حينها لم تعرف غوي تينغ يوي كيف تصف ما يعتمل في داخلها، لم يكن سوى إحساس عارم بالذوبان، كما لو أنّ جسدها كله قطعة من الزبدة تذوب ببطء فوق حمّام ماء دافئ.
فقدت القدرة على التعبير، ولم تجد سوى أبسط الكلمات لتقول:
“تشن شي، إنك شخص طيّب حقًا.”
فجاء رده مقتضبًا:
“كُفي عن هذا الكلام المبتذل.”
تنشقت الهواء لتخفي رعشة أنفها وقالت:
“لكنّك فعلًا إنسان طيّب.”
أجابها:
“هذا ما تظنينه فحسب.”
جلست على حافة السرير، وصوتها خافت:
“هل أنت حقًا مصابٌ أيضًا؟ أعني… بالاكتئاب.”
كانت تلك أوّل مرة تنطق فيها الكلمة دون خوف، لأنّها أخيرًا وجدت من يشبهها، من يبوح دون تردّد، ويشعر بما تشعر به.
فقال بهدوء:
“نعم.”
سألته:
“وما زلت تتعالج؟”
“لقد توقفت عن الدواء منذ قرابة نصف عام.”
قالت بقلق:
“لكن لا ينبغي التوقف عن العلاج بمفردك.”
“أعرف.”
“وكيف تشعر الآن؟”
أجابها:
“هادئ.”
ثم أضاف: “وأنتِ؟”
فكّرت لحظة وقالت بصدق:
“لقد بكيت كثيرًا للتو، وما زلت أشعر بأنني أودّ رؤيتك.”
ساد صمت قصير، ثم كتب:
“هل حقًا تريدين رؤيتي، أم أنّها مجرد كلمات عاطفية رخيصة؟”
ضحكت من عبارته، وتبخّر ما تبقّى من كآبتها:
“إن كانت كلمات عاطفية، فهي تعني أني أريد رؤيتك بشدّة.”
قال:
“انزلي، أنا تقريبًا وصلت إلى أسفل المبنى.”
أسرعت بالخروج، تنتعل حذاءها على عجل، وركضت نحو الباب قبل أن تلحق بها العمة لي لتسألها إلى أين.
وحين خرجت من المدخل، وجدته واقفًا عند نهاية الطريق، يحمل كيس تسوّق شفافًا من السوبرماركت، وبداخله زوج جديد من النعال البيضاء التي اشتراها لها.
(ملاحظة النعال الأول كان يكشف الكاحل والأصابع اما الجديد فهو مسكر.)
لم يظهر على وجهه تعبير يُذكر، أمّا هي فابتسمت.
كانت عيناها محمرّتين من أثر البكاء، كسماءٍ انقشعت عنها الغيوم بعد المطر، ما زالت تحتفظ بشيءٍ من الوهج.
تبادلا النظرات لحظة طويلة، كأنّهما يلتقيان لأوّل مرّة. ثم قال بهدوء وهو يبتسم بخفّة:
“هل انتهيتِ من المشاهدة؟ إن كنتِ قد انتهيتِ فسأعود الآن.”
“آه…” خرجت منها بهدوء.
“آه ماذا؟”
تقدّمت نصف خطوة وقالت ماكرة:
“هل يمكننا أن نقدّم موعد الغداء قليلًا؟”
“نقدّمه؟ بماذا تقصدين؟”
“أقصد أن نحول فطور الغد إلى غداء اليوم.”
لم يجب فورًا، ثم قال:
“قلت إننا سنتناول الفطور غدًا فقط.”
“فلنعتبره غداء يجمع مريضَين قديمين.”
ابتسم ساخرًا:
“أنا لم أعتقد يومًا أنني مريض.”
“إذًا فأنتَ متفائل حقًا… أو، حسنًا، فلنقل إنها جلسة تعارف مع معجب.”
قطّب حاجبيه:
“منذ متى صرت أبدو كشخص يمكن التفاهم معه بهذه السهولة؟”
“لا أعلم، ربما زرتني في الحلم وأخبرتني بذلك.”
ضحك بخفة.
قالت باسمه:
“تشن شي.”
“نعم؟”
“أيمكن؟ لا ترفض، أرجوك. أن تُقطع العاطفة فجأة أمر مؤلم للغاية.”
تنهد مستسلمًا، ثم لوّح بيده:
“حسنًا، هيا بنا.”
تبعت خطاه مفعمة بالنشوة، وسارت إلى جانبه تبتسم، ثم سألته:
“كيف اكتشفت أمري؟”
ألقى عليها نظرة جانبية:
“وهل كان من الصعب؟”
“لا أعلم… على الأقل لم أشعر أنك مثلنا. أنت… آه!” انتبهت فجأة، وارتفع صوتها:
“في المرة السابقة، حين أخذتني إلى الكرواكي، هل كان ذلك بسبب هذا؟”
أومأ:
“نعم.”
تنفست بأسى وقالت:
“كنت أظن أنني أسرتك بسحري الشخصي.”
ابتسم بخفة.
ثم قالت بصوت منخفض:
“هل كنتَ تشفق عليّ؟”
“ولِم أشفق عليكِ؟ الشفقة عليكِ تعني الشفقة على نفسي.”
خفضت رأسها قليلًا وقالت:
“لكنّك ما زلت تضرب الطبول، أما أنا فلا أستطيع فعل أيّ شيء.”
قال:
“ولو لم أفعل، فبماذا سأقضي وقتي؟”
شعرت بغصّة، ثم حاولت التخفيف من ثقل اللحظة:
“يمكنك التحدث معي مثلًا.”
“الحديث معك يُفسد شهيّتي للطعام.”
زمّت شفتيها:
“وماذا فعلتُ الآن؟”
“أنتِ تعرفين.”
“……”
سكتت لحظة ثم تمتمت:
“أنت وسيم، لا بد أن الفتيات يحاولن التقرّب منك دومًا. أراهن أنهنّ يقلن لك أشياء أكثر دلالًا مما أقول.”
تردّد قليلًا، ثم قال:
“أنتِ أكثر…”
قاطعتْه بسرعة وهي تشدّ على مخارج حروفها:
“لَطافة!”
أدار وجهه جانبًا وتنفّس بخفّة ضاحكًا:
“كما تشائين.”
قالت بإصرار:
“على الأقل أنا أفهمك، أما هنّ فلا.”
“تفهمينني؟ وماذا تفهمين تحديدًا؟”
همست بخجل:
“أفهم هشاشتك الصغيرة، ودفء قلبك الخفي.”
توقّف عن السير وقال:
“توقّفي، لا تكملي.”
“ماذا؟”
“ها قد بدأتِ مجددًا.”
“لكنني أقول الحقيقة!”
“أنتِ لا تفهمين.”
“إذًا، حسنًا، لا أفهم! أنا الفتاة الصغيرة التي لا تفهم شيئًا!” قالتها بمزاح طفولي وهي تهز رأسها يمنة ويسرة.
تنهد تشن شي مرة أخرى، شاعراً بالعجز أمامها، ثم قال في نفسه إنّ كل ذلك بسبب ملامحها الطرية اللطيفة، وجهها الناعم الأبيض كالتوفو الجنوبي، هشٌّ لدرجة أنّه لا يجرؤ على لمسه.
في المطعم، طلب وعاء طاجن التوفو أولًا، ثم سلّم القائمة لها:
“اختاري الباقي.”
تناولت القائمة وقالت:
“ألن تطلب شيئًا آخر؟”
“لا، هذا يكفيني.”
اختارت أربع أطباق عشوائية، وبعد أن غادر النادل، شبكت يديها أمامها ونادته:
“تشن شي.”
رفع نظره بفتور:
“نعم؟”
قالت مبتسمة:
“لماذا اسمك تشن شي؟”
أشار بذقنه نحو هاتفه الموضوع على الطاولة:
“اسألي والديّ إن أردتِ.”
سكتت لحظة ثم تابعت:
“وماذا كنت تعمل قبل ذلك؟ أخبرتُك عن نفسي، الآن دورك.”
قال:
“كنت أضرب الطبول.”
“في فرقة موسيقية؟”
“نعم.”
اتّسعت عيناها بدهشة:
“حقًا؟”
أومأ ثانية.
“وهل ما زلتم تعزفون معًا؟”
“لا، لقد انحلّت الفرقة.”
صمتت قليلًا ثم قالت بخفوت:
“آسفة، لم أقصد أن أفتح جرحًا.”
لكنه أجاب بلا مبالاة:
“هذا حال الموسيقى؛ يوم تحت الأضواء، ويوم في الصمت.”
قالت بعد لحظة صمت:
“لكنّي لا أراك غائبًا، صوت طبلك ما زال يملأ المكان بالقوة. إذا كنت أنا، بكلّ ما فيّ من انكسار، أستطيع أن أتأثر به، فبالتأكيد غيري أيضًا يسمعه.”
ابتسم وقال:
“سواكِ يشتكون فقط من الضجيج.”
ضحكت بحنان:
“هؤلاء المزعجون لا يفهمون شيئًا عن الفن، فقط يتذمّرون!”
أثار تعليقها ضحكة مكتومة منه.
ثم جاء النادل بطاجن التوفو، وبدأ الاثنان يتناولان الطعام بصمت.
بعد الغداء، افترقا كلّ إلى منزله.
عاد تشن شي وغسل يديه، ثم وقف أمام غرفة التمرين. كانت مجموعة الطبول في الظلّ، تلمع صُحونها المعدنية، لكنها تحمل آثار الضربات القديمة.
وقف ينظر إليها طويلًا، ثم استدار مبتعدًا إلى غرفة نومه ليستريح.
وقبل أن يضع رأسه على الوسادة، أمسك بهاتفه ليرى ما إذا كانت تلك الفتاة العجيبة قد أرسلت شيئًا.
فوجئ بأنّ مجموعة المُلّاك، التي لم يسمع منها صوتًا منذ انضمّ إليها، تتصدّر شاشة المحادثات.
كانت أوّل رسالة من صورة يعرفها جيدًا:
“هل سمع أحدكم مؤخرًا صوت الطبول في فترة العصر؟ بين الرابعة والرابعة والنصف؟ إنه جميل جدًا!”
وتوالت الردود:
“سمعناه! من العازف؟ مذهل، أشعر أني في فيلم Whiplash الحقيقي!”
“ابني صار يريد تعلّم الطبول بسببه، وأنا لا أعلم كيف أوقفه!”
“أظنه من مبنانا، ويبدو أنه وسيم أيضًا!”
ثم انهالت الرسائل:
“وسيم؟ من هو؟ نريد أن نعرف!”
“هل هو في المجموعة؟”
“من سيذكره؟”
“في أي مبنى؟ أريد الذهاب للاستماع!”
توقف للحظة، مذهولًا، ثم خرج من المجموعة وفتح محادثة خاصة مع غوي تينغ يوي:
“؟”
ردّت ببراءة:
“ماذا هناك؟”
كتب:
“ماذا فعلتِ؟”
“أنشر الحبّ في العالم.”
“ماذا تعنين؟”
“أعني… ربما لا أعرف كيف كان ماضيك، لكنّي أريد أن أقول إنّك لم تختفِ. صوتك ما زال يضيء في أماكن كثيرة… ما زلتَ تشتعل وتُضيء.”
التعليقات لهذا الفصل " 14"