نزل الثلاثة في فندقٍ بحيّ بودونغ، غير بعيدٍ عن منطقةٍ تجاريةٍ تعج بالأنوار والحركة.
استأجر تشين شي غرفتين: إحداهما عادية، والأخرى مزدوجة. وبعد أن أتمّوا إجراءات التسجيل واستلام بطاقات الهوية ومفاتيح الغرف، عاد تشين إلى الأخوين. وما إن مدّ يده يأخذ حقيبة غوي تينغ يوي، حتى بادر غوي لينغ فنغ إلى انتزاعها منه بحزم، وقال بنبرةٍ حاد:
“يا صهري العزيز، أفضّل حماية يديك الثمينتين، لا نريد لمعجبيك أن يصيبهم القلق.”
ارتسمت على شفتا تشين شي ابتسامةٍ خفيفة، وقال بهدوء:
“أليس مُجهِدًا أن تحمل أغراض شخصين بالفعل؟”
شدّ غوي لينغ فنغ عضلات ذراعه متفاخرًا:
“أنا رجل، كما تعلم.”
لم تتجشّم غوي تينغ يوي عناء إخفاء برودها، وقالت بفتور:
“لم أرك يومًا بهذه الحماسة والمبادرة معي.”
نقر غوي لينغ فنغ لسانه متصنّعًا الوقار:
“لقد نضجت… وصرتُ أكثر رُشدًا الآن. “
دخل تشين شي أولًا إلى المصعد، وسلّم لكل منهما مفتاح غرفته. أمسك غوي لينغ فنغ المفتاح بين أصابعه، قلّبه للحظات، ثم مال رأسه محاولًا التلصّص على بطاقة أخته.
أدخلت غوي تينغ يوي يديها في جيبي معطفها، وأخفت البطاقة بعنادٍ واضح. فما كان منه إلا أن رفع رأسه إلى تشين شي وسأله بصراحةٍ فجّة:
ثم حكّ رأسه متفاديًا نظرة أخته الطاعنة، واستدار يجرّ حقيبته بكسلٍ نحو الممر.
أُغلق باب المصعد، وغرق الصندوق المعدني في صمتٍ قصير؛ لم يبقَ فيه الآن إلا اثنان يقفان جنبًا إلى جنب.
زفرت غوي تينغ يوي ببطء، وحدّقت في تشين شي بنظرةٍ تجمع بين الإحراج والعجز:
“أخي دائمًا هكذا… أرجوك تحمّل تصرّفاته.”
ابتسم تشين شي وهو ينظر إلى انعكاسهما على الجدار المعدني اللامع:
“بالعكس… إنه يمنحني مظهر الشخص الأكثر نضجًا هنا.”
شعرت غوي تينغ يوي بالأمر ذاته، فتأمّلت ملامح حبيبها الوسيمة المميّزة من خلال الانعكاس وقالت بنبرةٍ ساخرة:
“قال نضج قال…”
تلاقت عيناهما في المرآة، وارتسمت على شفتيهما ابتسامةٌ متزامنة، كما لو كانت إشارةَ تفاهمٍ صامت.
فُتح باب المصعد مجددًا، وتبعَت غوي تينغ يوي تشين شي إلى الخارج، تخطو فوق السجادة الطويلة في الممرّ، كأنها تمشي على أرضٍ خصبةٍ لينة. كانت عيناها تتنقّلان بين اللوحات المعلّقة على الجدران، وملامحها مشبعةٌ بحماسٍ طفوليّ:
“مرّ زمنٌ طويل منذ أن خرجتُ هكذا… حتى ديكور الفندق يبدو جديدًا في عيني.”
اكتفى تشين شي بأن أدار وجهه نحوها للحظة، ثم ابتسم صامتًا… وترك كلماتها تتردّد في الممرّ وحدها.
حالما دخلا، اندفعت غوي تينغ يوي، التي ظلّت متردّد طوال الوقت، لتدفن وجهها في صدر تشين شي، ولفّت ذراعيها حوله بعناقٍ محكم.
شعرت باضطراب أنفاسه وعلوّ صدره وانخفاضه، فما لبث أن رفع ذراعيه ليضمّها إليه بدوره.
ما إن إحتضنها حتى شاع بينهما إحساسٌ الدفء والأمان.
انبعث من شعر غوي تينغ يوي عبيرٌ حلوٌ خافت، فاستنشقه تشين شي ببطءٍ، وأحس بكل عضلات جسده تسترخي تحت وطأة ذلك العطر.
ثم جاء همسٌ خفيض منها، بالكاد يُسمَع:
“أظنّني أُصبتُ بمرضٍ جديد.”
سألها تشين شي بلطف: “وأيُّ داءٍ هذا؟”
أجابته غوي تينغ يو: “اسمه العلمي طويل بعض الشيء… يُسمّى: الاعتلال الفوري عند غياب عناق تشين شي.”
كانت عبارات غزلها المبتذلة دائمًا تُضحكه، ومع ذلك حاول تشين شي مجاراتها قائلًا: “في هذه الحالة… أظنّني أنا أيضًا مصاب به.”
انطلقت من حلق غوي تينغيو ضحكةٌ خفيفة، ثم لم تلبث أن تكرّرت على شكل همهمةٍ مكتومة، كأنّها لا تقوى على التوقّف.
راح تشين شي يطيل التأمّل في ملامحها، وفي عينيه بريقٌ دافئ فيه الارتباك طفيف ، منتظرًا جواب.
تردّدت غوي تينغيو برهة، ثم غلبها حنانٌ خجول لا تعرف سبيلًا لإخفائه، فمالت نحوه قليلًا وطَبعت على شفتيه قبلةً سريعة، رقيقة، أشبه بلمسةٍ خجولة منها تحمل إعترافًا لا يُقال.
تراجعَت قليلًا بعد القبلة، وقطّبت حاجبيها بدلالٍ، كأنّها تسأله بصمتٍ إن كان قد التقط ما عجزت عنه الكلمات.
ارتسمت على شفتي تشين شي ابتسامةٌ وادعة، ورفع يده برفق وربّت على شعرها تربيةً مطمئنة.
قال بصوتٍ مغرم: “هذا يكفيني.”
أخفضت غوي تينغ يوي رأسها، وابتسمت ابتسامةٍ صغيرة لا تخلو من الارتباك، ثم تمتمت: “لا تنسَ… أنت دوائي الوحيد.”
انفلتت من حلقه ضحكةٌ قصيرة، وقال: “وأنتِ… أكثر ما يجعل هذا العالم مُحتملًا.”
ظلّا واقفَين متقاربَين، لا يملأ الفضاء بينهما سوى أنفاسٍ هادئة وصمتٍ مريح، صمتٍ يشبه عهدًا مكتومًا.
خفضت غوي تينغ يوي رموشها وقالت بنبرة قلقة قليلًا:
“هل أنت بخير الآن؟”
نظر إليها لثوانٍ، ثم وضع يده على رأسها برفق، يربت عليها مطمئنًا:
“أنا بخير، لا تقلقي.”
احمرّ وجهها قليلًا، فابتعدت خطوة للخلف.
التقط تشين شي حقيبته، وقال:
“هيا بنا. سأتحدث مع أخيكِ. عندما تكونين جاهزة انزلي إلى العشاء.”
أومأت برأسها، وأسندت يدها إلى إطار الباب وهي تتابعه بنظراتها.
وقبل أن يغادر، استدار للمرة الثالثة ورآها لا تزال واقفة. لوّح لها بيده وقال:
“ادخلي، لا تقفي هناك.”
عندها فقط عادت إلى الداخل.
وفي السلم الكهربائي الهابط، وقف تشين شي لحظةً شاردًا، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة حاول إخفاءها، قبل أن يعيد تعديل تعابيره ويتابع نزوله.
•°•○•°•●•°•○•°•
عاد غوي لينغ فنغ إلى الغرفة، مستندًا إلى لوح السرير، منشغلًا بلعبة تتوهّج على شاشةٍ مُسطَّحة. وحين لمح تشن شي، رمقه بنظرةٍ ذات مغزى، ثم اعتدل قائلًا بنبرةٍ مازحة:
“نجمي، سأهبك السرير المُطلّ على الشرفة، وأكتفي أنا بالسرير القابع جوار الحمّام. أليس ذلك ضربًا من النبل والإيثار؟”
توقّف تشن شي عند الطاولة، يفتح سحّاب حقيبته، ثم قال بنبرةٍ يكسوها السخرية:
“أشكرك.”
قهقه غوي لينغ فنغ:
“صهري العزيز، ما أسرعك! لم أُنهِ حتى جولةً واحدة.”
تجمّد تشن شي للحظة، ثم التقط وسادة الرقبة وقذفها عليه، فاستقرّت في حضنه.
أحاطها غوي لينغ فنغ بعنقه قائلًا:
“حسنًا، حسنًا… لن أقول المزيد”
وبعد أن رتّب تشن شي ملابسه وأغراضه، جلس على الأريكة، يحدّق في هاتفه بعينين تشتتان شيئًا فشيئًا.
وما إن دوّى نغمة “النصر” من لعبة غوي لينغ فنغ، حتى التفت إليه تشن شي:
“شياو فنغ… لديّ سؤال.”
رفع الفتى رأسه من فوق الوسادة:
“همم؟”
قال تشن شي بهدوءٍ:
“هل من من المناسب الحديث عن أختك؟”
تلاشت ابتسامة غوي لينغ فنغ على الفور، وأغلق هاتفه ببطء:
“ما بها أختي؟”
طمأنه تشن شي بابتسامة خفيفة:
“لا تقلق. أنا على درايةٍ بظروفها، لكني أريد أن أفهم التفاصيل بوضوح.”
“إصابتها… هل كانت في الكاحل أم في الساق؟ وهل بإمكانها أن تستعيد قفزاتها كاملةً يومًا ما؟”
غمر الحزن وجه غوي لينغ فنغ، ولزم الصمت لحظةً قبل أن يقول بصوتٍ متهدّج:
“ليس تمامًا… لكنها لن تعود كما كانت. لكي تتمكّن من المشي بلا عائق في المستقبل، خضعت لجراحة في عظم الكاحل، وهذا جعل التدريب القاسي… والأداء الاحترافي… أمرًا مستحيلًا تقريبًا. لقد كانت ضربةً قاصمة لها.”
تنفّس بعمق، ثم تابع بصوتٍ تخالطه الحسرة:
“كانت أختي راقصةً بارعة، من أولئك الذين يُتقنون الفن لدرجة يُمكنهم معها العطاء والتدريس. شاهدتها تؤدي مرارًا مع والديَّ. بحيرة البجع، كسارة البندق، جيزيل، وعشّاق الفراشات… لم يكن هناك مقطوعة موسيقية واحدة تعجز عنها. كانت رشاقتها وقوّتها على الخشبة المسرح ساحرتين، تُذهل العين ببساطتها المبهرة.”
ازدادت ملامحه كآبة، كأنّ الذكرى تُثقله:
“وبعد ذلك… انهارت. نُقلت إلى المستشفى بسبب اضطراباتٍ نفسية. ادّعت أنها ذاهبة إلى مركز إعادة تأهيل، لكنها كانت تُخفي الحقيقة عني خوفًا من حملي للهمّ. كيف لي ألا أدرك؟ كنت وقتها غارقًا في امتحانات الثانوية، وكل ما كان باستطاعتي هو الشعور بالعجز… عجزٍ يمزّق الصدر.”
ومع آخر جملة، كانت عيناه تبرقان بحمرةٍ متعبة، وصوته يشي بانكسارٍ دفين:
“لا يمكنك تخيّل مدى جمالها حين ترقص… كم أتمنى لو رأيتها. كانت تُحب الرقص بجنون؛ حتى في منزلنا، حين تستريح، كانت تعود لمتابعة تدريباتها الأساسية كأنها لا تستطيع التنفّس دونها.”
“آه…” فرك غوي لينغ فنغ عينيه وتنهد قائلًا:
“أخبرتني أمي قبل أيام أنّها لم تُحسن اختيار اسمٍ لأختي. قالت إنّ المعنى ثقيل، وإنّها فتاة طيبة للغاية، لكنها لا تعرف كيف تخرج من قوقعتها؛ أسيرة فناء قلبها الضيّق. كان ينبغي أن تهبها اسمًا طليقًا، هيّنًا، مثل شمس صغيرة.”
شهق غوي لينغ فنغ بخفوت، ثم نظر إليه قائلًا:
“لكن بفضلك، حين رأيت أختي هذه المرّة، أحسست أنّ حالتها أفضل بكثير.”
ابتسم تشن شي، وتقلّصت عيناه قليلًا:
“لقد فهمت الأمر بالعكس تمامًا.”
ارتبك غوي لينغ فنغ:
“هاه؟”
لم يُجبه تشن شي.
بعد برهة، فتح وي تشات، وأرسل رسالة إلى حبيبته:
“هل أنتِ مستعدّة؟ سآتي لاصطحابكِ.”
ردّت غوي تينغ يوي:
“انتظر قليلًا.”
ثم أضاف:
“أريد أن أقضي معكِ وقتًا أطول على وي تشات.”
ابتسم تشن شي، ولم يُخفِ ما اكتشفه للتو: لقد استخرجت منذ قليل كمًّا وافرًا من التفاصيل عنكِ من أخوك.
كتبت غوي تينغ يوي على الفور:
“ماذا؟ هل قال عنّي شيئًا سيئًا؟”
حكى لها تشن شي لها محادثته مع غوي لينفينغ حرفيًا.
فأجابته غوي تينغ يوي بابتسامة يغلّفها شيء من المرارة:
“إذا فكّرنا بالأمر بهذه الطريقة، فأنا أتفق أيضًا. القمر خامل بطبعه، قليل الطاقة، تمامًا مثل خلفية وي تشات القديمة خاصّتي.”
لاذ تشن شي بالصمت لحظة، ثم كتب:
“هل تعلمين حقيقة أساسية؟”
غوي تينغ يوي:
“ما هي؟”
قال تشن شو:
“ضوء القمر في حقيقته ضوء الشمس.”
غوي تينغ يوي:
“هذا أمر يعرفه حتى تلاميذ الابتدائي.”
قال تشن بهدوء:
“صحيح أنّه ليس بالحرارة ذاتها ولا بالسطوع نفسه، لكنه وحده القادر على شقّ العتمة، وإضاءة الليل.”
التعليقات لهذا الفصل " 22"