72

“نعود؟ إلى أين؟”

سألتُ و أنا أميل برأسي باستغراب.

“إلى داخل ذاكرة ذلك الوحش، طبعًا. الطريقة … حسنًا، أظن أننا إن اقتربنا منه سيحدث ذلك. لكن، هذا الوحش لا يحاول سحبنا إليه هذه المرّة. هممم.”

لمّا لم تظهر المجسّات التي التهمت جميع من في الطابق الثالث في السابق، بلعت وليّ العهد ريقه.

بدت تنهيدته قريبة من أسلوب إبريل في التعبير.

اقتربنا ببطء من الوحش الموجود في قاعة العشاء.

تأمّلتُ مظهر الوحش من الأمام.

لم يكن يبكي بعد الآن.

كان جالسًا بعمق على الكرسي في القاعة، يُصدر صوتًا غريبًا ومنتظمًا: “غَرغَر … غَرغَر …”

بدا وكأنه صوت شخير.

“إنه نائم! يبدو أنّه يحلم حلمًا جميلًا!”

قلتُ وأنا أشير إلى الوحش، ثمّ ضحكتُ ضحكة طفولية.

“وحشٌ نائم؟”

قال وليّ العهد، غير مصدّق، وهو يرفع يده تجاهه.

وفي تلك اللحظة، اختفى وليّ العهد.

‘آه، هكذا يُفترض أن ندخل إذًا؟’

يا له من اختصار غريب في التصميم.

في الوضع العادي، كنا نخرج إلى إحدى خرائط الذاكرة. لكن في وضع الصعوبة، نعود من خارج الذاكرة.

ثمّ بدأ الوحش يتمتم بصوت غريب:

[العشاء.]

[قلب أكويليوم.]

“هل … تكلّمتَ مع إبريل؟”

قلتُ ذلك وأنا أواصل التمثيل بشخصيّة السيّدة الساذجة، رغم أنّني أعلم أنّ لا أحد يراني الآن.

[في الصحون العادية … العشاء.]

[وفي الصحون الخاصة … قلب العدو.]

ما زال الوحش مغمض العينين. بدا وكأنه نائم، لكن صوته الخافت أصبح يهدر بقوّة.

غمر صوته القاعة بأكملها.

وفجأة، فتح الوحش عينيه الحمراوين اللامعتين، وحدّق بي.

[أحضِروا لنا قلب أكويليوم الذي قتلنا.]

كانت تلك “رسالة الهدف”.

وفي اللحظة التي امتدّت فيها مجسّاته السوداء من جديد، عدتُ إلى قاعة العشاء في الطابق الثالث، داخل ذاكرته.

“ليدي أبريل!”

تنفّس وليّ العهد الصعداء حين رآني أظهر.

“جيد. كنتُ قلقًا لأنني تركتكِ وحدكِ.”

“هل كنتَ قلقًا على إبريل؟”

“بالطبع. من الطبيعي أن أقلق إن تركتكِ وحدكِ، آنستي.”

بينما كنا نتحدّث، كان الناجون والخدم بلا رؤوس يتحركون بنشاط.

قاعة العشاء المزخرفة كانت تعجّ بالمأكولات الفاخرة والزينة الرائعة، حتى إنّها بدت كأنّها على وشك أن تشهد عشاءً حقيقيًّا.

لكن لسبب ما، بدا أنّ الكثير من الناس يحدّقون بنا.

“جلالتك! الجميع ينظرون إلى إبريل وجلالتك”

“……”

كانت نظراتهم تتنقّل بيني وبين وليّ العهد، ثمّ يلقون نظرة خاطفة أخرى عليه.

وليّ العهد، الذي نظر حوله، بدا وكأنّه أدرك السبب.

من المؤكّد أن المنظر بدا غريبًا: وليّ العهد ذو البنية الضخمة، وبجانبه سيّدة نبيلة ضعيفة البنية تحمل وحدها رمحًا ضخمًا وشخصًا بالغًا – يوريل.

أدرك وليّ العهد شراسة النظرات حوله، فخاطبني بخجل:

“آنستي … دعيني أحمل السيّد يوريل بدلًا منكِ.”

“لكن جلالتك ضعيف، أليس كذلك؟ إبريل بخير.”

“صحيح أنّكِ بخير، آنستي … لكن أنا لستُ كذلك.”

نظرات النبلاء الناجين كانت أكثر حدّة من العامة.

و يبدو أيضًا أنّ مظهري البائس كان يثير الانتباه مقارنةً بحالة وليّ العهد السليمة ظاهريًّا.

فستاني الأبيض تلطّخ بدماء الخادم والشيطان، وبعض أطرافه قُطعت أثناء ضربي لـيوريل في غرفة الخادم.

“…أرجوكِ، دعيني أحمل السيّد يوريل.”

بينما كان وليّ العهد يتوسّل ، ظهرت فجأة أرواح عدّة أحاطت به.

كانت أرواح زيان.

* * *

كان المطر الممزوج بالدماء يهطل من النافذة.

أُطفئت أنوار السحر التي بقيت في المكان الذي اختفى فيه كل من وليّ العهد ، إبريل ، و يوريل.

“لا بدّ أنهم انتقلوا إلى أحد الفضاءات القريبة. يبدو أنّه سحر انتقال.”

لحسن الحظ، تمكّن زيان من تحليل ذلك.

فقد كان يعرف نوع هذا السحر من ألف عام مضى.

“لحسن الحظ، السيّد يوريل والليدي إبريل برفقة جلالته.”

كانت إينيل هادئة رغم اختفاء رفاقها.

هكذا هي دائمًا.

تتحرّك بعقلانية وفاعلية فقط.

حتى الآن، هي تظن أنّ إظهار العواطف لن يغيّر شيئًا، لذا حافظت على هدوئها.

قالت، وهي تنظر من النافذة وتخاطب زيان وماكس بهدوء:

“إذا تمكّنوا من الهروب من ذلك الفضاء، فسيعودون إلى هنا و سيلتحقون بنا. يمكننا إمّا الانتظار، أو البحث عن أدلة و نذهب إليهم.”

والآن، لم يعد المطر مخلوطًا بالدماء فقط، بل أصبح دماً نقيًّا يتساقط على الأرض.

“ليدي إينيل.”

كان ما يؤلم زيان أكثر من هذا المشهد الذي ينهش في عقله هو اضطراره إلى التظاهر بالهدوء في هذه الظروف.

“لم أعد أحتمل.”

وجه زيان أصبح شاحبًا كصفحة بيضاء.

منذ أن دخل الطابق الثالث، وهو يخفي مشاعره الحقيقية ويُجبر نفسه على التماسك.

ومنذ انضمّ إليهم يوريل، لم يعد بوسعه الاسترخاء ولو للحظة.

يشعر بالغثيان.

كلّما أدرك حجم ما اقترفه، وكلّما خشي انكشافه، ازداد عذابه.

لو انهار الآن، فسيشكّل ذلك خطرًا على نجاح المجموعة في الهروب، لذا واصل التظاهر بالقوة لأجل “الصالح العام”.

وكان ذلك أهون من الآن.

“لم أعد أستطيع خداع الليدي إبريل بعد الآن. لقد ارتكبنا جميعًا أشياءً مروّعة. حتى لو كنا في ظرف قاسٍ، لم تكن تلك قرارات سليمة. لا أستطيع الاستمرار. لا أستطيع مواصلة خداع شخص بريء …!”

لا يستطيع الاستمرار في خداع إبريل.

لا أكثر.

“زيان إيسنجريف.”

حين نطقت إينيل اسمه، بوجه لا يحمل أيّ انفعال، اجتاحته قشعريرة مفاجئة.

“من الذي هدّدك يا سيّد إيسنجريف؟ متى حصل ذلك؟”

كلماتها بدت طبيعية تمامًا.

“تلك كانت ‘خياراتك’ أنت أيضًا، يا سيّد إيسنجريف. قراراتك التي اتخذتها بنفسك. مثل هذا الكلام، لا يصحّ أن يُقال إلا إن كنت بريئًا تمامًا.”

رغم لهجتها العادية، إلا أن كلماتها كانت قاسية.

ومعناها واضح: زيان ليس بريئًا.

في تلك اللحظة، عادت أرواح زيان لتبلّغه بأنّ وليّ العهد قد ظهر مجددًا في قاعة العشاء.

“يبدو أنّ جلالته عاد إلى قاعة العشاء.”

حان وقت الحديث في الأمور الجديّة.

“علينا أن نحاول العثور على طريقٍ للعودة. أو ربما مظلّة” ، قالت إينيل.

فالمطر النازل في الخارج لم يعد شيئًا يمكن لمسه دون عواقب.