عاد الزمن بنا إلى الوراء، إلى ما يقارب عشر سنوات مضت، حين كانت جولييتا في الثانية عشرة من عمرها.
كانت جولييتا لا تزال تتذكر بوضوح شديد تلك اللحظة التي احتضنها فيها والدها الصغير، وهو يبكي بكاءً هستيريًا، وكأنها حدثت بالأمس فقط.
كانت والدتها، داندر، قد خرجت بمفردها ذات يوم، وما إن ابتعدت قليلًا حتى تعرضت للقتل على يد أحد المجهولين الذي أطلق النار عليها. تم القبض على الجاني في الحال.
أظهرت التحقيقات أن الجاني مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمنظمة احتجاجية سلمية، وهي منظمة كانت معادية للحرب بشدة، وهدفت إلى إحباط أبحاث والدها برامس حول القنابل القاتلة.
رغم الفظائع التي ارتكبها، لم يبد الجاني أي ندم، بل زعم أن أبحاث والدها غير إنسانية وتشجع الحرب، مؤكدًا براءته في الوقت نفسه.
استنادًا إلى إفادات الجاني وسجله السابق، حكم القاضي على الجاني بالإعدام، معتبراً أفعاله أعمالًا إرهابية.
على الرغم من إمكانية تعويض وفاة والدتها الظالمة، إلا أن عودة الحياة إلى طبيعتها استغرقت وقتًا طويلًا جدًا.
وفي هذه الأثناء، بدأت جولييتا الصغيرة تتقبل شيئًا فشيئًا موت والدتها، لكن والدها، الذي فقد زوجته، بدأ يتغير يومًا بعد يوم.
كان والدها في الأصل رجلاً حنونًا ودافئًا، مكرسًا لعائلته، لكنه بعد وفاة والدتها أصبح جافًا وقاسيًا، يقضي معظم وقته في غرفته معزولًا عن العالم، مهملًا نفسه وعائلته على حد سواء.
كانت وفاة والدتها سببًا في مرض خطير أصاب والدها، ولم يظهر ذلك علنًا، إلا أن جولييتا شعرت بوضوح بأن حالته ليست طبيعية، إذ كان غالبًا ما يغوص في صمتٍ عميق وهو يفكر، وعيناه تائهتان في الفراغ، أحيانًا يستيقظ وهو يصرخ في نومه.
مع مرور الأيام، بدا وكأن الهدوء عاد إلى حياته فجأة، فظنت جولييتا أن والدها قد تجاوز حزنه وبدأ يشفي جروحه، لكنها لم تكن على صواب.
منذ تلك اللحظة، أمضى والدها وقتًا أطول في مختبره، وبدأ بالخروج بشكل متكرر للقاء أشخاص، ظنّتها مجرد استعادة لحياة مزدحمة، لكن ما كان ظاهرًا لم يكن إلا قشرة رقيقة على الحقيقة.
‘هل انضم إلى جيرين منذ ذلك الحين…؟’
لم يتغلب والدها على حزنه أبدًا، بل حوله إلى غضب متماسك، وألقى بنفسه في معتقدات خطيرة.
قال بالمر بهدوء، كأنه يشرح حقيقة مؤلمة:
“برامس… كان يكره جماعة الاحتجاج السلمي بشدة، كان يضمر غضبًا هائلًا لأولئك الذين يرفعون راية السلام.”
ارتجفت جولييتا وهي تهمس:
“هل انضم إلى جيرين فقط لهذا السبب؟”
أجابها بالمر بنبرة ثقيلة، عميقة في المعنى:
“جولييتا، قد يصعب عليك الفهم، لكن برامس بدأ يكره هذا العالم بأسره.”
كان حديثًا مظلمًا، فصمتت جولييتا بإحكام، محاولًة استيعاب الكلمات.
تابع بالمر وهو ينظر مباشرة في عينيها:
“القنابل التي كان برامس يطورها لم تكن مجرد أسلحة بحد ذاتها، بل كانت وسيلة لإثبات معتقداته، وكانت تلك المعتقدات محملة بالانتقام.”
وأضاف:
“لقد كان يكره أولئك الذين أخذوا والدتك منه، وكره المجتمع والدولة التي نشأت فيها تلك الجماعات. وفي النهاية، التهمته أفكار جيرين بالكامل. إنهم متطرفون بحق، يعبدون الحرب. ومن المفارقات أنهم صنعوا الحرب تحت راية السلام، بينما الشخص الذي حاول منع الحرب انتهى به المطاف يحلم بها.”
ارتجفت جولييتا وهي تسأل بصوت مرتجف:
“هل هذا يعني أن والدي كان يحلم بالحرب؟”
أجابها بالمر:
“ليس بالضبط، بل يمكن القول إنه كان يريد أن تقع الحرب.”
ابتلعت جولييتا ريقها بصعوبة، إذ أدركت أن والدها كان على استعداد للتضحية بحياة الآخرين بدافع الانتقام والكراهية.
قالت وهي تصدر ضحكة ساخرة خافتة:
“الآن أفهم سبب هوسه بأبحاث القنابل القاتلة.”
ابتسمت بمرارة، مستوعبة الحقيقة الصادمة لكنها شعرت بالفراغ واليأس الشديد.
تابعت قائلة:
“أستطيع أن أفهم غضب والدي تجاه فقدان والدتي، لكن أن يستخدم هذا الغضب ليأخذ أرواح الآخرين…”
أومأ بالمر برأسه ببطء وهو يستمع، ثم أضاف بعد لحظة تفكير:
“برامس بالتأكيد دعم جيرين، لكن هناك شيء غريب بشأن موته.”
ارتعشت جولييتا قائلة:
“غريب؟ ماذا تقصد؟”
قال بالمر:
“فكري معي، عائلة هارتفيلد تدير حاليًا أعمالًا عسكرية، بالنسبة لهم الحرب تعني المال والسمعة. فمن غير المنطقي أن يقتل برامس شخصًا من تلك العائلة. أظن أن الأخير استُغل من قبل جيرين في النهاية.”
ترددت جولييتا:
“استُغل؟”
تابع بالمر:
“نعم، لو كان برامس ينوي قتل الهارتفيلد من البداية، لكان فعل ذلك فورًا، ولم يكن ليستخدم تلك الأسلحة. فهو عالم واضح العقل.”
وأضاف بهدوء:
“الأمر المؤكد هو أن برامس ربما أدرك شيئًا في اللحظات الأخيرة وحاول الهرب، لكن كان الوقت قد فات.”
تنهد بالمر ببطء، وقال أخيرًا:
“هذا كله مجرد تخمين، لكنني أؤمن بأن قلب برامس كان لا يزال طيبًا.”
ثم ابتسم ابتسامة ضعيفة، وعند رؤيتها شعرت جولييتا بوخزة عميقة في قلبها وكأن شيئًا في أعماقها قد تألم.
كانت كل خيوط الأحداث لا تزال محاطة بالغموض، وأخذت تفكر بأن ما سمعته من بالمر ربما لا يمثل الحقيقة كاملة.
همست جولييتا بصوت منخفض:
“…على أي حال، لا توجد احتمالية أن يكون والدي هو من قتل عائلة هارتفيلد، أليس كذلك؟”
أغلق بالمر عينيه بهدوء، وأجاب:
“نعم، سأبقى أؤمن بذلك.”
خيم صمت قصير على المكان.
حتى لو كان والدها قد شارك مباشرة، لم تكن جولييتا قادرة على مسامحة جيرين التي دفعت والدها نحو الموت. مهما كانت اليأس والكراهية التي كان محاصرًا بها، فقد استغلت جيرين قلبه وأوصلته إلى الهلاك في النهاية.
اشتعل شيء ما داخل صدرها بشدة ووضوح، شعور بالألم مشابه لما شعرت به يوم فقدان والدها، لكن هذه المرة كان بدلاً من العجز، إرادة تتلألأ في عينيها.
قالت بثبات:
“بالمر، أريد أن أثق بوالدي. وسأكشف كل شيء حتى النهاية… بالمر، إذا كنت تعرف أي شيء عن جيرين، فأرجوك أخبرني أكثر.”
عند رؤية جولييتا وقد اتخذت هذا القرار الحازم، بدأ بالمر فجأة بسرد قصة طويلة:
“جولييتا، هذه الحادثة الإرهابية بالتأكيد نابعة من استياء أولئك الذين عارضوا المفاوضات السلمية مع كاردين. لا شك أنهم سيحاولون إشعال الحرب مرة أخرى.”
توقف لحظة عن الكلام، وألقى نظره بعيدًا قبل أن يواصل:
“وبالنظر إلى أنهم استخدموا القنابل في ذلك اليوم، فمن الممكن أنهم قد حصلوا بالفعل على القنبلة القاتلة التي كان والدك برامس يعمل عليها. كل أبحاث والدك، إنجازاته، وحتى موته، كانت كلها مخططة لتخدم أغراضهم.”
قبضت جولييتا على يديها بإحكام، محاولة كبت الغضب المتصاعد في داخلها.
ثم التقت عيناها بعيني بالمر، وقال بجدية:
“هذا التحقيق خطير للغاية، جولييتا. مهما كان الأمر متعلقًا ببراءة والدك، عليك أن تبتعد عن هذا الموضوع.”
ارتجفت وهي تقول:
“بالمر…!”
أجابها بنبرة حازمة:
“حتى والدك في السماء، لو كان يرى أنك تغامر بحياتك في مثل هذا الأمر، لكان اعترض.”
أصيبت جولييتا بالذهول، وقبضت على شفتيها بشدة وهي تحدق فيه:
“…فمن سيكشف الحقيقة عن والدي؟ لا أحد يتقدم، ولا أحد يريد الإعلان عن هذه الحقيقة…!”
تنهد بالمر ببطء، وقال بصوت مملوء بالحزن:
“أفهم شعورك جيدًا، لكنني أقول هذا حرصًا على سلامتك. هذا أمر خطير جدًا، فلا تحاولي معرفة المزيد عن جيرين.”
تملكت الدموع عينيها، وقالت بخشوع:
“أرجوك… بالمر.”
لكن بالمر أصبح صارمًا، وقال وهي تشعر بالبرد في كلماته:
“لا تعودي إليّ بسبب مثل هذه الأمور مرة أخرى.”
دفع كرسيه إلى الخلف ووقف، وقال بحزم:
“أتمنى أن تتخذي القرار الصائب.”
شعرت جولييتا بأنها لم تعد ترغب بالبقاء هناك، فخفضت رأسها تحيةً متواضعة، ثم خرجت من المقهى.
حين خرجت، اختفت السماء الصافية، وحلّت سحب كثيفة، وسقط المطر بغزارة.
صوت المطر يتساقط بثقل: رشّ… رشّ…
صدمتها قطرات المطر على وجهها، لكن فجأة اقترب منها شخص ما ووضع مظلة فوقها لتقيها البلل.
رفعت جولييتا عينيها الخافتتين لتنظر إلى الشخص الذي اقترب منها، وكانت دهشتها وارتباكها واضحين في نظرتها المزدوجة.
التعليقات لهذا الفصل " 38"