شعرت جولييتا بأن هناك شيئًا غريبًا، ومع ازدياد حدسها ثقة، تأكدت من صحة ما توصلت إليه.
جيرين.
تلك المنظمة الغامضة التي ما تزال حقيقتها خلف ستارٍ كثيف من الأسرار،
بدت نواياها واضحة — كانت تكره السلام وتريد أن تدوسه تحت أقدامها.
“هاه…”
تنهدت جولييتا بعمق، وأعادت في ذهنها ترتيب كل ما عرفته حتى الآن.
في مملكة كوناوت، كانت هناك جماعات إرهابية متعددة،
وأشهرها ما يُعرف بـ “جماعة المظاهرات السلمية”.
حتى إنّ والدتها نفسها فقدت حياتها في إحدى تلك المظاهرات.
لكن تلك الجماعة لم تكن تُعرف باسم جيرين، بل إن طريقتها في العمل كانت مختلفة تمامًا.
فجماعة تؤمن بالسلام لم تكن لتجرؤ على المساس بحفلةٍ أُقيمت من أجل ترسيخ السلام بين كوناوت وكاردين.
(جيرين مختلفة تمامًا عن جماعة المظاهرات السلمية…)
أعادت جولييتا نظرها إلى الصحيفة، لكنها بدأت تشك في أن قراءة الأخبار قد لا تكون الطريقة المثلى للعثور على الأدلة.
فحتى أقرب الناس إليها — والدها — كانت تجهل تمامًا أنه انضم إلى جيرين.
لم يخطر ببالها يومًا أن يكون لوالدها صلة بمثل تلك المنظمة الخطيرة.
ومن هنا، استنتجت أن جيرين لا بد أن تكون جماعةً سرية للغاية،
تتحرك في الظل، وتُخفي أثرها ببراعة طوال هذه السنوات.
لكنها تساءلت بقلق:
لماذا الآن فقط ظهرت إلى العلن؟
ولماذا اختارت هذا الوقت تحديدًا لارتكاب هجومٍ دموي بهذا الشكل؟
حاولت التفكير في الأسباب المحتملة، لكنها لم تصل إلى أي إجابة.
وضعت الصحيفة جانبًا، وأخذت تفكر بهدوء وهي ترتب أفكارها.
جيرين كانت لغزًا كبيرًا،
لكن ما كان يثقل قلبها أكثر من أي شيء آخر هو فكرة أن والدها كان أحد أفرادها.
(لماذا انضم أبي إلى تلك الجماعة الإرهابية؟ هل كان يؤمن حقًا بأهدافهم؟ أم أُجبر على الانضمام إليهم؟)
لم تجد لتلك الأسئلة جوابًا، لكنها كانت واثقة من أمرٍ واحد — أن العلاقة بينه وبين جيرين لم تكن سطحية أبدًا، بل عميقة ومتجذّرة.
وكذلك الأمر بالنسبة لستيفن.
حين تذكرت ملامح ستيفن في آخر مرة رأته فيها، ارتسمت على وجهها نظرة مرّة،
ثم سرعان ما اتسعت عيناها بدهشة عندما خطر لها تفصيلٌ مهم.
(الآن تذكرت… كان ستيفن يأتي لزيارة أبي دائمًا مع السيد بالمر.)
“السيد بالمر…”
همست بالاسم، وتذكرت وجه ذلك الرجل الهادئ،
المليء بالطيبة والابتسامة الدافئة — رجلٌ في منتصف العمر، كان دائمًا يبدو مطمئنًا ومهذبًا.
ربما يجب أن تذهب إليه وتسأله عن جيرين.
فهو أكثر من قضى وقتًا مع والدها وستيفن معًا، وربما يعرف الحقيقة التي تخفيها تلك المنظمة.
(نعم… مقابلة السيد بالمر وسؤاله عن جيرين قد تكون أفضل طريقة لمعرفة الحقيقة.)
اتخذت قرارها أخيرًا. لكن لتذهب إليه، عليها أولًا أن تعرف عنوانه أو رقم هاتفه.
تذكرت بطاقة العمل التي كانت قد أخفتها سابقًا في المكتبة، فنهضت على الفور متجهة إلى أحد الرفوف.
ولحسن الحظ، كانت ما تزال في المكتبة نفسها،
فسحبت كتابًا سميكًا في التاريخ، وفتحت صفحاته بحذر، لتجد بداخلها البطاقة محفوظة كما تركتها تمامًا.
رفعتها بيدها، وتأملت الأرقام والعنوان المكتوب عليها.
اشتعل في داخلها شوقٌ للذهاب إليه فورًا، لكنها كانت تعلم أن أي خروجٍ من القصر يحتاج إلى إذنٍ من إيفان.
(يا إلهي… بأي عذرٍ سأخرج هذه المرة؟)
مجرد التفكير في ذلك جعل رأسها يؤلمها.
فهي تعرف أنه لن يسمح لها بالمغادرة دون سببٍ وجيه.
وضعت يدها على جبينها محاولة تهدئة الألم، بينما كانت صورة إيفان تتراءى في ذهنها.
في الآونة الأخيرة، كان منشغلًا جدًا، نادراً ما يعود إلى القصر، وإن عاد، يبقى حبيس مكتبه لساعاتٍ طويلة دون أن يغادره.
ويبدو أن التحقيق في قضية التفجير بات أكثر صعوبة مع مرور الوقت.
فبرغم مشاركة الجيش والشرطة معًا في البحث، إلا أن التقدّم كان بطيئًا،
وهذا ما أكّد لها مجددًا أن جيرين جماعةٌ متخفية بمهارة،
قادرة على التلاعب بكل خيط من خيوط الحقيقة دون أن تُترك وراءها أي آثار.
حتى بعد قراءتها لعشرات الصحف لم تجد أدنى إشارةٍ إليهم،
وهذا دليل على براعتهم في إخفاء أنفسهم.
(عاجلًا أم آجلًا… سأضطر إلى إخباره بكل شيء.)
كانت جولييتا تشعر أنه لا بد من مصارحة إيفان بما توصلت إليه في النهاية،
لأن الأمر أكبر من أن تتعامل معه بمفردها.
فجيرين منظمة منظمةٌ بذكاء ودهاء،
ومواجهة مثل هذه القوة بمفردها سيكون ضربًا من الجنون.
ومع ذلك، لم يكن الوقت مناسبًا بعد.
لم تستطع أن تخاطر بإخباره الآن،
فردّ فعله لا يمكن التنبؤ به، وقد يتخذ قرارًا يبدّد كل خططها.
إذا عرف قبل الأوان، فقد يفسد كل شيء —
تحقيقها، ومحاولتها إثبات براءة والدها، وربما حياتها أيضًا.
(عليّ الانتظار… فقط قليلًا بعد.)
رغم أن عدد الضحايا لم يكن كبيرًا، إلا أن وقوع إصابات بشرية في الحفلة البحرية كان كافيًا ليشعر بثقله كل من عرف بالحادثة. أما جولييتا، فكانت تشعر بمسؤوليةٍ ثقيلة تجثم على صدرها، لأنها كانت تعرف الحقيقة وراء هذا الهجوم الإرهابي. مجرد صمتها، وعجزها عن إخبار أي أحد بما تعلم، جعلها تشعر وكأنها تشارك في خطيئةٍ تجاه أولئك الذين فقدوا حياتهم في ذلك اليوم المشؤوم.
ولهذا، أدركت أنها لا تستطيع التردد أكثر، وأن عليها أن تكشف هوية جماعة “جيرين” بأسرع وقت ممكن. فحين تنجح في ذلك، ستتمكن من تبرئة والدها، وكشف الحقيقة المروعة لهذا الإرهاب أمام العالم أجمع.
لم يعد هناك وقت لتضييعه، ولذلك عقدت العزم على الذهاب لمقابلة “بالمر”، الرجل الوحيد الذي ربما يملك إجاباتٍ عن تلك الجماعة الغامضة. لكن للقيام بذلك، كان لا بد أن تحصل على إذنٍ من “إيفان”.
رتبت الطاولة بعناية، وغادرت المكتبة بخطواتٍ حازمة. وبينما كانت تتجه نحو مكتب إيفان، راحت تفكر في عذرٍ يمكن أن يجعلها تحصل على موافقته للخروج. لكنها كانت تعلم في قرارة نفسها أن الأمر لن يكون سهلاً هذه المرة.
منذ وقوع الحادثة، أصبح إيفان يبالغ في حمايتها إلى حدٍّ يقترب من الهوس. لم يكن ذلك اهتمامًا نابعًا من الحنان، بل أشبه بشعورٍ دائم بالريبة والخوف عليها من كل شيء. فقد أمر الطبيب بفحصها كل صباح، وتلقى بنفسه التقارير الطبية اليومية عنها. وإن لاحظ عليها أي علامات إرهاق، فرض عليها الراحة القسرية، كما منعها حتى من فتح النوافذ في الأيام الباردة أو الممطرة. كان حساسًا تجاه أي أمرٍ قد يمس صحتها ولو قليلًا.
ولذلك، لو أخبرته أنها تريد مقابلة أحدهم، فسيغرقها بالأسئلة والشكوك — خصوصًا إن كان الشخص الذي تريد لقاءه قد ارتبط سابقًا بوالدها الراحل.
امتلأ رأسها بأعذارٍ كثيرة، لكنها لم تجد بينها ما يبدو مقنعًا تمامًا. وفي النهاية، قررت أن تستخدم ذريعة بسيطة وآمنة: الخروج للتنزه قليلًا بحجة أنها تشعر بالاختناق من البقاء في المنزل.
(سأقول له إنني أريد الخروج قليلًا… ربما أزعم أنني أريد شراء بعض الأشياء.)
بهذا القرار، وقفت جولييتا أمام باب المكتب، طرقت مرتين، وانتظرت الرد. كان يمكنها سماع صوته من الداخل وهو يتحدث مع أحد مساعديه. توقفت المحادثة فجأة، وتبعتها خطواتٌ تقترب، ثم فُتح الباب. خرج المساعد بسرعة، فانحنت جولييتا قليلًا لتفسح له الطريق، وردّ التحية بخفة قبل أن يبتعد.
من مكانها، استطاعت أن ترى إيفان جالسًا خلف مكتبه المصنوع من الماهوغاني، عيناه مرهقتان من قراءة الأوراق التي لا تنتهي.
رفع بصره نحوها وسأل بصوتٍ منخفض لكنه حاد:
“ما الذي جاء بكِ الآن؟”
تقدمت جولييتا خطوة إلى الداخل وقالت بهدوء:
“أريد أن أخرج قليلًا.”
“…ماذا قلتِ؟”
انعقد حاجباه في انزعاج، تمامًا كما توقعت. فسارعت بالكلام قبل أن يرفض مباشرة:
“أشعر بالاختناق من البقاء في المنزل طوال الوقت. حتى النوافذ لا تسمح لي بفتحها هذه الأيام… الجو خانق فعلًا.”
تأملها إيفان لحظة، ثم أعاد نظره إلى الأوراق أمامه، وتحدث بنبرةٍ باردة خالية من أي عاطفة:
“إن كان الأمر كذلك، فافتحي النوافذ واستنشقي بعض الهواء البارد، أسمح لكِ بهذا القدر فقط.”
كانت تلك طريقته في الرفض — مهذبة في ظاهرها، حازمة في معناها. ورغم خيبة أملها، حافظت جولييتا على هدوئها، وأجابت بثبات:
“الهواء وحده لا يكفي.”
رفع رأسه هذه المرة، ونظر إليها مطولًا قبل أن يغمغم بسخريةٍ خفيفة:
“في زمنٍ كهذا؟ تريدين الخروج وحدك؟ هل فقدتِ صوابكِ يا جولييتا؟”
وضع الأوراق جانبًا، وأسند ظهره إلى الكرسي، وكأنه يزن كلماتها بدقة. مرت لحظات من الصمت قبل أن يسأل أخيرًا بنبرةٍ غامضة تحمل شيئًا من الريبة:
“وماذا ستفعلين إن خرجتِ؟”
ابتلعت ريقها، وراجعت في ذهنها الكلمات التي أعدّتها مسبقًا، ثم أجابت بحذر:
“أريد الذهاب إلى مكتبة. هناك بعض الكتب التي أرغب في شرائها.”
“أليست الصحف التي تقرئينها صباح مساء كافية؟” سألها بفتور.
ابتسمت بخفة وقالت:
“الجرائد لا تشبه الروايات، يا إيفان. أريد أن أقرأ شيئًا أخف… رواية رومانسية مثلاً.”
توقف لحظة، كأنه لم يصدق ما سمعه، ثم رفع حاجبه وسأل بنبرةٍ متفاجئة:
“رواية رومانسية؟ منذ متى أصبحتِ تهتمين بتلك الأشياء؟”
رفعت كتفيها ببساطة وقالت:
“رأيت إعلانًا عنها في الجريدة. يقولون إنها مشهورة هذه الأيام.”
عندها فقط، تنفّس إيفان بعمق، ثم أطلق ضحكة قصيرة، امتزجت فيها السخرية بالاستسلام، وكأنها أدهشته بذكائها في التملص أكثر مما أغضبته جرأتها.
التعليقات لهذا الفصل " 34"