنت أنفاسي. لم أستطع أن أنكر. أكان يعرفني أكثر مما أعرف نفسي؟ هل كان “كروكو” مرآتي الخفية، حبيس القفص كما أنا حبيسة صمتي؟ هل كان هو تجسيدًا لرغبة لم أجرؤ على البوح بها؟
[ربما تغضبين مني، وربما تلومينني لاحقًا: لِمَ دفعتني إلى اقتراح حفل توقيع؟ لكن… يا كاتبة بومي، ثمة لحظات في الحياة لا بد أن نختار فيها احتمال الألم.]
هل سأفهم ذلك حين أكبر أكثر؟ لِمَ على الإنسان أن يتجرّع الألم عمدًا؟ أي حكمة خفية تستدعي هذا الثمن؟ في سني هذه لم أستطع أن أجد جوابًا، لكنني لم أشأ أن أبدو جاهلة أمامه.
[لقد أعددنا لكِ قناع “كروكو” لترتدينه في الحفل، هل ترغبين أن تريه؟]
(قناع؟!)
قبل أن أكتب ردًا، وصل ملف صورة.
كان قناع “كروكو”.
وجه التمساح الصغير الذي رافق كتبي، بملامحه البريئة وأنيابه الصغيرة اللامعة، يتجسد أمامي في شاشة الهاتف. عمل رسام السلسلة المعتاد بلا شك. وجدت نفسي أحدّق فيه طويلًا، حين وصلني منه إشعار جديد:
[أهداه لكِ الرسام بنفسه. قال: إن وجدتِ اللقاء مرهقًا، فارتديه.]
عندها انحدرت دمعة، بلا إرادة. كان من المفترض أن أغضب، أن أحتج على ترتيبات تُحاك دون علمي، لكن قلبي لم يعرف إلا الاختناق. لم تكن دمعة استياء، بل شيء أبعد… أعمق من الإدراك.
مسحت وجهي بسرعة، ثم كتبت له:
[وقد أعددت كل هذا… كيف لي أن أقول لا؟]
[ههه. أعذريني.]
وصلت رسالته المرحة كابتسامة، فوجدت نفسي أضحك وسط دموعي.
وضعت إصبعي فوق صورة قناع “كروكو”، أتحسس ملامحه بخفة، ثم أطلقت نفسًا عميقًا. لم يتغير شيء في الحقيقة: ما زلت خائفة، ما زال الرعب يجثم على صدري. لكنني رغبت – ولو لمرة – أن أجرّب أن أكون متهورة. أن أكون شجاعة كما كان “كروكو” الصغير. رفعت رأسي، وابتسمت ابتسامة مترددة، ثم أومأت.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 4 - السبب الذي يجعل الرياح تهب 2025-08-28
- 3 - ضوءٍ وسط العتمة 2025-08-28
- 2 - بوحٌ خلف الشفاه 2025-08-28
- 1 - كيف نتذكّر أصوات العالم؟ 2025-08-28
- 0 - 0- -يسمّونه الحبّ الأول 2025-08-28
التعليقات لهذا الفصل " 2"