كانت المناظر التي تمر خارج نافذة السيارة ضبابية كعادتها، لا شيء غريب أو جديد فيها. مجرد تكرار ميكانيكي لرحلة بات يعرف كل تفاصيلها.
وكذلك كانت حياته—حتى وإن كان لها وجهة، فإنها بلا معنى، وكأنه يعود دومًا إلى نقطة البداية مهما سار بعيدًا.
حتى في ساحات القتال، لم يكن الأمر مختلفًا.
مشاهد الحريق المروّعة، صوت إطلاق النار والانفجارات الممزوجة بأنين الجرحى وصراخ الجنود المتشبثين بالحياة… كل ذلك كان يحاصره لحظة بلحظة، لكنه لم يشعر بشيء.
المشاعر، بالنسبة إليه، كانت ترفًا تخلّى عنه منذ زمن بعيد.
لكن هذا الجمود كان فعّالًا في أرض المعركة.
كان يؤدي المهام التي تُكلَّف له ببرود، ويتحرك مدفوعًا بغريزة البقاء، وينهي حياة العدو دون تردد.
لذلك، رُقّي إلى رتبة عقيد بسرعة قياسية. لم تكن رتبة ورثها عن والده، بل شرفٌ ناله لأول مرة بجهده الشخصي. ومع ذلك، لم يشعر إيفان بأي فخر.
الحرب؟ الشرف؟ لا شيء منها حرّك فيه ساكنًا.
مع كل إحساسٍ يتآكل داخله، شعر وكأن جوهره كإنسان بدأ يضمحل.
لم تعد هناك مشاعر تثبت له أنه لا يزال بشرًا.
إلا حين يتذكر عائلته.
فقط معهم، كان يشعر بشيء يشبه الحياة. معهم فقط، كان يشعر—ولو بطريقة باهتة عقلانية، لا عاطفية—أنه لا يزال إنسانًا.
تلك الهشاشة الصغيرة، كانت تعني له الكثير.
ولهذا، كانت جولييتا تمثل له وجودًا مهمًا… وقويًا.
بل في الحقيقة، لم يكن الأمر يتعلق بذلك فقط. منذ البداية، ومنذ اللحظة الأولى، سرقت جولييتا انتباهه.
منذ الطفولة، حين ذهب للبحث عن طفلة تاهت في الغابة… وحتى الآن.
هناك شيء ما فيها لامس جزءًا ما في داخله.
لم يفكر يومًا بعمق حول ماهية ذلك الشعور، لكنه كان متيقنًا أن جولييتا ليست “مجرد” فتاة في حياته.
وفي تلك اللحظة، دخلت السيارة التي تقله ممر بريكسيتر الغابي. بدأت تظهر من بعيد غابات بريكسيتر الكثيفة.
وبينما تطايرت الظلال على نافذة السيارة، ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيه الجامدتين.
—
كان قصر بريكسيتر يعجّ بالحركة منذ الصباح الباكر. اليوم هو يوم عودة إيفان.
تحرك الخدم بنشاط، ينظفون كل زاوية، ويعيدون ترتيب الأثاث، ويحضرون مأدبة فخمة.
كان كل شيء في القصر يلمع ببريق الترقّب.
حتى أفراد عائلة هارتفيلد كانوا يستعدون للترحيب بإيفان.
أورلاندو، الوالد، ارتدى بزته الرسمية باكرًا وصفّف شعره بعناية باستخدام الشمع.
زوجته إليزابيث كانت في غرفة الملابس مع ليديا وجولييتا، يختارن فساتين اليوم المنتظر.
وجه إليزابيث كان مفعمًا بالحيوية كأنها فتاة صغيرة، أما ليديا فحاولت أن تبدو ناضجة وهادئة كالسيدات الكبيرات.
جولييتا كانت معهما أيضًا.
أسدلت خصلاتها الذهبية المتموجة على ظهرها، وارتدت فستانًا أزرق حريريًا.
علّقت حول عنقها قلادة والدتها الراحلة—سلسلة من اللؤلؤ تحيط بحجر من الياقوت الأزرق، تتلألأ وتضفي على عينيها الزرقاوين إشراقًا مضاعفًا.
اقتربت من إليزابيث وليديا بعدما أنهت زينتها.
تأملتها إليزابيث بإعجاب قائلة:
“أنتِ رائعة الجمال، يا جولييتا.”
“شكرًا لكِ، سيدة هارتفيلد. أنتِ تبدين جميلة للغاية أيضًا.”
انحنت جولييتا بخفة ورشاقة، منحنية برقة.
ضحكت ليديا، وهي ترتدي فستانًا ورديًا مزينًا بالدانتيل، ثم صفّقت بمرح:
“حقًا، يا جولييتا! تبدين مذهلة! أعتقد أن أخي لن يستطيع أن يزيح نظره عنكِ!”
كانت ليديا، رغم مشاكستها المعتادة، شديدة الجمال اليوم.
ضحكت جولييتا وربطت ذراعها بذراع ليديا.
“آخر من أريد سماع هذا منه هو أنتِ.”
“صدقيني، لا توجد امرأة أجمل منكِ اليوم، جولييتا.”
غمزت ليديا بعينيها، فضحكت جولييتا وهزّت رأسها وكأنها تقول: “لا فائدة من جدالكِ.”
“بنات، إيفان سيصل قريبًا. لننزل إلى البهو وننتظره هناك.”
أومأت جولييتا وليديا لرأي إليزابيث، ثم غادرن غرفة الملابس بالطابق الثالث.
أسرعن بالنزول إلى الطابق الأول، وهناك وقف جميع الخدم إلى جانب أورلاندو في صمت وترقّب.
وقفت إليزابيث بجانب زوجها، بينما تسللت ليديا وجولييتا بينهما بقلوبٍ تخفق.
تجمّع الأربعة ينتظرون بشغف، أعينهم على الباب الأمامي، حتى دوّى صوت محرّك سيارة بالخارج.
لقد وصل إيفان.
نظرَت جولييتا وليديا إلى بعضهما البعض بعينين متألقتين، ثم وجّها أنظارهما إلى الباب.
تحرك الباب الأمامي وفتح على مصراعيه.
ظهر جمع من الناس عند المدخل، وفي وسطهم كان إيفان.
ابتلعت جولييتا ريقها، وألقت نظرة متسمّرة نحوه.
رجل وسيم ذو شعر بني داكن وعينين خضراوين، ملامحه صلبة وشفتيه مرسومتان في هدوء قاتل.
كان كما هو… ومع ذلك، تغيّر.
لا يزال طويلًا لدرجة أنها كانت تضطر لرفع رأسها كثيرًا لتنظر إليه، لكن قوامه الآن أكثر صلابة، وهيبته العسكرية في بزّته الأنيقة أضفت عليه لمسة من الوحشية رغم تنسيقه المهذب.
رغم أن شعره كان مصففًا بعناية، إلا أن هالته كانت مختلفة.
نظرت إليه جولييتا وشعرت بشعور غريب—مألوف… وغريب في آنٍ واحد.
حذاؤه الأسود، قفازاته الجلدية، ساعته الفاخرة على معصمه القوي—كل شيء فيه كان مثاليًا.
وفجأة أدركت جولييتا ما كانت تتناساه دائمًا—أن كل شيء فيه كان دومًا… عبئًا عليها.
تخشبت أطرافها، وكأنها غزالة وقفت أمام وحش مفترس.
ابتلعت ريقها مرة بعد أخرى، عاجزة عن الحراك.
“مرحبًا بعودتك، يا بني.”
تقدم أورلاندو فورًا ومدّ يده ليصافح ابنه.
انحنى إيفان له بانحناءة خفيفة، ثم أمسك بيده.
بعدها اقترب من إليزابيث وعانقها بحرارة.
“الحمد لله على سلامتك، إيفان!”
إليزابيث، بصوت مرتعش تغمره السعادة، ألقت بذراعيها حول خصر إيفان وهي تبكي فرحًا.
“اشتقتُ إليك كثيرًا، أمي.”
كان صوته في السابق ناعمًا أشبه بصوت صبي، أما الآن فقد أصبح عميقًا إلى حد فاجأ جولييتا بشدة.
وفي تلك اللحظة، تلاقت عيناها بعينيه الخضراوين.
حدّق إيفان بها لثوانٍ قصيرة، ثم حرّك بصره نحو ليديا، التي قفزت مباشرة ولفّت ذراعيها حول عنقه، وطبعَت قبلة سريعة على خده.
“مرحبًا بك في بريكسيتر، أيها العقيد الباسل من الجبهة الأمامية!”
قالت ذلك بحيويتها المعتادة، ترحب به بكل حماس.
والآن حان دور جولييتا.
تقدّمت بخطى ثابتة، ونظرت إلى إيفان بابتسامة دافئة، ثم مدّت يدها بهدوء لتصافحه.
“إيفان، أنا سعيدة للغاية لأنك عدت سالمًا. لقد انتظرتك طوال هذا الوقت.”
شعرت برعشة خفيفة في يدها الممتدة نحوه. كانت تتمنى أن لا يلاحظ ارتجافها، لكنه خفّض بصره ونظر إلى يدها المترددة.
بعد برهة، رسم على شفتيه ابتسامة جذابة، ثم أمسك بيدها بثبات.
وما إن أمسك يدها حتى جذبها فجأة إلى صدره بقوة.
“…!”
فوجئت جولييتا تمامًا، إذ وجدت نفسها قريبة جدًا منه، وقبل أن تستوعب ما يحدث، أحسّت بشفتيه تلامسان خدها في قبلة خاطفة.
وبعد تلك القبلة، همس بصوته العميق عند أذنها:
“وأنا أيضًا… كنت أتشوق لرؤيتك.”
كان صوته المنخفض يضرب صميم أذنها، فشهقت جولييتا لا إراديًا.
تفاجأت من الموقف، لكنها حاولت جهدها أن تُخفي ارتباكها.
كان قلبها يخفق بعنف، وكأن صدرها سينفجر من شدته. حاولت السيطرة على نفسها بابتسامة مصطنعة، وانسحبت بهدوء من بين ذراعيه.
وحين فعلت ذلك، لاحظت أن حاجبي إيفان تحركا قليلاً.
كان ذلك تعبيرًا يعرفه جيدًا… علامة تدل على عدم رضاه.
فهمت جولييتا أنه لم يُعجبه انسحابها، لكنها لم تُظهر أي ردة فعل، بل انسحبت من المكان بهدوء.
“بُني، هيا بنا إلى الداخل. هناك الكثير مما لم نكتبه في الرسائل.”
قالت إليزابيث وهي تمسك بذراع إيفان وتقوده نحو غرفة الطعام.
تبعهم الجميع، بمن فيهم جولييتا.
وخلال سيرها، رفعت يدها لا شعوريًا ولمست الموضع الذي طبع فيه إيفان قبلته على خدها… ثم أنزلت يدها بسرعة.
الانستغرام: zh_hima14
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 2"