ارتدت فستانًا أسود بسيط التصميم، بلا أي زينةٍ أو مجوهرات، واكتفت بمسحة خفيفة من مساحيق التجميل.
حين نظرت إلى المرآة، رأت وجهها الشاحب المنهك. بدا واضحًا أنها لم تنم جيدًا منذ أيام، فقد أمضت الليالي تقلب في فراشها، يتناوبها التوتر والقلق، تعيد في ذهنها ذلك الوعد الذي قطعته على نفسها مرارًا وتكرارًا.
ومع ذلك، كانت عيناها اليوم تشعّان بحياةٍ جديدة، بصلابةٍ لم تعرفها من قبل.
كانت إرادتها في تبرئة والدها من التهمة الكاذبة أقوى من كل شيء، تلك الإرادة هي التي منحتها القوة لتنهض مجددًا.
وقفت أمام المرآة تمشّط شعرها بهدوء، ثم تنفّست بعمق كأنها تهيّئ نفسها لمواجهة قدرٍ محتوم.
وبعد أن رتّبت أطراف فستانها الأسود، خرجت من غرفة الملابس بخطواتٍ هادئة.
كان ديبيللو ينتظرها أمام الباب.
قال بانحناءة خفيفة:
“سيدتي، السيارة جاهزة.”
فأجابته بصوتٍ خافتٍ لكنه حازم:
“شكرًا، سأخرج حالًا.”
نزلت الدرج ببطءٍ واتجهت نحو الباب الرئيسي.
ذلك الباب الذي لم يُفتح لها يومًا إلا برفقة إيفان، انفتح الآن أمامها للمرة الأولى وحدها، كأنها تخطو إلى عالمٍ آخر.
في الخارج، كانت السيارة بانتظارها كما قال إيفان، يجلس في المقدمة حارسان أحدهما في مقعد السائق والآخر في المقعد المجاور.
تقدّم ديبيللو وفتح لها باب المقعد الخلفي قائلًا باحترامٍ صادق:
“أتمنى لكِ رحلةً موفقة، سيدتي.”
أومأت برأسها شاكرةً، ثم جلست في المقعد الخلفي، وما إن أُغلق الباب حتى انطلقت السيارة بهدوء.
راحت جولييتا تحدق من النافذة في مشهد شوارع براكسيتا التي تمرّ مسرعةً أمامها.
كانت يداها متشابكتين في حجرها، ترتجفان قليلًا من التوتر.
كان الخارج يبدو مسالمًا على غير العادة.
الغابة التي تمتد على جانب الطريق كانت كما عهدتها: أشجارٌ كثيفة تتسلّل بينها أشعة الشمس، والطرقات شبه خالية إلا من السكون.
أبعدت نظرها عن النافذة لتتأمل الحارسين في المقدمة.
كلاهما كان صامتًا يؤدي واجبه بدقة، ملتزمًا بأوامر إيفان.
الوقت المتاح أمامها كان ثلاث ساعات فقط، وبعد احتساب وقت الذهاب والعودة، فلن يتبقى لها مع فالمر سوى نحو أربعين دقيقة بالكاد.
أربعون دقيقة — قصيرة إن فكرت بها، لكنها كافية إن استغلتها كما يجب.
بدأت في ذهنها ترتّب الأسئلة التي ستطرحها عليه، كلمةً كلمة، محاولةً ألا تغفل شيئًا.
كانت السيارة قد بدأت تدخل وسط المدينة، ثم ما لبثت أن مالت نحو شارعٍ جانبيٍّ هادئ، بعيدٍ عن الضوضاء.
وبعد لحظاتٍ، أخذت السرعة تقل تدريجيًا حتى توقفت أمام مبنى قديمٍ من الطوب الأحمر.
“لقد وصلنا…”
هكذا فكّرت جولييتا، وهي تتأمل واجهة المكان. كان في الطابق الأرضي مقهى صغير بدا مألوفًا لها.
قال أحد الحارسين الجالسين في الأمام:
“انتظري لحظة من فضلكِ.”
ثم ترجل من السيارة وتفحّص المكان بعينٍ دقيقة، قبل أن يومئ لزميله ويعود ليفتح لها الباب قائلًا:
“يمكنكِ النزول الآن.”
أومأت برأسها وخرجت من السيارة بخطواتٍ رزينة، لتدخل تحت حراسةٍ مشددة إلى المقهى.
ما إن فتحت الباب حتى انبعثت رائحة الشاي القوية تعبق في المكان، وتبدّى لها الداخل دافئًا وهادئًا على نحوٍ غريب.
كانت الطاولات الخشبية الصغيرة مرتّبة بعناية، والضوء الذهبي يتسلّل من النوافذ ليغمر المكان.
وعلى الجدران عُلّقت صور قديمة في إطاراتٍ أنيقة، لا يُعرف متى التُقطت ولا لمن كانت.
تسلل إليها إحساس بالراحة لم تعرفه منذ زمن، فشعرت بأن التوتر الذي كان يقيّد صدرها بدأ يخفّ قليلًا.
وبينما كانت تتلفت بعينيها تتأمل المكان، وقعت نظراتها على رجلٍ يقف داخل المطبخ المفتوح، يصب الشاي بتركيزٍ شديد.
ابتسمت باندفاعٍ مفاجئ، وهتفت:
“السيد بالمر!”
التفت الرجل في دهشة، ثم ما لبث أن انفرجت أساريره بابتسامةٍ عريضة وهو يضع الكوب من يده.
“جولييتا!”
تقدّم نحوها بخطواتٍ سريعة، وعيناه تلمعان بفرحٍ وشيءٍ من القلق.
“كم أنا سعيد برؤيتك من جديد.”
أجابت بابتسامةٍ صغيرةٍ يغلفها الحرج:
“وأنا كذلك… كان يجب أن أزورك بعد الزواج مباشرة، لكني تأخرت كثيرًا. أعتذر.”
ضحك بالمر برقة وقال:
“تعتذرين على هذا؟ لا داعي يا ابنتي، لا شيء يدعو للأسف. اجلسي هناك قليلًا، سأحضّر لك فنجانًا من الشاي.
لكن… من هذا الذي معك؟ لا يبدو لي أنه زوجك.”
جلست جولييتا على الطاولة الصغيرة بالقرب من النافذة، ووجهها يكتسي بالتوتر والإحراج وهي تحاول أن تشرح أن الرجل المرافق لها كان مُعينًا من زوجها.
بدت على وجه بالمر علامات عدم الفهم، لكنه لم يصر على السؤال، تاركًا المكان يسوده هدوء يسهل عليهما الحديث بحرية.
خشيت جولييتا أن يزعجه وجود الحارسين، فطلبت منهم الانتظار خارج المقهى. نظر الحارسان حول المكان لبضع لحظات، وبعد أن اقتنعا بعدم وجود أي تهديد، غادرا المكان، تاركين لها مساحة من الحرية والطمأنينة للتحدث.
جلست جولييتا على المقعد قرب النافذة، حيث أشعة الشمس الدافئة تتسرب عبر الزجاج، والنسيم العليل يتسلل من الفتحات الصغيرة، يلامس وجهها بخفة.
اقترب بالمر وهو يحمل فنجان الشاي ووضعه أمامها بعناية.
قال بابتسامة دافئة:
“هذا هو الشاي الذي اعتدت أن تشربيه مع والدك، آمل أن يعجبك.”
تذكرت جولييتا والدها في تلك اللحظة، وبدأت الدموع تتجمع في عينيها، فأحست بعاطفة عميقة تغمرها عند مواجهة شخص ما زال يحتفظ بذكريات والدها ويستحضرها بمحبة.
همست بصوت متردد، لكنها صادق:
“إنه لذيذ جدًا… شاي رائع حقًا.”
جلس بالمر مقابلها، وعيناه تنظران إليها بلطفٍ وحنان، ثم قال:
“حسنًا، لنبدأ الحديث. كيف حالك هذه الأيام؟”
أرادت جولييتا أن تبدو سعيدة، أن تخفي القلق الذي يعتمل في قلبها، لكنها علمت أن الوقت ضيق، وأن الحديث لا يمكن أن يظل عابرًا.
“أنا بخير… لكن السبب الحقيقي لزيارتي لك يا سيد بالمر هو شيء آخر.”
ابتسم لها فالمر بطيبة، وقال:
“أفهم، وما هو هذا السبب؟ هل تحتاجين لمساعدتي؟ تحدثي بحرية.”
تنهدت جولييتا للحظة، ثم جمعت شجاعتها وسألته:
“هل تعرف شيئًا عن ‘جيرين’؟”
تغيّرت ملامح بالمر للحظة، وارتسمت على وجهه علامة خفيفة من الانزعاج.
لمحت جولييتا ذلك التغير، فتيقنت أنه يعرف عن جيرين أكثر مما يبدو.
دام الصمت بينهما لحظات قصيرة، ثم قالت بصوت خافت ولكن ملؤه التوسل:
“إذا كنت تعرف شيئًا، أرجوك… أخبرني بكل شيء، سيد بالمر.”
كان صوتها ممتلئًا بالدموع، وكان الحزن يكسو عينيها، مما جعل بالمر يشعر بالقلق، لكنه جمع شجاعته وأجابها أخيرًا:
“حسنًا، دعينا نتحدث. أخبريني بما حدث، كل شيء، جولييتا.”
أغمضت جولييتا عينيها لحظة، وسالت دموعها على وجنتيها في شعاع الشمس، دون أن تحاول مسحها.
ثم بدأت تحكي كل ما جرى منذ وفاة والدها، أحداث عائلة هارتفيلد، برودتها وتغير إيفان، اللقاء مع ستيفن وموته، حادثة التفجير في الحفل على السفينة، واكتشافها لوجود جماعة جيرين.
استمع بالمر لها بجدية، وملامحه تتشدد شيئًا فشيئًا مع كل كلمة تنطق بها.
قالت بقلقٍ ظاهر:
“جيرين… ما هذه الجماعة؟ وما علاقتها بوالدي؟ أرجوك، أخبرني كل ما تعرفه عنهم.”
تزايد توتر جولييتا مع حديثها، وبدأت تظهر عاطفتها بصراحة، فمدّ لها فالمر منديلًا بلطف قائلاً:
“اهدئي أولًا، خذي نفسًا عميقًا.”
أخذت جولييتا المنديل وسمحت لنفسها بالبكاء بحرية، كانت تحاول كظم أنفاسها بين الزفرات المتقطعة، بينما كان بالمر يمسك يدها المرتجفة بحنان، دون أن يلتفت عن نظرتها الثابتة.
بعد أن هدأت قليلاً، بدأ فالمر الحديث بجدية أثقل الجو حولهما:
“جولييتا… قد تصعب عليك تصديق ذلك، لكن والدك كان بالفعل جزءًا من جماعة جيرين.”
ارتجف جسدها عند سماع الخبر، وتنهد بالمر وهو يمسك رأسه في إشارة إلى ثقل الأمر، ثم تابع:
“جيرين جماعة خطيرة جدًا، تؤمن بالحرب وتتبنى أيديولوجية قومية متطرفة. كان ستيفن ووالدك وبرامس منغمسين جدًا في تلك الأفكار.”
ارتجفت عينا جولييتا، وارتسمت على وجهها علامات الصدمة، وصوتها ارتجف وهي تسأل:
“يا إلهي… منذ متى كان الأمر كذلك؟”
أجابها بالمر ببطء، كأن الوقت توقف لحظة:
“بالضبط منذ وفاة والدتك في مظاهرة من أجل السلام… بعد موتها، تغيّر والدك، لكن لم أكن أتوقع أن يكون مرتبطًا بهذا الشكل العميق مع جماعة كهذه.”
جلست جولييتا بهدوء، وذكريات والدتها داندر عادت لتغمر قلبها بالحزن، بينما كانت الحقيقة تتكشف أمام عينيها، ثقيلة وقاسية.
التعليقات لهذا الفصل " 37"