بعدَ صباحٍ حافلٍ بالعمل، تحوّل منزلُ غوي تينغ يوي من قفصٍ فضّيّ مُحكم الإغلاق إلى دفيئةٍ زجاجيةٍ تغمرها الشمس؛ رحِبةٍ، شفّافةٍ، ينساب فيها الضوء انسياب الماء الرقراق.
كانت العمّة لي، التي اختلط في صدرها الابتهاج بالقلق، لا تكفّ عن تكرار وصاياها لغوي تينغ يوي:
“ألا ينبغي أن تُخبري والدتَكِ أولًا؟ هل سيفعل ذلك بنفسه فعلًا؟ ألن تغضب والدتُكِ إذا هدمه هكذا؟”
وإذ أدركت أنّه لا سبيل إلى ثنيه عمّا عزم عليه، غلبها الخوفُ على سلامة تشين شي، فتمتمت بقلقٍ صادق:
“يجب أن تستأجرا عاملًا مختصًّا… هذا الأمر خطِرٌ للغاية.”
ثم رفعت يديها بتوتّرٍ واضح:
“يا إلهي، تشين شي… لِمَ هذا الفتى عنيدٌ إلى هذا الحدّ؟”
ظلّت تتمتم بلا انقطاع، ولا أحد يُصغي حقًا. كانت غوي تينغ يوي قلِقة هي الأخرى، فبقيت إلى جواره، تُمسك بالسُّلّم وتسانده؛ فالشقة ليست منخفضة، والسقوط منها ليس مزحة.
إلا أنّ تشين شي، بطوله الفارع وبنيته القوية، نزع بسهولةٍ كلَّ شبكات الأمان عن شرفة غرفة المعيشة.
وقفا جنبًا إلى جنب خلف السور الشرفة، يحدّقان في الامتداد الشاسع للسماء الزرقاء والبحر المنبسط.
ارتسمت على وجه غوي تينغ يوي ابتسامةٌ مشرقة، فتلألأت ملامحها في ضوء الشمس.
“إذًا… لقد كنتَ تتجسّس عليّ كثيرًا، أليس كذلك؟”
كان تشين شي قد اعتاد على نبرتها الاتهامية، فأجاب بلا انفعال:
“ومَن يتجسّس على مَن بالضبط؟”
قالت غوي تينغ يوي، وهي تُشيح بنظرها إلى الأفق:
“لو لم أكن أنا مَن يتجسّس عليك، هل كنتَ ستلاحظ وجودي أصلًا؟”
نقر تشين شي على السور بأطراف أصابعه، وغاص لحظةً في التفكير.
“لا… في الحقيقة، لا.”
ثم أطلق نَفَسًا خافتًا، وأردف بنبرةٍ هادئة:
“لكنني لمحتُكِ حقًّا… بسبب هذا الحاجز.”
صمتت غوي تينغ يوي طويلًا، كأن الكلمات عالقة في حنجرتها، ثم قالت أخيرًا بنبرةٍ خافتة:
“حاولتُ الانتحار مرّتين العام الماضي… لكنني فشلت.”
استدار تشين شي إليها دفعةً واحدة، وأطبق أصابعه حول معصميها يتفحّصهما في توترٍ، يتأكد من خلوّهما من أي أثرٍ لندوب، قبل أن يهمّ بتركهما… غير أنّ قبضته بدل أن تلين، اشتدّت.
كانت عيناه معلّقتين بها، نظراته كثيفة، حادّة، كأن وراءهما ألف جملةٍ لم تُقال بعد.
تمتمت غوي تينغ يوي في خجلٍ يشبه اعتراف طفلةٍ ارتكبت حماقة:
“ابتلعتُ أدوية… وخضعتُ لعملية شفط دهون، فقط لأبدو أجمل…”
ظلّ وجه تشين شي هادئًا في الظاهر، لكن بريق عينيه ازداد حدّة.
كان رأس غوي تينغ يوي يغلي بحرارة الندم والارتباك، حاولت أن تسحب يديها من قبضته، لكنه لم يُفلتها، بل جذبها نحوه فجأة، وضمّها إلى صدره بقوةٍ، محيطًا بها بذراعيه.
طوّقت غوي تينغ يوي خصره بذراعَيها، وصوتها يخرج مكتومًا من بين كتفيه:
“هل فكّرتَ أنت يومًا في الأمر؟”
أمال تشين شي ذقنه برفقٍ على أعلى رأسها، وفرك شعرها بحركةٍ خفيفة:
“أظنّ… نعم، فكّرت.”
رفعت رأسها قليلًا، وهمست:
“وما الذي غلَب تلك الفكرة في النهاية؟”
قال تشين شي بهدوءٍ مبحوح:
“كما قلتِ… ما زلتُ أستطيع العزف، أليس كذلك؟”
ارتجف أنف غوي تينغ يوي، وشحب صوتها من فرط التأثر:
“بلى… وهذا أمرٌ رائع حقًّا.”
مرّت أصابع تشين شي في خصلات شعرها الطويل، الحريريّ الملمس، يلاعبها برفقٍ وهو يقول:
“سأذهب إلى شنغهاي هذا الأسبوع لإجراء مقابلة.”
اتّسعت عينا غوي تينغ يوي بدهشةٍ صادقة:
“مقابلة… على ماذا؟”
أجابتها تشين شي:
“أحد الأصدقاء دلني على وظيفة. هناك فريقٌ فنّي يبحث عن عازف طبول.”
تفتّحت على شفتي غوي تينغ يوي ابتسامةٌ دافئة:
“هذا… رائع فعلًا.”
أرخى تشين شي ذراعيه عنها قليلًا، ثم وضع يديه على كتفيها يواجهها مباشرة:
“يمكنني أن آخذكِ في نزهةٍ لبضعة أيام هناك.”
انعقد حاجبا غوي تينغ يوي في عبوسٍ صغير:
“أرغب بالذهاب… حقًّا، لكن عليّ أولًا أن أستأذن أمّي.
في ذلك المساء، أخبرت غوي تينغ يوي والدتها بكل شيء. كانت هذه المرّة الأولى منذ زمنٍ طويل تُبدي فيها ابنتها رغبةً حقيقية في الخروج والتنزّه، فلم تُبدِ الأمّ اعتراضًا يُذكر، غير أنّها اشترطت، بحزمٍ أموميّ مألوف، أن يرافقهما شقيق غوي تينغ يوي الأصغر، وألّا يذهبا وحدهما تحت أيّ ظرف.
فهمت غوي تينغ يوي ما وراء هذا الشرط من قلقٍ خفيّ، فلم تُطِل الجدل، واكتفت بأنهاء المكالمة لتسأل تشين شي عن رأيه.
جاء ردّ تشين شي على الويتشات مختصرًا واضحًا:
“لا أمانع.”
سرعان ما أرسلت له غوي تينغ يوي رسالةً تُبالغ فيها بالتذمّر بدلال:
“ألا تريد قضاء بعض الوقت وحدنا، أنا وأنت فقط؟”
أجاب تشين شي:
“أريد.”
قهقهت غوي تينغ يوي وهي تكتب:
“إذًا لِمَ قلتَ: لا أمانع؟”
أرسل تشين شي ردّه الهادئ:
“لو وضعتِ نفسكِ مكان والدتكِ، لاعترضتِ أنتِ أيضًا.”
أطلقت غوي تينغ يوي ضحكةً ساخرة عبر الشاشة:
“أمّي سمعت اليوم من العمّة لي عن إنجازكِ العظيم في تحطيم الحاجز.”
سأل تشين شي:
“وماذا كان ردّ فعلها؟”
على الفور، أرسلت له غوي تينغ يوي رسالةً صوتية، تقلّد فيها صرخة أمّها المذهولة على الطرف الآخر من الهاتف:
“كيف يمكن لحبيبكِ أن يكون بهذه الجرأة؟!”
ثم أتبعَتها برسالة مكتوبة، كأنها تختم الموقف بحزم:
“فقلتُ لها: لا أحد يستطيع أن يفوز بقلب ابنتكِ… إلا شخص لا يهاب شيئًا.”
بعد ظهر يوم الجمعة، جاءت والدة غوي تينغ يوي ومعها غوي لينغ فنغ.
لم ترَ غوي تينغ يوي شقيقها الأصغر منذ أكثر من نصف عام، ولدهشتها حين وقفت أمامه وجدت أنّه قد نما حتى صار أطول منها برأسٍ كامل. رفعت رأسها مبهوتة تُقيسه بنظرها:
“شياو فنغ، متى… أصبحتَ بهذا الطول؟”
(*شياو يعني صغير)
هزّ الفتى كتفيه بلا مبالاةٍ مصطنعة:
“ألم أكن أطول منكِ أصلًا يا أختي؟”
غوي تينغ يوي: “…”
بعد أن غادرت والدتهما، جلس الشقيقان يتشاركان طبق الفاكهة على الطاولة. كان غوي لينغ فنغ يرمق أخته من حينٍ إلى آخر، بعينٍ متردّدة كأن على طرف لسانه سؤالًا لا يجد له مخرجًا.
في صباح اليوم التالي، وبما أنّه كان على وشك اللحاق برحلته، وصل تشين شي إلى منزل غوي تينغيو حوالي الرابعة فجرًا. كان البيت غارقًا في سكون ما قبل الفجر، وفتح له البابَ غوي لينغ فنغ، وهو يمسك بقطعة خبزٍ صغيرة، نصف نائم.
نظر تشين شي إليه، وخمّن هويّته في لحظة، فلم يبدُ عليه كثيرُ اندهاش.
أمّا الصبي، الذي كان لا يزال عالقًا بين النوم واليقظة، فحدّق فيه لثوانٍ، ثم اتّسعت عيناه فجأة، وانتزع الخبز من فمه، وقال متلعثمًا:
“أنت… أنت هو، صحيح؟”
ارتبك تشين شي قليلًا، وقطّب حاجبيه:
“أيّ واحد بالضبط؟”
تسارعت دقّات قلب غوي لينغ فنغ، ثم انتصب واقفًا و بصوتٍ مرتجف قال:
“أنت… أنت بوب كورن.”
ارتفع حاجب تشين شي في دهشةٍ طفيفة، ثم قال بهدوء:
“أوه… تشرفنا.”
“أختي—!”
استدار غوي لينغ فنغ فجأة، وقفز إلى الممرّ في ثلاث خطواتٍ واسعة وهو يهتف:
“أختي—!”
كانت غوي تينغ يوي في غرفتها تفرك أذنيها بضيقٍ نعسان:
“ما بك تصرخ؟ كم الساعة أصلًا؟ هل تريد أن يأتي الجيران يطرقون الباب؟”
صار نفس غوي لينغ فنغ أقرب إلى العويل الحماسي منه إلى الكلام الهادئ:
“لماذا لم تخبريني أن حبيبك هو عازفُ طبولِ بوب كورن؟! لماذا؟!”
هذه المرّة، جاء دور غوي تينغيو لأن تنظر إليه بوجهٍ مليء بعلامات الاستفهام.
•°•○•°•●•°•○•°•
بعد قليل، وهم في سيارة الأجرة المتّجهة إلى المطار، جلس غوي لينغ فنغ في مقعد الراكب الأمامي، تفور منه الحماسة فَوْرًا؛ لم يستطع الجلوس بثبات، فكان يلتفت مرارًا لينظر إلى تشين شي في المقعد الخلفي، يغتنم أيّ ثغرةٍ في الصمت ليفتح حديثًا جديدًا.
تحدّث معه بلطفٍ مبالغ فيه، أثنى على أغاني الفرقة، وعلى عروضهم الحيّة، وكلّما ناداه، ختم كلامه بنداء:
“أخي…”
أمّا تشين شي، فظلّ ردّه هادئًا طوال الوقت.
وبينما كانوا يصعدون إلى الطائرة وسط تدفّق الركّاب، رفع غوي لينغ فنغ صوته من دون أدنى خجل:
“يا صهري، تمهّل قليلًا.”
ابتسم تشن شي ابتسامة خفيفة، وفيها مسحة من العجز، وأمال رأسه قليلًا.
قرصت غوي تينغ يوي ذراعه بقوة، وهي تهمس بغضب:
“ما الذي يدور في رأسك؟ هل أصابك الجنون؟”
داخل المقصورة، جلس الثلاثة في صفٍّ واحد: غوي لينغ فنغ عند النافذة، وتشين شي عند الممرّ، وغوي تينغ يوي محصورة بينهما.
ومع ذلك، ظلّ غوي لينغ فنغ يتجاهل وجود أخته بإصرار، موجّهًا كل حماسته إلى تشين شي؛ ينهال عليه بالأسئلة، من كل نوعٍ وصنف، وتشين شي يجيب بصبرٍ هادئ، سؤالًا بعد سؤال.
لاحظت غوي تينغ يوي ذلك فجأة، واكتشفت أنّ صبره مع أخيها يفوق أحيانًا صبره معها هي نفسها.
اشتدّ انزعاجها، فالتفتت إلى غوي لينغ فنغ، وارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ رقيقة تخفي خلفها غيضها:
“شياو فنغ… لماذا لا تجلس في المنتصف بدلًا عني؟”
هزّ غوي لينغ فنغ رأسه بسرعة:
“لا، لا… كيف لي أن أُفرّق بينكما؟”
ساد صمتٌ قصير، قبل أن يدير رأسه مرة أخرى وينادي متعمّدًا:
كانت غوي تينغ يوي على وشك أن تُخرج قناع العين من حقيبتها لتأخذ قيلولة، لكن يدها توقّفت في منتصف الطريق، ثم سُحبت بلطف. خفق قلبها فجأة، فرفعت عينيها على تشين شي؛ لم يتحرّك صاحب اليد كثيرًا، اكتفى برفع جفنيه قليلًا، يبادلها نظرةً عميقة قبل أن يُطفئ شاشة هاتفه.
انفلتت عن شفتيها ابتسامةٌ هادئة، وردّت بتشابك يديها معه بخجلٍ لطيف.
خارج النافذة، كانت الغيوم البيضاء المنثورة تبدو ككتل قطنٍ مضيئة، تحيطها حواشٍ ذهبية، ناعمةً وفسيحةً إلى ما لا نهاية.
•°•○•°•●•°•○•°•
وحين طال الصمت، عاد الفضول يغلي في صدر غوي لينغ فنغ، فلم يستطع أن يتمالك نفسه وقال:
“هل يمكنني أن أطرح سؤالًا أخيرًا؟”
تنهدت غوي تينغ يوي في سرّها:
“تفضّل…”
سأل غوي لينغ فنغ:
“هل نحن ذاهبون إلى شنغهاي هذه الثلاثة أيام للترفيه فقط؟”
أجابت غوي تينغ يوي:
“لا، لدى تشين شي بعض العمل هناك.”
مال غوي لينغ فنغ إلى الأمام، وعيناه تلمعان بالفضول:
قال غوي لينغ فنغ “أوه” مرتين، وقلبهما بين أصابعه، ثم شهق في دهشةٍ خافتة حين لمح شيئًا:
“هنا… يوجد نقشٌ محفور.”
كانت غوي تينغ يوي تعرف مسبقًا ما الذي سيثيره اسم النقش، لذا حين سأل شقيقها ردت بدلًا من حبيبها:
“لا تُجهد نفسك بالسؤال… هذا اسم فرقته القديمة.”
“لا…”
انحنى غوي لينغ فنغ إلى الأمام، يقرّب وجهه من النقش ليتبيّن الحروف جيّدًا.
وفي اللحظة التالية، نقر بلسانه وكأن صاعقةَ استيعابٍ هبطت على رأسه، وبدأت في ذهنه تتردّد دقّاتُ الطبول التي يعرفها عن ظهر قلب. تمتم، وكأنه يختم عرضًا موسيقيًّا:
“هكذا إذًا… انتهيت من المشاهدة، شكرًا.”
ارتسمت على شفتي تشين شي ابتسامةٌ ساخرة خفيفة:
“فقط الآن… اكتشفتَ الأمر؟”
أجاب غوي لينغ فنغ:
“أجل.”
ثم عقد ذراعيه فوق صدره متظاهرًا بالامتعاض:
“إنه فقط… طعامُ كلابٍ*، لا أكثر. حسنًا، سألتهمه! وماذا بوسعي أن أفعل غير أن أبدو غبيًّا حين تطلب منّي أمّي ذلك؟!”
*تقال عن اظهار زوجين مودتهما علنًا.
نظرت إليهما غوي تينغ يوي في حيرةٍ صادقة، لا تلحق بخيط الحديث:
“عمّ تتحدّثان بالضبط؟”
التفت إليها غوي لينغ فنغ، وملامحه تشتعل غضبًا:
“أتظنّينني أعمى؟ هذا النقش ليس اسم فرقةٍ أبدًا… إنّه اسمكِ على ويتشات، مكتوبٌ أمامي بوضوح!”
التعليقات لهذا الفصل " 21"