المطبخ. المكان الذي قد يبدو للآخرين كمسلخ، كان الزعيم يطلق عليه اسماً عادياً جداً. وبمجرد أن يُقتاد أحدهم إلى المطبخ، فإنه لا يخرج منه أبداً.. ليس على قيد الحياة على الأقل.
كان معنى أمر الزعيم بإحضاري إلى هنا واضحاً؛ لقد حان دوري. نجحتُ في تجنب هذا المصير عدة مرات من قبل، لكن يبدو أن رحلتي قد انتهت هنا.
“أمرتُه قائلاً: ‘عَضَّ هذا الوغد!’ فذهب ليهز ذيله له ويعود. عشر سنوات وأنت تثير استيائي ولا ترد ثمن تربيتك..”
استيقظ.
لقد كافحتُ للبقاء على قيد الحياة لعشر سنوات، لا يمكنني أن أموت هنا بهذه التفاهة.
“والآن، الكلب الذي ربيته عَضَّ أطفالي؟”
“هم من خانوني أولاً.”
احتججتُ بأنني لم أسلمهم للشرطة، بل هم من سقطوا في شر أعمالهم حين حاولوا الغدر بي. وبالطبع، لم ينصت لكلامي.
“تفاصيل قصتك المملة لا تهم. المهم هو..”
“..”
“مزاجي.”
“..”
“مزاجي سيئ جداً بسببك.”
تلاعب الزعيم بساطوره المربع وقص طرف سيجاره بضربة واحدة. شعرتُ بقشعريرة في قفاي، وكأنني رأيتُ مشهد قطع رأسي للتو.
“أيها الوغد المثير للشفقة.”
وضع الزعيم السيجار في فمه وأخذ يمضغه ببطء وهو ينهش كرامتي بكلماته.
“لا تجيد فعل أي شيء على الإطلاق.”
طوال عشر سنوات، سرقتُ كل قطعة أمرني بجلبها دون استثناء، وذاع صيتي كأفضل لص في هذه المدينة. لكن كل هذا يصبح “لاشيء” بمجرد كلمة من الزعيم.
استمر الزعيم في توبيخي ووصف مدى تفاهتي حتى استحال السيجار رماداً، وأنهى حديثه بنفس الجملة المعتادة:
“أيها الوغد المثير للشفقة.”
أنا المثير للشفقة.
أنا المثير للشفقة لأنني لم أستطع كتم غضبي اللحظي وسلمتُ أفراد العصابة للشرطة. والأكثر إثارة للشفقة هو أنني كنتُ أتوقع منهم أن يقبلوني كفرد من عائلتهم يوماً ما إذا صبرتُ وتحملت.
‘لقد خُدعتَ مراراً، فماذا كنت تأمل؟’
شعرتُ بالهوان والعبثية لدرجة أنني كدتُ أتخلى عن كل شيء، حتى وجودي نفسه.
“الآن، لم يتبقَّ لك سوى فائدة واحدة.”
أشار الزعيم بالساطور نحو الباب المخفي.
“إلى المطبخ، فوراً.”
“أيها الزعيم.”
بشكل مثير للشفقة، استيقظت فيَّ الرغبة في الحياة بمجرد أن فكرتُ في الموت.
“سأفعل أي شيء تأمرني به.”
“إذن، إلى المطبخ.”
“أرجوك، أعطني فرصة واحدة فقط.”
“وهل الفرص التي أعطيتك إياها حتى الآن لم تكن كافية؟”
كان من الواضح أن والديَّ اللذين لا أعرف اسميهما أو وجهيهما كانا شخصين مثيرين للشفقة مثلي. لابد أنهما ماتا مقتولين غدراً أو انتقاماً بعد معارضة العصابة. وبما أن كل عصابات هذه المدينة كانت تتناوب على استعبادي ككلب صيد، فلا بد أنهما ارتكبا حماقة كبرى أثارت كل هذا الحقد. شعرتُ بالحنق تجاه هذين الغريبين.
“سأمنحك فرصة أخيرة.”
بينما كنتُ صامتاً لشعوري بالإحباط، قال الزعيم ذلك فجأة وهو يراقبني بنظرة غريبة.
“هيهيهيك!”
منذ قليل كان مزاجه سيئاً، والآن يبدو في غاية الحماس. بما أنها الفرصة الأخيرة، عليَّ اغتنامها قبل أن يغير رأيه المتقلب.
“سأفعل ما تأمر به.”
“حقاً؟”
أشعل الزعيم سيجاراً جديداً واستمر في الضحك والتدخين لفترة طويلة قبل أن يكشف عما يريده.
“هناك إنسان يجب أن تقتله بنفسك.”
“..”
“لا تبدو متفاجئاً؟”
“كنتُ أعلم أنها مهمة قتل.”
فمن الواضح أنه سيكلفني بأصعب عمل بالنسبة لي كفرصة أخيرة.
“هل تملك الثقة بألا تتفاجأ عندما تسمع اسم من ستقتله؟”
“من هو؟”
“دوريس هانت.”
“..”
لم أفهم. لماذا يجب أن أتفاجأ؟
“ألا تعرف عائلة هانت إطلاقاً؟”
“أعرف برج هانت. وأعرف أنهم أغنياء فاحشو الثراء.”
“دوريس هانت هي الساحرة التي تعيش في قمة ذلك البرج.”
أخرج الزعيم سكيناً حاداً ومصقولاً كان يضعه عند خصره ورماه أمامي.
“اقتل دوريس هانت بهذا.”
القتل بالسكين يعني أن تقتلها وأنت تنظر في عينيها.
“اقتلها وعُد، وسأقبلك كفرد من عائلتنا. وكجائزة، سأخبرك باسمك الحقيقي وبمعلومات عن والديك.”
اسمي الحقيقي؟
بينما كنتُ مذهولاً من هذا العرض الضخم، تحولت نظرة الزعيم الذي كان يراقبني بمتعة إلى نظرة قاتلة.
“وإن لم تقتلها..”
أشار طرف السكين نحو المطبخ الذي كانت تتصاعد منه الصرخات.
الفيلا تحت ضوء القمر، والنصل الذي يلمع بزرقة باردة تحت نفس الضوء.
نظرتُ إليهما بالتناوب وتنهدتُ.
‘لا أريد فعل هذا.’
إن لم أقتلها، سأموت أنا. ولكن.. ‘اسمي.. والداي..’
بصراحة، أنا فضولي. رغم أنني كنت أكبتُ هذا الشعور طوال حياتي ظناً مني أن “الجهل نعمة”، إلا أن الحقيقة هي أنني كنتُ أتوق لمعرفة الحقيقة لدرجة الجنون.
يقال إن “الفضول قتل القطة”، ويبدو أن الفضول اليوم سيقتل عجوزاً.
أنا لا أقف الآن أمام برج هانت حيث تعيش العجوز، بل أمام فيلا منعزلة في الضواحي. كان من الصعب اقتحام الـ “بنتهاوس” في البرج بسبب الحراسة المشددة، لكن من حسن الحظ (أو سوئه) أن دوريس هانت غادرت البرج لتقيم في الفيلا. يُقال إنها تعاني من نوبات اكتئاب في مثل هذا الوقت من كل عام، فتقضي عدة أشهر بعيداً عن المدينة للاستجمام.
‘اكتئاب؟ حتى الأغنياء يعانون من التوافه إذاً.’
يبدو أن المال لا يشتري السعادة.
ومع ذلك، يبدو أن المال يشتري الحراسة، فالحماية حول الفيلا كانت مشددة جداً. لكنني لم أكن لأصبح اللص الذي لم يفشل في سرقة شيء أو يُقبض عليه لعشر سنوات عبثاً.
بعد فترة وجيزة من دخولي الفيلا، كنتُ واقفاً بجانب العجوز النائمة. شعرتُ بمرارة في حلقي وأنا أنظر إلى تلك العجوز النحيلة ذات الشعر الأبيض.
‘ستموث قريباً على أي حال، فلماذا يصر الزعيم على قتلها؟ وبشكل وحشي؟’
هل أنا حقاً جبان أحمق كما يقولون؟ الآخرون يقومون بهذا العمل وهم في الرابعة عشرة، بينما أنا في الحادية والعشرين ولا أملك الشجاعة.
‘إن لم أقتلها، سأموت أنا.’
لا أعرف سبب قتلها، لكن لابد أنها إنسانة تستحق الموت. استمررتُ في إقناع نفسي حتى استجمعتُ شجاعتي أخيراً ورفعتُ السكين.
لكنني لم أستطع الطعن. كان التردد والسكين في يدي حماقة كبرى؛ فقد تسلل ضوء القمر عبر النافذة ولمع النصل، وانعكس الضوء على وجه العجوز. في تلك اللحظة، فتحت دوريس هانت عينيها فجأة.
تباً.
نظرت إليَّ العجوز، ثم فتحت فمها.
“ريفين؟”
هممتُ بسد فمها لكي لا تصرخ، لكنها لم تصرخ. بل نادتني باسم غريب.
“ريفين.. يا إلهي.. لا تزال حياً. لقد كنت حياً حقاً.”
احتضنتني العجوز بقوة وبدأت في البكاء. لم يكن العناق يشبه إمساك متسلل لمنعه من الهرب.
“لقد قلتُ دوماً إنك لا تزال حياً..”
“..”
ما خطبها؟ كان عليَّ طعنها أو الهرب، لكن جسدي تصلب ولم يستطع الحراك.
“حفيدي.. دعني أنظر إلى وجهك بوضوح.”
أرخت العجوز ذراعيها وأمسكت بوجهي. نظرت إليَّ بعينين مغرورقتين بالدموع وقالت إنني حفيدها. بدأ الشك يساورني.. ‘هل هي مصابة بالخرف وليس الاكتئاب؟’
بينما كنتُ أحاول دفعها وإخبارها بأنني لست حفيدها، قالت:
“كنتُ قلقة ألا أتعرف عليك، لكنه كان قلقاً بلا داعٍ. أنت تشبه والدك تماماً.”
أمسكت العجوز بيد مرتجفة ببرواز صورة على الطاولة الجانبية وأرتني إياه.
في الصورة، كان هناك رجل يشبهني تماماً، يبتسم بوضوح وهو يرتدي قبعة التخرج التي لم أرتدها يوماً.
لماذا أنا هنا؟ لا، لماذا أشبه هذا الرجل؟
بينما كنتُ غارقاً في ذهولي، استمرت العجوز في سؤالي:
“ريفين، كيف نجوت؟ هل استمر أولئك الأوغاد في احتجازك؟ هل أمروك الآن بالمجيء لقتلي؟”
كلماتها التي بدت وكأنها تعرف كل شيء جعلتني أغرق في فوضى أعمق، بينما أدركتُ حقيقة واضحة كالشمس:
‘هل يعني هذا.. أن الزعيم أمرني بقتل جدتي الحقيقية؟’
طاخ.
سقط السكين من يدي. دفعتُ العجوز التي حاولت احتضاني مجدداً.
التعليقات لهذا الفصل " 154"