“سأشتري لكِ مثل تلك الكتب بنفسي، لذا كوني فتاة مطيعة وابقَي في القصر.”
“رجلٌ بالغ يذهب ليشتري رواية رومانسية؟ حتى لو كانت مشهورة هذه الأيام، ألن يثير ذلك بعض الشبهات؟”
“لا يهمني.”
“لكن قد تنتشر شائعات غريبة، فكيف ستفسر ذلك للناس؟”
“ولماذا عليّ أن أشرح؟ لا داعي لأن أبرر شيئًا لا يعنيني أساسًا.”
كانت نبرته باردة وحازمة، وكأنه حقًا لا يُكترث بما يقوله الآخرون. أمام رده اللامبالي، وجدت جولييتا نفسها عاجزة عن الكلام.
“كفي عن الأعذار واذهبي الآن، ليس لدي وقت لأتجادل معك.”
وقع كلماته كان قاطعًا، لا يقبل نقاشًا. انكمشت نظرات جولييتا، ولم تستطع إخفاء خيبة الأمل التي ارتسمت على وجهها. بدا واضحًا أنه لا مجال لإقناعه أكثر، وأن أي إصرارٍ إضافي لن يجلب سوى الغضب.
حاولت الحفاظ على هدوئها، لكنها لم تستطع كبح التوتر الذي اشتعل في صدرها، فانفلت صوتها هذه المرة بنبرةٍ حادةٍ لم تعتدها:
“ولِمَ تمنعني من الخروج؟ يمكنك أن تُرسل معي حراسًا إن كان الأمر يقلقك!”
“هاه…”
تنهد إيفان بعمق، متعبًا من الجدال الذي طال أكثر مما أراد. رفع يده الكبيرة، ومررها بين خصلات شعره ليفوض الأمر إلى الصبر.
“جولييتا، أخبريني بصراحة… هل كل هذا الإصرار من أجل رواية رومانسية واحدة فقط؟”
“…!”
تجمدت في مكانها، وشعرت بقلبها يسقط بثقل في صدرها. لقد قرأها بدقة، وكأنه كشف سرها دون جهد.
(هل عليّ أن أقول له الحقيقة؟ أنني في الواقع أريد لقاء أحد معارف والدي؟)
بدأت تفكر أنه ربما لم يعد من المجدي الكذب عليه أكثر. كان من الأفضل أن تخلط الحقيقة ببعض التحفظ.
“…المكتبة لم تكن سوى عذر، في الحقيقة أردت لقاء أحد معارف والدي. لقد حضر زفافنا ذات مرة، وأردت أن أشكره شخصيًا. كان قريبًا من والدي… وأنا هذه الأيام لا أستطيع التوقف عن التفكير به.”
خفضت جولييتا نظرها في خجل، وصوتها أصبح أكثر خفوتًا وهي تُنهي كلامها. لم تجرؤ على النظر في عينيه.
ساد صمت ثقيل للحظات، قبل أن يتنفس إيفان بعمق ويقول بنبرةٍ مملوءة بالاستياء:
“هاه… لا تفعلين شيئًا سوى إثارة المتاعب.”
بقيت جولييتا صامتة، تقبض يديها بصمت. لم تجد ما ترد به.
(كيف يمكنها أن تشتاق إلى رجلٍ مثله؟ بعد كل ما فعله، وكل ما تسبب فيه؟)
تساءل إيفان في داخله بمرارة. لم يكن قادرًا على فهمها — كيف يمكنها أن تظل تُمجّد والدها رغم كل ما ارتكبه؟ لم تكن ترى الحقيقة التي يراها هو، كانت ما تزال تلك الفتاة التي ترى في والدها بطلاً، لا مجرمًا.
ضحك في سره، وهو يخطط بسرعة.
(أحد معارف والدها، إذًا؟ جيد. قد يكون من المفيد أن أتركها تراه بنفسي.)
قرر في تلك اللحظة أن يمنحها الإذن، ولكن ليس من أجلها، بل ليستغل الفرصة لمعرفة من هو هذا الشخص، وماذا يخطط له.
لقد أدرك من حديثها أن اللقاء لا بد أن يكون له علاقة بوالدها، وأنها تبحث عن شيء أكثر من مجرد حنين.
(عليّ أن أعرف السبب الذي يجعلها تريد لقاء هذا الرجل بالذات.)
رفع رأسه أخيرًا وقال بصوتٍ هادئ يخفي وراءه التفكير العميق:
“أين يوجد هذا الشخص الآن؟”
تغيرت نبرته قليلًا، مما جعل الأمل يلوح في عيني جولييتا. رفعت رأسها بحذر وقالت:
“يدير مقهى صغيرًا بالقرب من البلدة القديمة… أستطيع الذهاب إليه هناك.”
“حسنًا، أمنحك ثلاث ساعات فقط. خلال هذا الوقت يجب أن تنهي زيارتك وتعودي. سأرسل معك حارسين.”
“…حسنًا.”
تفاجأت جولييتا بسهوله موافقته، واتسعت عيناها في ذهول. دقّ قلبها بقوة وهي تحاول أن تستوعب ما حدث.
(لقد… وافق؟ فعلًا وافق!)
انبثقت لمعة أملٍ رقيقة في عينيها، بينما كان إيفان يراقبها بابتسامةٍ خفيفة، خالية من الدفء، بل مشبعة بخطورةٍ خفية لم تلحظها هي.
“عندما تحددين الموعد، أخبريني بالوقت والتاريخ.”
“نعم، سأفعل.”
تنفست جولييتا بارتياحٍ لم تشعر به منذ أيام. رغم أن في داخلها ظلّ شعورٌ طفيف بالقلق من سرعة موافقته، إلا أنها لم تستطع كبح فرحتها.
(لا يهم، المهم أنني حصلت على الفرصة. عليّ ألا أضيعها.)
انحنت قليلًا ثم قالت بصوتٍ خافتٍ فيه امتنان:
“إذن… سأذهب الآن.”
أعاد إيفان بصره إلى الأوراق من دون أن يجيب، وكأنه يُظهر بوضوح أنه لا يهتم إن خرجت جولييتا أم لا.
خرجت جولييتا من المكتب بخطواتٍ خفيفة تكاد لا تُسمع، حرصًا على ألا تثير انتباهه أكثر. وما إن أغلقت الباب خلفها حتى شعرت بأن جسدها كله كان متصلبًا من التوتر طيلة الوقت.
(يجب أن أستعد لمقابلة السيد بالمر.)
أخذت نفسًا عميقًا، محاولةً تهدئة دقات قلبها المتسارعة، وبدأت تفكر بسرعة في الخطوة التالية. لم تكن تملك أدلة واضحة بعد، وكل شيء ما زال ضبابيًا، ومع ذلك أحست بأنها تقترب خطوة بعد خطوة من الحقيقة.
توجهت نحو الهاتف الموضوع على الطاولة، وأمسكت البطاقة التي كانت في يدها تتأملها لحظةً قبل أن تضغط الأرقام بحذرٍ وتوتر.
رن الهاتف مرتين أو ثلاثًا، ثم انبعث صوت رجلٍ في منتصف العمر:
— “مرحبًا؟”
“سـ… سيد بالمر؟ أنا جولييتا.”
خرج صوتها متعجلًا من بين شفتيها، تحمل نبرة ترددٍ وقلق. ساد الصمت للحظة في الجهة المقابلة، ثم جاءه الردّ بهدوءٍ مفعمٍ بالدفء والودّ، وكأنها لم تكن غائبة عنه يومًا.
ارتجف قلبها، وكادت الدموع تترقرق في عينيها، إذ كانت هذه أول مرة منذ زمنٍ طويل تسمع فيها صوتًا يرحب بها حقًا.
بعد تبادل التحية القصيرة، اتفقا على اللقاء. وكما كانت تتذكر، ما زال بالمر يدير مقهى صغيرًا بالقرب من البلدة القديمة. اتفقا على أن يلتقيا هناك بعد الظهر، في وقت الغداء تقريبًا.
ثم ذهبت جولييتا لتخبر إيفان بموعد الخروج، والوقت، والمكان. لم يُبدِ أي اعتراض، واكتفى بإيماءةٍ بسيطة برأسه.
وبعد ذلك بدأت الساعات تمر ببطءٍ قاتل، حتى بدا الوقت وكأنه يتعمد اختبار صبرها.
✦✦✦
كان اليوم عطلة نادرة، ومع ذلك لم يكن في قاموس إيفان شيء اسمه “راحة”.
ازدادت حرارة النهار تدريجيًا حتى صار الجو خانقًا، والعرق يتصبب من المارة الذين استبدلوا ملابسهم الثقيلة بأخرى أخفّ. ومع أن الطقس لم يكن مناسبًا، ظل إيفان مرتديًا زيه العسكري كعادته.
بل في الحقيقة، كان لديه اليوم سببٌ وجيه ليبقى مرتديًا الزي العسكري؛ فحتى في يوم العطلة، استمرت التحقيقات المكثفة حول حادثة التفجير في الحفلة البحرية.
ابتسم بخفةٍ باردة وهو ينظر إلى كومةٍ من الوثائق السميكة أمامه. كانت تلك الملفات تحتوي على قوائم المنظمات التي يُشتبه في وقوفها وراء التفجير.
بذل الجيش والشرطة جهدًا كبيرًا في حصر الجماعات الإرهابية وتصنيفها، لذا كانت الأوراق منظمةً بدقة لدرجة أن أي قارئ يستطيع أن يفهم منها صورةً شاملة. حتى أسماء المنظمات السرية التي كانت تُترك دون ذكر عادةً، كُشف عنها هنا بوضوحٍ تام.
احتوت الصفحات على معلومات دقيقة وحادة: مصادر التمويل، الهيكل التنظيمي، والسجلات السابقة لكل مجموعة. كانت التقارير مفصلة إلى درجةٍ تثير الإعجاب والرعب في آنٍ واحد.
جلس إيفان إلى مكتبه الحديدي، يقلب الأوراق بمللٍ واضح، بينما أمامه جهاز تسجيل وهاتف وعدد من الملفات المتناثرة.
رفع بصره قليلًا نحو الرجل الجالس أمامه، يراقبه بنظرة باردة خالية من العاطفة. كان ذلك الرجل أحد العاملين على متن السفينة التي وقعت فيها الحادثة، وها هو الآن يخضع للاستجواب.
قال إيفان بصوتٍ منخفضٍ لكنه حادّ:
“اسمك زاركو ترينتش، صحيح؟”
ارتجف الرجل قليلًا، ثم أجاب بسرعة:
“نـ… نعم، هذا صحيح.”
“سمعت أنك لست من مواطني كوناوت، بل لاجئ من إحدى الإمبراطوريات الأخرى. من أين ومتى قدمت طلب اللجوء؟”
ارتبك الرجل للحظة، ثم أجاب بنبرةٍ متقطعةٍ متوترة:
“قبل خمس سنوات… من فرديان، وهي تبعد كثيرًا عن كوناوت.”
“همم، فهمت.”
تطابق كلامه مع ما ورد في السجلات. لم يجد إيفان في الأمر ما يثير الشك، فتابع بسؤالٍ آخر دون تردد:
“إذن، أثناء وقوع الانفجار الأول في السابعة والنصف مساءً، أين كنت وماذا كنت تفعل؟”
“كنت في القسم C أقدّم المشروبات والطعام للضيوف. كنت أيضًا أجهز ملاحظات التبديل، لأن وردية العمل التالية تبدأ عند الثامنة.”
كان جوابه متسقًا تمامًا مع ما ورد في الشهادات الأخرى ومع البيانات المكتوبة في التقرير.
تنهد إيفان بضجر، وقد خاب أمله مجددًا. بعد أن استجوب العشرات من طاقم السفينة، لم يحصل بعد على أي دليلٍ يذكر. بدأت فكرة أن مواصلة التحقيق مع العمال مجرد مضيعةٍ للوقت تترسخ في ذهنه.
رفع يده ليدلك صدغيه المتعبين، وزفر أنفاسًا ثقيلة. عندها ألقى المحقق المساعد نظرةً حذرة نحوه، ثم وجه سؤالًا بنفسه:
“هل لاحظت أي شيءٍ غير عادي أثناء العمل؟ أي تصرف أو شخص مريب ربما؟”
فكر الرجل للحظة، ثم رفع رأسه ببطء، وكأنه تذكّر شيئًا فجأة، وقال مترددًا:
“الآن بعد أن سألت… في الواقع، نعم، هناك شيء واحد.”
التعليقات لهذا الفصل " 35"