في صبيحة اليوم التالي، نهضت غوي تينغ يوي باكرًا على غير عادتها.
في الماضي، لم يكن ثمّة فارق يُذكر بين الصباح والليل بالنسبة إليها؛ كلاهما كانا يمتزجان في عينيها بلون رمادي باهت، كجدارٍ يطوّقها من الجهات الأربع.
أما الآن، فقد غدا للصباح بياضٌ يحمل في طيّاته الأمل، ولليل سوادٌ تلمع فيه نجوم حالمة، والعصر بريقٌ كالعنبر، والغروب كحُمرة الورد… وكلّها تصطبغ بلونٍ واحد: لون تشن شي.
بعد أن أنهت استحمامها الصباحي، بدّلت ثيابها وارتدت بذلة رياضية بيضاء، ثم نزلت إلى الساحة تركض في هدوء الصباح.
كان الهواء عليلًا، والأشجار تترنّح في نسيمٍ ناعم، فيما كانت هي تمضي بخطوات خفيفة ورشيقة، كطائر البلشون الأبيض¹ حين ينساب فوق سطح الماء.
توجّهت بعد جولتها إلى متجر الفطور القريب، ثم عادت تحمل كيسًا ورقيًّا في يدها.
وقفت تحت المبنى حيث يسكن تشن شي، وقامت بالاتصال فيه.
رنّ الهاتف ثلاث مرات قبل أن يُجيب بصوتٍ خافتٍ مبحوح، يغلّفه النعاس:
“مرحبًا…”
رفعت الهاتف إلى أذنها وابتسمت بعينيها:
“اشتريتُ لك فطورًا، هل تنزل لتأخذه أم أصعد إليك؟”
ساد الصمت لحظة، ثم جاء صوته أكثر صفاءً بعد أن استيقظ تمامًا: “اتركيني وشأني يا غوي تينغ يوي.”
تجاهلت عبارته بمرحٍ واضح:
“إذًا، لقد حفظتَ اسمي هذه المرة!”
تمتم بتنهيدةٍ متثاقلة، كمن يحاول إدراك الوقت:
“كم الساعة الآن؟ السابعة والنصف؟ لا يُعقل… متى نمتِ البارحة؟”
“بعد أن قلتَ لي تصبحين على خير، نمتُ فورًا. ونمتُ بعمقٍ نادر.”
سكت برهةً أخرى، ثم دوّى صوتُ قُفل الباب الرئيسي للمبنى، وأردف بصوتٍ سريعٍ كأنه يخشى التراجع:
“رمزُ الباب هو 6285، ضعي الطعام ثم غادري.”
“حسنًا.”
صعدت بهدوء، وما إن فتحت الباب حتى وقفت مذهولة أمام بساطة شقّته المفرطة.
كانت الجدران بيضاء خالية، لا أثاث إلا القليل: أريكة سوداء في غرفة المعيشة، ومطبخ لا يحتوي سوى خزانة وطاولة صغيرة. خُيّل إليها أن لصًّا مرّ من هنا ليلة الأمس وسرق كلّ ما يمكن حمله.
تجوّلت بعينيها حتى استقرت على خزانة الأحذية الحديدية السوداء؛ كانت مرتّبة بدقّة، تحوي أحذية رياضية وقماشية وغيرها، كلها بألوانٍ داكنة متقشّفة. ولم تجد أيّ زوجٍ مخصّصٍ للضيوف.
ارتسمت على شفتيها ابتسامة باهتة، ثم تمتمت في نفسها:
“على الأرجح لا تزورك النساء كثيرًا…”
لكنها ما لبثت أن ابتسمت بارتباك:
“بل ها أنا هنا.”
ولأنها لم تجد حذاءً لتبدّله أو غطاءً لقدميها، وقفت متردّدة عند الباب، ثم قررت أن تتصل به من جديد.
رنّ الهاتف في اللحظة ذاتها من الداخل والخارج، فكأن الصدى تردّد بين الجدران.
فوجئت هي بالاتصال المتزامن فأغلقت سريعًا، لكن الباب فُتح فجأة، وخرج تشن شي بخطواتٍ سريعة.
كان شعره منكوشًا، وعيناه تبرقان بنعاسٍ ممزوجٍ بانزعاجٍ خفي، وجسده العاري حتى الخصر يشعّ بقوة وفتوة. بدا كمَن استُدرج من النوم إلى ساحة معركة.
قال بحدةٍ باردة:
“ما الذي تنوين فعله بالضبط؟”
أمالت وجهها جانبًا كي لا تُطيل النظر إلى ملامحه المكشوفة، ثم رفعت الكيس الورقي وقالت:
“لم أدرِ أين أضع الطعام، ولا يوجد حذاءً أرتديه، فخشيتُ أن أدخل دون إذنك.”
مدّ يده نحوها دون كلمة، فأعطته الكيس.
وعندما لمح اضطراب نظراتها واحمرار أذنيها، أدرك فجأة أنه خرج إليها نصف عارٍ، فارتبك هو الآخر، ومسح شعره بعصبية قائلاً:
“هل تناولتِ فطورك؟”
“ليس بعد.”
قال وهو يحاول تلطيف الموقف:
“سأرتدي ثيابي إذًا.”
تمتمت بصوتٍ خافتٍ كأنها تخفي ارتباكها:
“كما تشاء…”
ولما همّ بالعودة، التفت قائلًا:
“ادخلي، لا حاجة لتبديل الحذاء.”
“حسنًا.”
خطت ببطءٍ إلى الداخل، بينما وضع الطعام على المائدة واتجه إلى غرفته ليبدّل ملابسه.
في طريقه صادفها تمشي نحوه، فاصطدمت نظراتهما لوهلةٍ قبل أن يتحاشيا بعضهما في صمتٍ مربك.
حين عاد مرتديًا قميصًا أسود، وجدها قد رتبت وجبة الفطور على المائدة بعنايةٍ مدهشة، تتصاعد منها روائح شهية.
وقف يراقبها في صمت، حتى رفعت رأسها نحوه وقالت مبتسمة:
“ارتديتَ ثيابك أخيرًا؟”
“نعم.”
“لكن بصراحة، كنتَ أجمل دونها.”
تجمّد فكه لحظة، ثم قال بنبرةٍ متوترة:
“هل أنتِ امرأة بالفعل؟”
“ولِمَ لا أكون كذلك؟ مجرد ملاحظة موضوعية لا أكثر.”
تنهّد، وتوجّه إلى الحمّام ليغسل وجهه. نظر إلى نفسه في المرآة، شعره مبلول، وعيناه مثقلتان بالتعب، فابتسم ساخرًا وهو يتذكّر الموقف قبل قليل.
“لقد فازت عليّ هذه المجنونة…”
تمتم لنفسه، ثم عاد إلى المائدة.
كانت غوي تينغ يويه تأكل بهدوء، مركّزة كليًّا على صحنها، كأن شيئًا لم يحدث.
جلس أمامها وبدأ يتناول طعامه، فقالت دون أن ترفع رأسها:
“قدّمتُ لك وجبة اللحم والخضار، أتمنى أن تعجبك.”
“أيّ شيءٍ يفي بالغرض.”
دفعت نحوه طبقًا آخر:
“وهذا أيضًا لك.”
“إنه كثير.”
“كُلْ ما استطعت، لا تترك شيئًا.”
ضحك بخفة وقال:
“تتحدثين تمامًا كوالدتي.”
“ربما لأنني من نوع الأمهات الفخورات بأبنائهن.”
“الأمهات لا يقلن: كنت أجمل دون قميصك.”
أطرقت مبتسمة:
“أعتذر إذًا، سأكون أكثر رصانة في المرات القادمة. عليك أن تحافظ على صحتك، الجوّ بارد، احذر أن تُصاب بالزكام. فالرجال الذين يعيشون وحدهم يحتاجون إلى رعايةٍ مضاعفة.”
رفع حاجبيه متعجبًا:
“تتحدثين وكأنكِ أمٌّ بالفعل… إنكِ مخيفة.”
ـ”ومع ذلك تأكل طعامي! احذر، قد أكون دسستُ فيه السمّ!”
ضحك، وأبعد الوعاء عن متناولها في حركةٍ ماكرة، ثم قال وهو يبتسم:
“لن أسمح لكِ بالاقتراب منه بعد الآن.”
تأملته لحظةً، ثم تمتمت:
“إنك تبتسم كثيرًا اليوم.”
“أفي هذا ما يزعجك؟”
“بل العكس… تبدو رائعًا حين تبتسم.”
توقف للحظةٍ وقطّب حاجبيه:
“هل يمكن أن تتوقفي عن إطلاق هذه العبارات الغريبة؟”
“إنها ليست غريبة، بل صادقة تمامًا.”
هزّ رأسه مستسلِمًا:
“لنتناول الطعام فحسب.”
مرّت لحظات من الصمت، قبل أن تقول وهي تحدّق فيه بهدوء:
“يبدو أنك لا تكرهني.”
رفع نظره إليها:
“وما الذي يجعلكِ تظنين ذلك؟”
“سمحتَ لي بدخول بيتك، وها نحن نتناول الفطور معًا. أظنّ أنك لا تمانع في وجود معجبةٍ بجوارك.”
ابتسم نصف ابتسامة وقال:
“لا أرى ضررًا في ذلك.”
“تبدو مجاملًا أكثر من اللازم.”
“وهل في ذلك بأس؟”
“بل عليك أن تكون صادقًا، أخبرني السبب الحقيقي وراء سماحك لي بدخول حياتك.”
أشار برأسه نحو الجهة اليسرى:
“هناك مرآة في المدخل، ستخبرك بالسبب.”
احمرّ وجهها وقالت محاولة إخفاء ارتباكها:
“أهذا ما لديك من حجج سطحية؟”
قال ببرودٍ ساخر:
ـ”ومن كانت تراقبني بالمنظار لأسابيع لا يحقّ لها الحديث عن السطحية.”
“لقد رميته.”
“ثم قررتِ مطاردتي وجهًا لوجه، أليس كذلك؟”
“أعيش بالجوار، ومن الطبيعي أن نلتقي. لا داعي للمبالغة.”
“لم يُجبرك أحد.”
“أفعل ما أريد، وما شأنك أنت؟”
“كما تشائين.”
“سآتي غدًا أيضًا.”
“بعد العاشرة صباحًا، من فضلك.”
“هل تريد فطورًا أيضًا؟”
“بل لا تأتِ أبدًا.”
“سآتي.”
“سأغلق هاتفي قبل العاشرة.”
“لديّ رمز بابك.”
“سأغيّره حالًا.”
“لن أسمح بذلك.”
•°•○•°•●•°•○•°•
انتهت وجبتهما على هذا النحو، في جدالٍ لا يخلو من ألفةٍ خفيّة.
وحين غادرت أخيرًا، تمدّد تشن شي على سريره، مغلوبًا من الإرهاق، وأغلق عينيه ليستسلم للهدوء.
غير أنه لم يلبث طويلًا حتى فتحهما من جديد، تناول هاتفه، وفتح تطبيق التسوّق الإلكتروني.
كتب في خانة البحث: شبشب نسائي.
اختار زوجًا أبيض اللون، وأضفاه إلى سلة المشتريات.
توقّف قليلًا وهو يتأمل اختياره، ثم تمتم مبرّرًا لنفسه:
“فقط لأتجنّب الإزعاج غدًا.”
بعد أن أقنع نفسه بذلك، أتمّ عملية الشراء بلا تردّد.
التعليقات لهذا الفصل " 12"