ماذا يمكن أن يكون العمل الذي طلبه إيفان؟
بقلب يضطرب قلقًا وصلت جولييتا إلى المكتبة.
وكانت طاولة أمام الأريكة قد أُعدّت عليها طقم شاي كامل بعناية، ربما من باب لطف ديبيلو.
جلست جولييتا بهدوء على الأريكة.
وصبّ لها ديبيلو الشاي في الفنجان.
ارتشفت منه رشفة صغيرة، ومع كل جرعة أخذ التوتر يتلاشى من جسدها شيئًا فشيئًا.
حينها فقط فتح ديبيلو فمه مترددًا وقال:
“سيدتي، الأمر هو… بعد شهر ستُقام حفلة على ظهر سفينة بمناسبة إبرام معاهدة السلام مع كاريدين. عليكم أن تُعلنوا رغبتكم في الحضور.”
توقف يدها الممسكة بالفنجان لوهلة.
ابتسمت جولييتا ابتسامة مرّة وسألت:
“……هل يعني ذلك أنني مدعوة لتلك الحفلة؟”
“نعم، هذا صحيح. يجب أن ترافقوا السيد. قال إنها مناسبة بالغة الأهمية ولا بد أن تكونوا برفقته.”
عضّت جولييتا شفتها السفلى بقوة.
بعد شهر فقط، سيكون عليها مواجهة نظرات الناس القاسية في مناسبة رسمية.
لم ترغب أبدًا في المشاركة، لكنها كانت مضطرة لأداء دور الزوجة، كما وعدت إيفان.
“حسناً… وكيف أعبر عن رغبتي في الحضور؟”
“في الحقيقة…”
تردّد ديبيلو لحظة، متفحّصًا ملامحها قبل أن يواصل:
“ثمة مناسبة رسمية أخرى قبل ذلك، وإذا حضرتموها فستُعتبر موافقتكم مؤكدة.”
تسارعت أنفاس جولييتا للحظة من وقع المفاجأة.
ازدادت المناسبات التي ستُجبر على حضورها، ومع ذلك لم تُبدِ اعتراضًا بل سألت:
“آه… ومتى ستكون هذه المناسبة؟”
“بعد ستة أيام فقط.”
“…….”
شعرت جولييتا بصداع حاد يطرق رأسها.
تخيّلت سهام النظرات التي ستتلقاها، فأظلمت الدنيا في عينيها.
“حسناً، سأحضرها. ما طبيعة هذا الاجتماع؟”
“إنه لقاء اجتماعي للأزواج.”
“……وهل يجب أن أذهب مع إيفان، أعني… مع زوجي؟”
“نعم، لا بد من ذلك.”
اكتفت جولييتا بإيماءة صامتة.
كان واضحًا أن دور “زوجة هارتفيلد” لم يكن أمرًا يسيرًا أبدًا.
وكان أشد ما أثقل قلبها أن تحضر برفقة إيفان نفسه.
لقد كانت خائفة من نظرات الناس.
بل الأصح أنها كانت تخشى سخرية ألسنتهم وهمساتهم.
لكن لم يعد ثمة مهرب من مواجهتها.
إنه يريد إذلالي… هذا كل ما في الأمر.
فهمت جولييتا نية إيفان وأجابت بصوت مثقل:
“……سأحضر جميع المناسبات الرسمية. أشكرك يا ديفيلو على إبلاغي. لكن… أريد أن أبقى وحدي الآن. هل لي أن أقضي بعض الوقت هنا في المكتبة؟”
“كما تأمرون، سيدتي.”
انحنى ديبيلو، وصرف الخدم الآخرين، ثم خرج من المكتبة.
تركت وحدها، جلست تحدّق في سطح الشاي الذي أخذت حرارته تزول شيئًا فشيئًا دون أن تمسّه.
✦✦✦
كان من عادة قصر براكسيتر أن تُتناول وجبة العشاء بوفرة، حيث يجلس الجميع وجهًا لوجه.
وهكذا، جلست جولييتا وإيفان يتناولان طعامهما متقابلين كالمعتاد.
لكن الحديث بينهما كان غائبًا كليًا.
كانت جولييتا تعبث بطعامها بفتور، إلى أن بادر إيفان فجأة بالكلام:
“هل سمعتِ بأمر اللقاء الاجتماعي وحفلة السفينة؟”
“…….”
ارتبكت جولييتا للحظة، ورفعت بصرها إليه متفاجئة.
أما هو فكان يقطع لحم الضأن بسكينه ببرود، دون أن ينظر إليها.
فاكتفت بأن أومأت بخضوع.
“سأعطيكِ غدًا ملفًا يحتوي على تفاصيل اللقاء. فيه شرح عن الهدف من الاجتماع وأسماء الحاضرين.”
واصل حديثه بنبرة محايدة، وكأن الأمر لا يتعدى روتينًا رسميًا.
قبضت جولييتا على شوكتها بقلق، ثم أفلتتها بهدوء.
“حسناً. إن زودتني بالمعلومات فسأدرسها.”
أجابها إيفان ببرود، ثم وضع سكينه على الطاولة للحظة، ورفع نظره إليها.
“سيكون هناك كثيرون يتحدثون عن زواجنا. تدركين ذلك، أليس كذلك؟”
تصلبت ملامحها، ووضعت الشوكة من يدها.
أيسألني هذا؟
كيف لا تعرف؟ أيعقل ألا يفهم ما تواجهه كل يوم؟
“كيف لي ألا أعرف.”
أجابت بخفوت، وابتسامة حزينة مرت على شفتيها.
مهما كان الاجتماع أو الحفل، فالنظرات ستُسلّط كلها عليها وحدها.
وكلمات الناس لن تخرج إلا لتشويهها ووالدها، ونعتهم بالعار والجرم.
ازدادت ملامحها كآبة، فقال إيفان ببرود لا يتزعزع:
“لا داعي لأن تُلقي بالًا لكلام الناس.”
ارتجفت جولييتا ضاحكة بمرارة.
“أليس هذا بالضبط ما تريده…؟”
جولييتا رفعت رأسها بخفوت، ونظرت إلى إيفان.
إيفان قابل نظرتها مباشرة، وتحدث باختصار وحزم.
“بالطبع أريد ذلك. لكنني قلت ما قلت لأنك إن انصعتِ لكلام الناس فلن تقومي بدورك كزوجة. على الأقل، أريد منك أن تؤدي دورك كزوجة على أكمل وجه.”
ذلك الكلام بدا وكأنه أمر.
جولييتا شعرت بالاختناق من ثقله.
لكن في عيني إيفان كان هناك يقين راسخ.
وكأنه يؤمن أنها ستفعل ذلك حتماً.
من دون أن تتجنب نظره، سألته جولييتا مرة أخرى.
“…… وإن لم أستطع أن أفعل ذلك؟”
إيفان لم يُجب.
غير أن ابتسامة باهتة ارتسمت على شفتيه.
جولييتا أطلقت تنهيدة عميقة.
وكلام إيفان صدق، فهي في النهاية لا مفر لها سوى أن تفعل.
إن لم يكن بالإمكان الفرار…… فلا بد من الاحتمال.
‘كسيدة هارتفيلد…….’
لم تكن تدري ما الذي يعنيه ذلك بالضبط، غير أن مشاعر غريبة غمرتها.
إيفان راقب بصمت نظراتها المرتجفة.
لم يستطع أن يدرك على وجه الدقة ما الذي تشعر به من كلامه.
لكن ذلك لم يكن مهماً.
المهم أنها قد تفاعلت مع كلماته.
حين كانت ترتجف في حضنه، وتستجيب كما يشاء، كان إيفان يشعر بنشوة لاذعة، ومعها عاطفة كان يكره الاعتراف بها حتى أمام نفسه.
دون أن يدري، ارتسمت ابتسامة على وجهه من شدة رضاه عن الموقف.
فهي تتحرك على النحو الذي يريده.
تستجيب كما يشتهي.
رغماً عنها أو برضاها، صارت ملكاً له.
اسماً وفعلاً، صارت شيئاً بين يديه يحركه كما يشاء، يسيّره ويسيطر عليه.
وهذا الواقع منحه نشوة غامرة.
جولييتا لم تكن متمردة.
لكنها لم تكن أيضاً مطيعة طاعة عمياء.
كانت دوماً عالقة عند الحد الفاصل، مترددة، راغبة في الفرار، مشدودة بين الخوف والإنكار.
نعم.
كانت تريد أن تهرب، لكنها في النهاية لا تستطيع أن تفلت من قبضته.
حتى وهي تتأرجح بخطر بجواره، لم تتخلَّ تماماً عن بصيص أمل، ولم تدِر له ظهرها بالكلية.
إيفان أخذ يرفع كأس النبيذ بهدوء، وعيناه ترقبانها.
حتى الآن، وهي أمامه، كانت تتردد، تمد يدها إلى الشوكة التي وضعتها، ثم تتوقف مترددة من جديد.
هل تفكر بالهرب؟
أم أنها تكرر في ذهنها الحقيقة التي عليها أن تقبلها؟
أيّاً يكن، لم يكن ذلك مهماً.
ففي النهاية، ستبقى إلى جواره.
مهما كان شعورها، ومهما كان منظورها، فإن الحقيقة الأهم هي أنها له.
إيفان انتظر اللحظة التي ستنقاد فيها جولييتا تماماً.
ويوم تصير ملكاً له كلياً، رسمه في خياله، وفتح شفتيه قائلاً:
“كفى على الطعام. اصعدي إلى غرفة النوم وانتظريني هناك.”
“…….”
وجه جولييتا احمرّ بشدة عند كلماته.
أشاحت بوجهها لتتفادى نظراته، ثم أومأت برأسها وغادرت أولاً.
أما هو، فقد ارتشف النبيذ ببطء، وعيناه تتابعان خطواتها وهي تبتعد.
وما إن أنهى كأسه ونهض من مقعده، حتى جاءه صوت.
“سيدي…….”
المرافق، وقد بدا متردداً، بادر بالكلام فجأة.
إيفان ألقى نظرة استفهام نحو المرافق الذي اقترب.
“سيدي، لقد وردنا اتصال من الليدي أوليفيا جيرارد.”
وبهذه الكلمات، انعقد حاجباه قليلاً.
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 15"