0
<المقدّمة>
“إنّها جميلة.”
حين رأى ريشيون المعلّمة المنزلية لدوقية إيربينجل لأوّل مرة، كان انطباعه بسيطًا: إنّها امرأة في غاية الجمال.
لكنّ جمالها لم يكن كزهور قاعات الحفلات الملكيّة أو حدائق البلاط، تلك التي تُزيَّن وتُهذَّب بعناية لتبدو ساحرةً ورقيقة. ففستان النهار الذي ترتديه كان بسيطًا متواضعًا، وشعرها البنيّ الكثيف كان مضفورًا في جديلةٍ واحدة تتدلّى خلفها. لم تضع أيّ مساحيق تجميل على وجهها، ولم تزيّن نفسها بأيّ حليٍّ أو مجوهرات.
ومع ذلك، لم تستطع تلك البساطة أن تُخفي الحيوية التي كانت تنبعث منها. كان جسدها الرشيق يبثّ طاقة الشباب والصحة مع كلّ حركةٍ تخطوها، وعيناها الذكيتان تعكسان ضوء شمس أوائل الصيف فتتألّقان. حتى وهي تمشي في الحقل الأخضر، كانت خطواتها خفيفة كأنّها ترقص. بدا وكأنّها لو خلعت حذاءها وجرت حافيةً وسط الرياح لما بدا ذلك غريبًا عليها.
يُقال إنّ بعض الناس يُشعرونك بالسرور لمجرّد النظر إليهم، وقد أحسّ ريشيون أن صداع رأسه، الذي كان يلازمه مؤخرًا كأنّه على وشك الانفجار، بدأ يخفّ قليلًا.
على الجانب المقابل من طاولة الشاي، كانت الدوقة إللاريس، عمّة ريشيون، تتابع بنظراتها اتجاه عينيه. كانت تعلم تمامًا إلى أين كان ينظر، ومع ذلك تظاهرت بالبراءة وقالت:
“بستانيُّنا مجتهدٌ للغاية، وهذه هي الفترة التي تتفتّح فيها الأزهار بأجمل شكلها.”
“إنّكِ ماكرة يا عمّتي.”
لم تُعر إللاريس اهتمامًا لجوابه الجافّ، بل تناولت فنجان الشاي البارد أمامه واستبدلته بآخر طازج صبّته بيدها.
“تلك الآنسة هي ديانو أورتينسا التي حدّثتُك عنها. هل راقت لك؟”
“وهل في الأمر ما يُعجب أو لا يُعجب؟”
قال ذلك، لكنّه راح في ذهنه يُفتّش بين الأسماء النبيلة التي يعرفها. لم يسبق له أن سمع باسم عائلة “أورتينسا”. بما أنّها تعمل معلّمةً منزلية في بيت دوقٍ، فهي بلا شك من طبقة السادة، لكنّ مكانتها على الأرجح متواضعة لا ترقى إلى مصافّ النبلاء الحقيقيين.
وحين استمرّت عيناه تتبعان المعلّمة، قالت إللاريس بنبرةٍ صارمةٍ متعمّدة:
“حتى لو أعجبتك، فإنّ الآنسة ديانو غير مسموحٍ بها.”
“وما الذي تعنينه؟”
“أعني أنّك لا يجب أن تفكّر في اتخاذها عشيقةً لك. هناك كثيرات في القصر يصلحن لمثل هذه العلاقات العابثة.”
تجهّم وجه ريشيون فورًا. لم يكن من الصعب عليه أن يُشبع رغباته الجسديّة لو أراد، بل كان الامتناع عنها هو الأصعب.
فمنذ ما قبل بلوغه، تلقّى ريشيون عددًا لا يُحصى من نظرات الإغراء والعروض الضمنيّة. من رجالٍ أرادوا بيع زوجاتهم طمعًا في الحظوة والسلطة، إلى سيداتٍ نبيلاتٍ يطمعن في الارتقاء بمكانتهنّ. وقد شعر من كلّ ذلك باشمئزازٍ بالغ.
لم يتزوّج حتى بلوغه السادسة والعشرين، لأنّ شعور الواجب لم يستطع أن يتغلّب على رفضه الفطري لتلك الحياة. كان يدرك تمامًا أنّ طباعه لا تليق بمكانته كإمبراطور. لذا مثّل دور الحاكم الذي يضع العمل فوق النساء دائمًا. غير أنّ هذا التمثيل لم يخدع عمّته قطّ.
شعر بحرارة نظراتها من خلف فنجان الشاي، فقال بصرامة:
“ليس في نيّتي أن أنغمس في علاقةٍ غير أخلاقية مع من يرونني قطعة لحمٍ في سوقٍ للذبائح.”
“ولهذا السبب بالذات، يجب أن تبعد نفسك عن الآنسة ديانو. صحيح أنّ أسرتها متواضعة، لكنها سيدةٌ حكيمةٌ عفيفة. أنوي رعايتها حتى أجد لها زواجًا مناسبًا.”
في تلك اللحظة، بدا ريشيون في حيرةٍ حقيقية.
“يا عمّتي، كلّ ما قلته هو إنّها جميلة فحسب.”
“لكن على حدّ علمي، يا صاحب الجلالة، لم تُبدِ إعجابك يومًا بجمال امرأةٍ غير الأميرة.”
“…دعينا نترك الحديث عن ليرا. إنّه يسبّب لي صداعًا.”
كانت ليرا، شقيقته الوحيدة وأميرة الإمبراطورية، في حالٍ يُرثى لها مؤخرًا. رفضت المراسم والمواكب، وامتنعت عن الظهور في أيّ مناسبةٍ ملكيّة.
لم يعُد بإمكانهم التذرّع بالمرض أكثر. فمن الصعب على الناس أن يصدقوا أنّ تلك الأميرة المعروفة بصحتها القويّة قد أصبحت طريحة الفراش فجأة.
قالت إللاريس، وهي تنظر إلى ابنها الصغير الذي كان يتمشّى في الحديقة برفقة المعلّمة:
“أعتقد أنّ الآنسة ديانو قادرة على إعادة الأمل إلى قلب الأميرة.”
“إيمانك قويّ يا عمّتي.”
“لقد احتاجت ستّة أشهر لتجعل ابني إيرين ينطق من جديد. هل تتخيل الأمر؟ أن ترعى طفلًا لا ينطق بكلمةٍ واحدة من الصباح حتى المساء؟”
كان إيرين، ابنها الوحيد ووريث الدوقية، قد فقد النطق بعد أن ماتت قطّته في حريق. والشخص الوحيد الذي أعاده إلى طبيعته كان تلك المعلّمة ديانو أورتينسا. لذا لم يكن غريبًا أن تؤمن بها إللاريس إيمانًا أقرب إلى العبادة.
لكنّ ريشيون ظلّ متشكّكًا.
“لقد مرّت شهور منذ أن تحدثتُ إلى ليرا وجهًا لوجه. أترين أنّ شخصًا غريبًا حقًّا يمكنه إقناعها؟”
“في ظلّ علاقتكما المتوترة الآن، أليس الغريب هو الخيار الأفضل؟”
“…لا أستطيع أن أنكر ذلك.”
وبينما كان يتمتم بذلك، فوجئ ريشيون بأنّ ديانو أورتينسا تنظر نحوه مباشرة من بعيد. كانت تتحدث إلى إيرين بخفوت، ثم بدأت تقترب بخطواتٍ هادئة.
تنفّس ريشيون الصعداء وارتدى القناع الذي كان موضوعًا على الطاولة. لم يكن يخشى أن تُكتشف هويته، بل كان يكره أن يُضطرّ إلى مجاملة الناس عندما يعرفون من هو.
ولحسن الحظ، كانت ديانو سيدةً حكيمةً كما قالت إللاريس. لم تُبدِ دهشةً ولا فضولًا حين رأت الضيف المقنّع، بل انحنت بأدبٍ للدوقة وقالت:
“مرحبًا يا صاحبة السمو الدوقة.”
ابتسمت إللاريس استقبالًا لها وقالت:
“مرحبًا بكِ يا آنسة ديانو. ظننت أنّ هذا وقت نزهة إيرين، فخرجت لأراه وأُعرّف ضيفي على الحديقة أيضًا.”
انحنت ديانو قليلًا بأدب، فردّ عليها ريشيون بإيماءةٍ خفيفة.
اقتربت أكثر، وكان خداها مورّدين كزهرتين، حتى إنّ ريشيون شُدّ إلى حيويّة وجهها وكأنّه نال نصيبه من دفء الشمس.
تجنّبت ديانو نظرته ببراعة، والتفتت إلى إللاريس قائلة:
“هل أُحضّر العشاء ليتناوله السيد الشاب مع الجميع؟”
“سيكون عشاءً عائليًا. تعالي أنتِ أيضًا، يا آنسة ديانو.”
كان واضحًا أنّها تُلمّح إلى أنّ ريشيون لن يبقى للعشاء. فلم يكن من اللائق أن تُكلّف موظّفيها إعداد مأدبةٍ طارئة للإمبراطور نفسه، ولذلك لم يعترض ريشيون.
انحنت ديانو بأدب ثمّ بدأت تعود أدراجها. وبينما كان يتابع خطواتها الخفيفة بنظراتٍ شاردة، قالت إللاريس بنبرةٍ تأنيبية:
“قلت لك إنّ الآنسة ديانو غير مسموحٍ بها.”
زفر ريشيون وقال:
“صدقيني، لا أحمل نوايا سيّئة.”
“الإعجاب الذي يشعر به شابٌّ تجاه فتاةٍ جميلة ليس أمرًا سيئًا، لكنّي لن أسمح لك بفعل ما قد يُلطّخ سمعتها.”
“يا عمّتي، أنا لستُ مثل والدي.”
أومأت إللاريس بهدوء.
“وهذا أمرٌ مفرح حقًّا.”
كان الإمبراطور الراحل يحبّ الإمبراطورة، لكنه كان يمتلك عشيقاتٍ وأبناء غير شرعيين كُثر. فقد كان قادرًا على فعل ذلك دون أن يردعه ضميرٌ أو خُلُق. أمّا ريشيون، فكان لا يزال يعتني بأبناء والده غير الشرعيين حتى اليوم، رغم أنّهم من أكثر ما تركه والده كراهيةً في نفسه.
قالت إللاريس:
“شكرًا على الهدية. لقد أسعدت إيرين كثيرًا.”
“هو لا يزال صغيرًا، لذا ظننت أنّه سيفضّل الجراء على الجياد. سعيد لأنّها نالت إعجابه.”
كان ريشيون قد أهدى إيرين أحد صغار كلاب الصيد التي أنجبتها كلبته المفضّلة. وبعد أن كان الفتى ينفر من الحيوانات منذ أن فقد قطّته، نجح الجرو الصغير في كسر ذلك الحاجز.
وبينما كان يراقب الطفل يتحدث إلى معلمته بسعادة، نهض ريشيون من مكانه. اقترب الحارس المرافق وألقى على كتفيه معطفه.
“سأتّبع نصيحتك يا عمّتي. وآمل أن تكون الآنسة ديانو أورتينسا كما تقولين: معلّمةً ممتازة.”
“بل أفضل ممّا تتوقع.”
وقفت إللاريس وانحنت بعمق أمامه قائلة:
“المجد الأبدي لشمس كاتالوس.”
ثمّ توجّه ريشيون مع حارسه نحو بوابة القصر حيث كانت العربة بانتظاره للعودة إلى البلاط الإمبراطوري.
لكن قبل أن يغادر بلحظات، سمع صوت خطواتٍ مسرعة وصراخًا متلهّفًا:
“الرجاء، انتظروا قليلًا!”
كانت هي، المعلّمة المنزلية. كان خداها مورّدين من الجري، فالتفت إليها ريشيون وحارسه بدهشة.
بعد أن التقطت أنفاسها، مدت يدها نحوه وقد أمسكت بشيءٍ في قبضتها. حاول الحارس أن يمنعها، لكنّ ريشيون أشار إليه بالتراجع.
ما قدمته له كان بضع زهور وردٍ متفتّحة. عرف من لونها وشكلها أنّها من نفس الأزهار التي تملأ الحديقة.
ولمّا لم يمدّ يده لتلقّيها على الفور، قالت بسرعة:
“سمعت أنّك أنت من قدّم الجرو للسيد الصغير. أعلم أنّ هذا ليس بشيءٍ ذي قيمة، لكن هل تقبل هذا كهديةٍ متواضعة ردًّا للجميل؟”
“……”
“لقد كان سعيدًا للغاية بهديتك، وأراد أن يُعبّر عن امتنانه، لذا فعلتُ هذا نيابةً عنه…”
ثمّ توقّفت قليلًا، ومدّت يدها إلى شعرها، فحلّت الشريط الذي كان يربط ضفيرتها. كانت حركتها جريئة، وانسكبت خصلات شعرها الناعمة على عنقها. انتشر عبير الصابون الطازج والأعشاب في الهواء.
ربطت الزهور بالشريط بسرعة لتصنع باقةً صغيرة، وقدّمَتها إليه. أخذها ريشيون بصمت.
لم يتلقَّ هدية زهورٍ كهذه منذ أيام الطفولة مع شقيقته الأميرة.
“هل ستقبلها؟”
رفعت إليه عينيها الذكيتين بثبات.
كانت هذه الشابة بلا شك لا تعرف من هو حقًّا. فلو كانت تعلم أنّه الإمبراطور، لما نظرت إليه بتلك العفوية.
راوده إحساسٌ غامض بالأسى. فحتى لو سارت الأمور وفق خطته ورآها ثانيةً، فلن تكون هي نفسها. تلك النظرات الصادقة، وذلك الصوت الهادئ المفعم بالثقة، كلّها ستتلاشى أمام “الإمبراطور” لتُستبدل بالخضوع والمهابة.
شعر وكأنّه فقد شيئًا كان على وشك أن يمتلكه. أخفى انقباض صدره بابتسامةٍ خفيفة وقال:
“شكرًا لكِ. إنّها جميلة للغاية.”
ابتسمت بارتياح، كأنّها كانت تخشى ردّ فعله. كانت ابتسامتها نافذةً إلى قلبه.
ثمّ انحنت مودّعةً وسارت عائدةً نحو الحديقة بخطواتٍ خفيفة. وقف ريشيون في مكانه يتابعها حتى اختفت عن ناظريه تمامًا.
وفي الوقت نفسه، قال الحارس الذي كان يحدّق في اتجاهها هو الآخر:
“يبدو أنّك مسحور بها يا مولاي.”
“……”
“لقد سمعتُ عن المعلّمة المنزلية في بيت الدوق، لكن لم أتخيّل أنّها بهذه الصورة.”
عرض الحارس أن يحمل الباقة بدلًا عنه، لكنّ ريشيون رفض. كانت تلك الهدية موجّهة إلى الإنسان ريشيون، لا إلى الإمبراطور، ولم يُرِد أن يسلّمها إلى يدٍ أخرى.
غادر القصر والدنيا تختلط في صدره بمشاعرٍ متناقضة. ظلّ عبير الزهور العذب، الممتزج برائحتها الخاصة، يملأ أنفه. كان شعورًا مُرًّا، كمن أطلّ على مستقبلٍ جميلٍ يعلم أنّه لن يكون له أبدًا.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
أنستا: fofolata1 ✿
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!

إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 1 منذ يوم واحد
- 0 - المُقدمة منذ يوم واحد
التعليقات لهذا الفصل " 0"