3
Ch-003
قبل بضع سنوات، حين كانت غوي تينغ يوي ترافق فرقة الرقص في جولةٍ بأوروبا، أقامت لأيامٍ قليلة في بلدة صغيرة عند سفوح جبال الألب.
كانت البلدة آيةً في الجمال، كأنها لوحة زيتية مشبعة بالألوان حتى أقصاها.
غرفتها في الفندق كانت تطل مباشرة على الجبال الثلجية، وكلّما فتحت النافذة، انهمر أمامها مشهدٌ مهيب من القمم الممتدة، يتماوج فيه الرمادي الصخري مع البياض الناصع، في توليفة تنضح ببرودةٍ ساميةٍ ونقاءٍ قاسٍ لا يتكرر.
ذلك الجمال الحادّ، كالسيف في صفائه، كان يسلب الأنفاس كل مرة.
وفي تلك الظهيرة، وهي تحدّق عبر منظارها الصغير، خالجها الإحساس ذاته.
بعض الوجوه تشبه الحصى الملساء: مستديرة، ودودة، يسهل الاقتراب منها بابتسامة.
لكنّ وجه ذلك الرجل المقابل كان من الصنف الآخر تمامًا — لا يمكن وصفه بأنه وسيم بالمعنى الشائع، وإن كان يستوفي بعض السمات: حاجبان كثيفان، عينان داكنتان. غير أن ملامحه كانت حادّة أكثر مما ينبغي، بأنفٍ مستقيمٍ مرتفع، وفكٍ محدّد الزوايا، وعينين مائلتين طويلتين تحملان مسحةً من التبرّم والعدوانية الكامنة.
حدّقت فيه بذهولٍ لثوانٍ، ثم أغلقت المنظار ببطء.
منذ تلك اللحظة، كفّت عن نسج أي خيالٍ حوله. لم تفاجأ أن يُصدر مثل ذلك الإيقاع النابض الذي كانت تسمعه كل مساء؛ فملامحه كانت تمامًا على صورة أنغامه: صارمة، دقيقة، محتدمة، حدَّ الكمال. بدا أن خيالها السابق كان أقلّ من أن يحيط بجماله الغريب.
عادت إلى غرفتها وقد اضطربت أنفاسها. شعورُها لم يكن مختلفًا عن تأثير الدواء الذي اعتادت تناوله، رغم أنها لم تتعاطَ شيئًا خلال الساعتين الماضيتين.
أسرعت إلى مكتبها، فتحت دفترها الصغير، وسرعان ما تسلّل ظله بين السطور.
تحوّل أسلوب يومياتها إلى رسائل مكتوبة بصيغة المخاطب، لم تعد وصايا أخيرة تُسجَّل لنفسها، بل رسائل تُوجَّه إلى من يسكن المقابل.
“صديقي المقيم في البناية المقابلة،
أتمنى أن تصلك رسالتي بخير.
لم أُخطئ حين ظننتك شخصًا غير عادي، فليس عزفك على الطبول وحده المذهل، بل حتى ملامحك تُثير الدهشة…”
كانت تكتب بانسيابٍ نادر، كأنّ الحبر يجد طريقه بنفسه.
واختتمت يوميتها بعبارة:
“أتطلّع إلى عرضك غدًا بعد الظهر، سأكون في مقعدي المعتاد.”
•°•○•°•●•°•○•°•
في صباح اليوم التالي، جاءت أمّها لترافقها إلى الطبيب النفسي، كما تفعل مرةً كل شهر.
كانت غوي تينغ يوي تتناول فطورها بهدوء، فبدت أمّها متفاجئة.
عادةً ما كانت تبدي تبرّمًا واضحًا، تتلكأ في النهوض وكأنها تُساق إلى معركة، لكن هذا الصباح بدا مختلفًا لقد كانت مستعدة، مطمئنة.
في غرفة الاستشارة، كانت المرة الأولى التي لم يظهر فيها على وجهها أثر الألم المعتاد عند الحديث عن ذاتها. على العكس، أخذت تحدّث الطبيب بحماسةٍ ناعمة، تروي له ما عاشته خلال الأسابيع الأخيرة، تفصيلاً بعد تفصيل، كما لو كانت تُفرغ كيسًا من الحلوى الملونة أمامه.
استمع الطبيب بإمعان، ثم ابتسم وقال:
“من الجيد جدًا أنك وجدت شيئًا أو شخصًا يثير اهتمامك، هذه علامة ممتازة.”
شبكت أصابعها وقالت بخجلٍ صادق:
“حتى أنا دهشت لذلك. عزفه على الطبول يعادل في مفعوله دوائي تمامًا.”
ضحك الطبيب بخفة:
“هل فكّرتِ في أن تتعرّفي عليه؟ أن تُصبحي صديقة له مثلًا؟”
ساد الصمت لحظةً قبل أن تردّ بصوتٍ خافت:
“لم أفكر في ذلك.”
ثم خفّضت عينيها بابتسامة ساخرة:
“أنا فقط أراقبه في الخفاء… لا أصلح لتكوين صداقات. أخشى أن أنقل له ما أحمله من كآبة.”
هزّ الطبيب رأسه بلطف:
“بالعكس، حالتكِ الآن مناسبة تمامًا. لديك فضولٌ حيّ، وهذا أساس التعافي. لا تخشي الاقتراب، فالعالم خارجك ليس غابة من الأشواك كما تتخيلين. حين تخطين تلك الخطوة الصغيرة، ستكتشفين أنها مجرد طريقٍ طبيعي نحو ضوءٍ آخر، لا أكثر.
افتحي قلبكِ بصدقٍ وود، وأنا واثق أنه سيكون سعيدًا بالتعرّف إلى فتاةٍ طيبةٍ ورقيقةٍ مثلكِ.”
هل يمكن أن يكون ذلك صحيحًا؟
عادت غوي تينغ يوي إلى المنزل وهي نصف مصدّقة، نصف مشككة، ثم تمددت في سريرها.
تقلبت طويلًا حتى الثالثة بعد الظهر، قبل أن تنهض أخيرًا، وتتجه إلى الشرفة.
ومن هناك، رفعت نظرها مجددًا نحو النافذتين المقابلتين، حيث يسكن الغموض الذي أضاء عتمتها.
وفجأة، انفرج الستار عن النافذة اليمنى، فبانت في مركز الإطار هيئة طويلة القامة، مستقيمة كظلٍ منسوجٍ من الضوء.
ارتجف قلب غوي تينغ يوي، فهبطت سريعًا وجلست القرفصاء، تختبئ خلف جدار الشرفة كطفلةٍ ضُبطت متلبسة.
بعد لحظاتٍ قصيرة، أطلّت برأسها نصف إطلالة، فلم تجد أحدًا.
كان المشهد خاليًا إلا من غرفةٍ بيضاء موحشة، تضم سريرًا وحيدًا، كأنها جناحٌ في مستشفى للعزلة.
زفرت بهدوء، واعتدلت واقفة. راحت تضّم ذراعيها وتفتحها كمن يتنفس الهواء، لكنها في الحقيقة كانت تفتّش بعينيها عن النافذة الثانية.
لم يظهر في المطبخ أو غرفة المعيشة.
إذًا، فغرفته المخصصة للتدريب تقع في مكانٍ لا تبلغه عيناها.
أسندت يديها إلى الدرابزين، وفي قلبها خيبة خفيفة. لكنها سرعان ما ابتسمت بخفوت، فحتى إن كان لقاؤهما من بعيد، وسماعها لعزفه من وراء الزجاج، فهو كافٍ. بل أكثر من كافٍ. إنه النور الصغير الذي يضيء فراغ حياتها الرمادية.
وفجأة دوّى صوتٌ مكتوم، “دوم!”، كأن الرعد انشقّ في قلب السماء. ثم انهمرت الضربات التالية كعاصفةٍ متتابعة، غزيرة، جامحة، تجمع بين الفناء والبعث في آنٍ واحد.
لقد بدأ بالعزف أبكر من المعتاد.
كانت نبرات الطبول فخمة، متغطرسة، تُثير في الجسد رجفة الحياة، حتى غوي تينغ يوي نفسها اتسعت عيناها من الدهشة، وشعرت بقشعريرةٍ تسري في كامل جسدها.
ظلّ يعزف طويلًا، وظلّت هي ملاصقةً للسياج، رأسها يتمايل بإيقاع الضربات، وأصابعها تنقر الهواء كعازفة بيانو مسحورة.
وحين أخذت الغيوم في الأفق لون عصير البرتقال المراق، سكت الطبل فجأة.
توقفت هي أيضًا، كأن خيوطًا خفية كانت تربطها به، فانقطعت.
نظرت إلى موضع المطبخ في شقته، والضوء الذهبي للمغيب يكسو الزجاج بدرجةٍ دافئة تشبه لون الشاي.
ثم ظهر هناك، الرجل. وقف برهةً ثم التفت جانبيًا، كأنه يبحث عن شيءٍ في الخزائن أو الثلاجة.
وفي النهاية، استقر خلف منضدة المطبخ، ربما ليُعدّ طعامه.
كم تمنت لو كانت أقرب قليلًا.
شعرت بخيبةٍ رقيقة تتسلل إلى صدرها، ثم خطرت لها فكرة مجنونة، تكبر في ذهنها بسرعةٍ مخيفة.
هل تفعلها من جديد؟ هل تعود إلى تلك “العادة المذمومة” وتراقبه عن قرب؟
لكنها لم ترَه يومًا يمكث في المطبخ كل هذا الوقت…
تردّدت طويلاً، ثم انتصر الفضول أخيرًا على الحذر.
قالت في نفسها: فقط نظرة واحدة، لا أكثر. فقط لأعرف ما الذي سيتناوله الليلة.
ركضت إلى غرفتها، أمسكت بالمنظار، وعادت إلى الشرفة، تثبّته في الموضع المناسب، ثم رفعته أمام عينيها.
مرّت دقيقتان… ثم ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها.
كان الرجل يكسر بيضتين في وعاءٍ بيدٍ واحدة، بحركةٍ سريعةٍ متقنة، ثم أمسك عيدان الطعام وبدأ بخفقهما.
لكن فجأة توقّف، وضع الوعاء جانبًا، ثم أمسك بكل يدٍ عودًا، وبدّل بين قبضتيه كما لو كانا عصَيّ طبل.
ثم بدأ يعزف من جديد.
ضرب سطح المنضدة، حافة المقلاة، مقبض الخزانة، وكل ما امتدّ إليه متناول يده.
تحوّل المطبخ إلى مسرحٍ صاخب، والأواني إلى طبولٍ وأجراس.
إيقاعه عفويّ، جامح، نابض بالحياة، كأن العالم بأسره تلاشى ولم يبقَ غيره وموسيقاه.
ورغم أنها لم تسمع شيئًا، كان عقلها يملأ الصمت بصوت الطبول الذي حفظته عن ظهر قلب.
رأته يبدّل قبضته فجأة بمهارةٍ لافتة، ثم يعاود الضرب بخفةٍ واتزان.
شهقت غوي تينغ يوي بصوتٍ مكبوت، واضطرت أن تكمّ فمها بكفّها حتى لا تنطق إعجابها علنًا.
لم يدم المشهد سوى دقيقتين، لكن الصدى الذي خلّفه في روحها كان عميقًا، كأنه عزف على أوتار قلبها مباشرة.
كيف يمكن لإنسانٍ أن يحبّ ما يحبّه إلى هذا الحد؟
أيّ شغفٍ هذا الذي يجعل من كل مكانٍ مسرحًا، ومن كل لحظةٍ عرضًا حيًا؟
ابتسمت والدموع تلمع في عينيها.
لقد كانت هكذا يومًا ما، كانت ترقص في المطبخ بين نقرات الملعقة وصوت الميكروويف حين يرنّ، تدور ستّ دوراتٍ متتابعة كراقصةٍ على المسرح، لا يشهدها أحد، لكنها كانت حقيقية.
ارتجف قلبها، وانخفضت يدها التي تمسك بالمنظار ببطء.
في تلك اللحظة، أدركت شيئًا واضحًا وبسيطًا:
مهما كان في انتظارها — خطوة طبيعية تالية، أو غابة من الأشواك — فإنها هذه المرة ستمضي إليه.
ستتعرّف عليه.
كانت تلك أول نيةٍ صادقةٍ للحياة منذ زمنٍ طويل.
نهاية الفصل، ترجمة يوكي 💫
⊱ ────── {.⋅ ✯ ⋅.} ────── ⊰
Chapters
Comments
- 5 - Ch.005 منذ 5 ساعات
- 4 - Ch.004 منذ 5 ساعات
- 3 - Ch.003 منذ 5 ساعات
- 2 - Ch.002 منذ 5 ساعات
- 1 - Ch.001 منذ 5 ساعات
التعليقات لهذا الفصل " 3"