الفصل 8 : أكاديميّة الضُباط الكارثيّة التي حتى النُّخبة تراها لأول مرّة ²
“لم أفهم جيّدًا؟”
كان الوضع الذي واجهته كلوي الآن مُذهلًا إلى حدّ أنّ كلماتها التي قالتها في نفسها خرجت من فمها بلا وعي.
وبالمناسبة، “لم أفهم جيّدًا؟” في مثل هذا الموقف لا تعني حقًّا أنّها لم تسمع، بل هي طريقة مهذّبة لقول: “أيُّ هراءٍ هذا؟” لكن بصورة محترمة تجاه مُشرف أعلى رتبة.
وقد أعاد المدرّب كلامه بلُطفٍ شديد ليجعلهم يواجهون الواقع.
“هذا هو السّكن الذي ستقيمون فيه طوال هذا العام.”
بمعنى… المكان الذي كان الطلّاب الكبار قبل قليل يحطّمونه بوجوهٍ مفعمةٍ بالابتهاج، كان في الحقيقة هو المسكن نفسه.
ومن خلال ما كانوا يقولونه، بدا أنّ ذلك المسكن الذي يشبه مجسّمًا فنّيًّا كان من بنائهم الخاص.
وكما فعل أسلافهم، وأسلاف الأسلاف، فإنّ السّبب الوحيد وراء تحطيمهم السّكن المؤقّت الذي بذلت الدفعة 86 جهدًا كبيرًا لبنائه والعيش فيه لعامٍ كامل، هو واحدٌ فقط.
لأنهم هم عانوا ما عانوه، ولا يرغبون أن يستمتع أولئك الصغار بما بنوه بعرقهم دون أن يمرّوا بالمعاناة نفسها.
كان هذا مثالًا واضحًا على سبب تكرار العادات السيّئة والفساد.
“لا يوجد أيُّ شيءٍ هنا، فكيف يُفترض بنا أن ننام؟!”
“ودورات المياه؟ وغرفة الاستحمام؟ لقد تلطّخنا بالقمامة في حفلة الاستقبال، وتريدون منّا أن نبقى هكذا؟”
“هل يحقّ لكم فعل هذا لمجرّد أننا لم ندفع الرسوم؟ سأرسل إلى عائلتي فورًا لأدفع الرسوم، فامنحونا مكانًا مناسبًا للنوم!”
ثمّ انفجر المكان بصراخ ثلاثين طالبًا في وقتٍ واحد، حتى أصبح الضجيج مؤلمًا للأذن.
“اخرسوا!”
بصرخةٍ مرعبة ومجلجلة، خيّم الصمت على المكان كأنّ أحدهم صبّ ماءً متجمّدًا فوق رؤوسهم.
وبرعبٍ مُخيف، جعل المدرّب الذين كانوا يثيرون الشغب في المجتمع يرتجفون للحظة.
ثمّ انطلقت العقوبة فورًا.
“الذي يتأخّر عندما آمر بالنهوض سيعودون إلى الخلف للنوم! إلى الأمام للنوم الآن! لِمَ لا تتحرّكون بسرعةٍ أكبر؟!”
كان النوم في العراء مُذلًّا بما فيه الكفاية، وها هم أيضًا يتعرّضون للعقوبة.
لكن عندما حاول أحد المتمرّدين أن يهجم على المدرّب وهو يصرخ بأنّه لا يفهم لماذا يُعاقَب، ارتفع مستوى العقوبة للجميع، وأصبح هو السبب في معاقبة المجموعة كاملة، فصمت الجميع بعدها بلا اعتراض.
ومع اختلاط رائحة العَرَق برائحة القمامة التي سقطت عليهم في حفلة الاستقبال، أصبح حتى التنفّس أمرًا شاقًّا.
“من الآن فصاعدًا، عندما تطرحون سؤالًا، تُعرِّفون بأنفسكم أولًا بالرّتبة والاسم. وتنتهون دائمًا بكلمتَي ‘دا’ أو ‘كا’. فهمتُم؟”
*إشارة إلى الاحترام
وبعدما أنهك الدفعة 87 تمامًا، أوضح المدرّب لهم التصرّف الذي عليهم الالتزام به.
“لماذا لا تُجيبون؟”
ولمّا كان الجميع مشغولين باللهاث بصعوبة، لم يجب أحد، فتألق بريقٌ مرعب في عين المدرّب الوحيدة.
“فهمت…؟”
“فهمنا؟”
“فهمنا!”
“نعم، فهمنا تمامًا!”
حتى في هذا الردّ القصير، تميّز الحمقى عن أصحاب الفهم السريع.
‘حقًّا… يبدو أنّ مدربي هذه الأكاديمية، الذين اعتادوا على ترويض المتمرّدين، مختلفون تمامًا في شدّتهم عن مدربي الأكاديمية الملكية المركزية.’
وفيما كانت كلوي تُقارن بين مدرّبي الأكاديميتين في نفسها، رفع ألتاير يده وتكلّم.
“لدي سؤال.”
“ألم أقل إنك تُعرِّف بنفسك أولًا عندما تسأل؟ هل كلام المدرّب عندك مزحة؟!”
ورغم صرخة المدرّب التي تُرعب الحجر، لم يتراجع ألتاير.
“كيف نُعرِّف بأنفسنا؟”
وقد أطفأ هذا السؤال حدّة المدرّب تمامًا.
“تُعرِّفون بالرّتبة، ثمّ الانتماء، ثمّ الاسم.”
“وما هو انتماؤنا؟”
وبدا من نبرة صوته أنّه لا يُبالي أصلًا بالخطوات، فأطلق المدرّب تنهيدةً طويلة. ثمّ أشار مباشرةً إلى كلوي، التي أدّت أمس تعريفًا مثاليًّا.
“أنتِ هناك، قدّمي مثالًا للآخرين.”
“متدرّبة الدفعة 87، كلوي وينساليت.”
“سمعتم؟ هذا ما يجب فعله. المتدرّبة وينساليت، لكِ نقطة امتيازٍ واحدة.”
وأومأ المدرّب برضا لمنحها نقطة.
لكن لأن المكان مليءٌ بالمتمرّدين المستهترين، لم يغبطها أحد، بل أخذوا يتهامسون ويسخرون منها قائلين إنها “متفوّقة”.
إلا أنّ لقب “الطالبة المثالية” لم يكن يُشكّل أيّ أثر في نفس كلوي. فهي طوال حياتها سمعت ما هو أسوأ بكثير مثل: “يا يتيمة” أو “يا تعيسة الحظ بسبب والديك”، لذا فهذا لا يُحرّك فيها شيئًا.
“متدرّب الدفعة 87، ثيودور كالينس. لدي سؤال. ماذا عن دورات المياه وغرف الاستحمام؟”
كان الصوت الناعم مألوفًا للغاية، فالتفتت كلوي من طرف عينها لتتعرّف على صاحبه.
فرأت قائد عصابة اللّصوص، ثيودور كالينس، الذي كان يبتسم ابتسامةً مزيفة للمدرّب. يبدو أنّه استطاع بطريقةٍ ما الوصول في الوقت المسموح دون أن يُستبعد.
“دورات المياه المشتركة وغرف الاستحمام المشتركة في الطابق الأول من مبنى السّكن. استخدموها بذكاء.”
كان قصده واضحًا: لا تستخدموها في الوقت الذي يستخدمه الكبار، وإلا ستتعرّضون للإهانة أو العقاب. على الأرجح لن يسمح أحدٌ للطلاب الجدد أن يستخدموها قبل كبار السن.
وعادةً، كان العقاب لا يقع على المخطِئ فقط، بل على الدفعة كلّها.
وبعدما عادت كلوي إلى أدنى مرتبة في السّلّم مثل بقية دفعتها، تذكّرت حياتها الجميلة في السنة الرابعة بالأكاديمية الملكية المركزية، حيث كانت في أعلى السلم بعد سنواتٍ من المعاناة.
وبعد انتهاء المدرّب الأعور من تقديم كل التعليمات، ترك المكان وهو يقول إنّه سيلغي تفقد المساء اليوم.
وبقيت الدفعة 87 وحدها وسط أنقاض السّكن المؤقت.
وبين زملائها المذهولين، بدأت كلوي تُفتّش الأنقاض بعينين مشتعلة بحثًا عن أي شيء يمكن إعادة استخدامه.
‘هذا… أشبه بما لو أنهم دعسوه دعسًا كاملًا.’
لقد دمّروا كل شيءٍ بجدّية لدرجة أنّ العثور على أي شيء يمكن استخدامه في بناء مأوى مؤقت كان أشبه بالبحث عن إبرة في صحراء.
ومن المؤكد أنّ الطلّاب الكبار حصلوا على هذه المواد من مكانٍ ما عندما بنوا سكنهم المؤقّت. ربما لو تجوّلت كلوي في نورثفورت ستجد مثلها.
وبينما كانت كلوي جالسة تُفكّر في أنواع المواد اللازمة، أظلها ظِلّ.
رفعت رأسها، لتجد في وجهها ابتسامةً مزيفة.
“يا للعجب… صاحبة الرقم القياسي الأسرع تبحث في القمامة؟ أليس من المفترض بمن يملك رقمًا قياسيًّا كهذا أن يُظهر قدراته؟ لا أن يُنقّب في القمامة، مثلًا.”
إنّه قائد العصابة، ثيودور كالينس.
يبدو أنّ غضبه بسبب إطاحتها به سابقًا وإجباره على خوض الجحيم في حقل الألغام لم يهدأ، فهو يحاول الآن إذلالها أمام الآخرين.
“بالمناسبة… وينساليت، هاه… لم أسمع بهذه العائلة من قبل. هل هي موجودةٌ أصلًا؟”
لكن لسوء حظه، حتى لو انتقص من العائلة، فلن يمسّ هذا كلوي نفسها إطلاقًا، فالعائلة ليست عائلتها.
وإن كان أحدٌ سيتلقى الإهانة بدلاً عنها، فذلك أفضل لها!
ولأن العامة لا يُسمح لهم بدخول أكاديمية نورثفورت، فقد دخلت كلوي—بوصفها عامة—بهوية نبيلةٍ مزيّفة، كونها قريبةً بعيدة للقائد.
وقد قامت وحدة العمليات بتولّي تزوير أوراقها وهويتها، لذلك حتى لو حاولت الأكاديمية التحقق من هويتها فلن يجدوا شيئًا.
وكانت كلوي واثقة تمامًا من قدرتها على العيش وسط أبناء النبلاء دون أن تُكشف حقيقتها.
وبينما تذكّرت خلفيتها غير العادية، خطرت ببالها وجوهٌ اشتاقت إليها، فحاولت قطع ذلك الشعور قبل أن تزداد كآبتها.
“طالما أنني هنا… فهذا يعني أنّ عائلتي موجودة. هل تَستعمِل رأسك أم تحمله للزينة؟”
صدّت كلوي الاستفزاز بأكبر قدر من الوقاحة، وربما ظهر شيء من صدقها دون قصد.
وقد اعتادت على الشتائم أكثر بكثير من هذا، فلم يشعر قلبها بأي اضطراب.
وبينما كان الفارق في الخبرة بين كلوي وثيودور كبيرًا، لم تكن لتغضب من مراهقٍّ يزعجها بمنقار فرخٍ صغير.
ولمّا همّ ثيودور بفتح فمه مجددًا ليستفزّها، لم يصل حتى إلى مُنتصف الجملة.
فقد أمسكت كلوي بثيابه وذكّرته بذكريات حقل الألغام.
وعندما فقد توازنه وارتفع في الهواء قبل أن يُقذف أرضًا، أغلق عينيه استعدادًا للارتطام.
لكن بعد مرور وقت دون أن يشعر بالألم، فتح عينيه بحذر.
ليجد نفسه مُعلّقًا بين الأرض ويد كلوي، على بُعد مسافةٍ صغيرة.
واحمرّ وجهه بشدّة عندما أدرك وضعه المُهين.
فكلوي—حتى لو لم تغضب من الفرخ—كانت قادرةً تمامًا على أخذ الأمور معه بجدّية كاملة.
التعليقات لهذا الفصل " 8"