استمتعوا
كاليستو كانت تدرك تمامًا غضب هيلي. أجل، لا بد أنها رغبت في إطلاق سهم في صدر ذلك الوغد، وهذا أمر مفهوم. ولهذا، أرشدتها بنفسها إلى المكان الذي ينبغي أن تصوّب إليه.
“إن لم تسر الأمور حسب الخطة، انفخي في المزمار حالًا.”
في موضع لا تطاله عين إيدن، أمسكت هيلي بالقوس والسهم.
وحين همّ خنجره بطعن صدر إينو —
شقّ السهم الريح واندفع منطلقًا من يد هيلي.
“آاااه!”
كانت تصوّب نحو القلب، لكن السهم أصاب ذراع إيدن اليمنى. ومع صرخة الألم، سقط الخنجر الذي كان يمسكه من يده إلى التراب. نظر إلى السهم المغروس في ذراعه وهو يغلي غيظًا.
“من؟! من هو ذاك المجنون؟!”
استدار إيدن نحو الاتجاه الذي أتى منه السهم، وعيونه تتلظّى بغريزة القتل. وعند رؤية ذلك، تذكّرت هيلي كلمات كاليستو، ونفّذت أوامرها فورًا، فنفخت في المزمار.
طَقّ—
حاول إيدن أن ينزع السهم، لكنه انكسر من منتصفه.
“اللعنة!”
وكأنها كانت تتوقع فشل هيلي، حتى أخرجت كاليستو سيفها فورًا، واندفعت بسرعة ريح الشمال وقطعت عنق إيدن بضربة واحدة.
تششاااق—
تناثرت الدماء على ثياب كاليستو والعشب المحيط بها. وبينما كانت هيلي تحدّق بكاليستو الملطخة بالدم، أدركت أمرًا مهمًّا.
لو أن سهمها أصاب قلب إيدن، لكانت كاليستو هي من نفخت في المزمار بنفسها. لكنها كانت تتوقّع بدرجةٍ ما فشل هيلي، ولذلك أوصتها باستخدامه.
وما إن سقط إيدن، هرعت إينو إلى حيث كان ميليكير مرميًا على الأرض. وضعت أذنها أولًا على أنفه، ثم على صدره، لتتحقّق من تنفّسه، لكن ما إن تأكّدت من خلوه حتى بدأت تبكي.
“آه… ميليكير… إن لم تكن هنا، إن لم تكن بجانبي، فماذا أفعل؟“
لقد كان سيف إيدن مغطّى بالسم. وقد توفي ميليكير أثناء صعوده الجبل بسببه. وبينما كانت كاليستو تتفقد جثة إيدن، بقيت هيلي واقفة، عاجزةً عن فعل شيء. لو بقيت فيه أنفاس، لكانت سعت إلى ضخّ القوة المقدسة في جسده.
بعد لحظات، وقفت إينو مترنحة، والتقطت خنجر إيدن. ثم، دون أي تردّد، غرسته في بطنها.
فقدان الطفل الذي كان كلّ حياتها، جعل الحياة بلا جدوى.
صرخت هيلي بصوت ممزق.
“ما الذي تفعلينه…؟!”
‘كيف تجرئين على طعن نفسك؟ بأي قلب تفعلين هذا بعدما شفيتكِ يومها؟ هل جننتِ؟‘
على عكس ميليكير، الذي لم يكن بالإمكان إنقاذه، كان بإمكانها أن تنقذ إينو. بدأت القوة المقدسة تنساب من أطراف أصابعها دون وعيٍ منها.
لكن حين اقتربت منها، صرخت إينو، وقد بلغت حافة الجرف.
“لا تقتربي!”
“…”
لو تقدّمت خطوة واحدة، لرمَت بنفسها.
توقفت هيلي وكاليستو في مكانهما، تتأمّلان جسد إينو المرتجف عند الحافة. وحدها أنفاسهم المقطوعة، وهمسات الريح، وصوت أوراق الشجر المتراقصة كانت تملأ المكان.
مرّت غيمة، وتسرّبت أشعة الشمس من بين الأغصان. وتحت ذلك الدفء الذهبي، تلاقت عينا إينو وهيلي.
‘إن لم أسأل الآن، فلن أملك الشجاعة لفعلها لاحقًا… وإن لم أفعل الآن، فلن أحصل على جوابٍ أبدًا…’
وبصعوبة، حرّكت هيلي شفتيها.
“لماذا دللتِني على مكان أمّي؟ كان من مصلحتك أن يعثر عليها أبي ويقضي عليها، أليس كذلك؟“
الآن فقط، فهمت إينو ما كانت هيلي تنوي سؤاله حين جاءت تعالجها.
“تلك الرسالة… لم أكن أنا من أرسلها.”
كذبة. لم تذكر هيلي يومًا أن رسالةً أخبرتها بمكان والدتها. لم يكن ينبغي لإينو أن تعلم أنها علمت عن طريقها.
“في يوم مقتل فريكسوس، أمسكتِ بي. لماذا اتخذتِ ذلك القرار؟“
“ألا تعلمين السبب؟ كان لا بد أن ينجح مخطّط إيدن. إن قابلكِ، ستتعقّد الأمور.”
وقد تعقّدت فعلًا. حتى هيلي فكّرت بالأمر ذاته. ظنّت أن إينو أمسكت بها فقط كي تقتل فريكسوس بعيدًا عن الأعين.
هزّت هيلي رأسها، مكسوّةً بخيبة مريرة.
“إذًا، سأنادي على ميليكير الآن.”
“الآن…؟“
‘في ذلك اليوم، كنتِ تمنعينني من الذهاب إلى المبنى الفرعي… أردت تصديق أنني واهمة… أن مجرد التفكير بهذا الاحتمال ضربٌ من الجنون…’
“هل كنتِ… قلقةً عليّ؟“
ارتسمت على وجه إينو دهشة قصيرة، لكنها سرعان ما هزّت رأسها نفيًا.
وهكذا، تيقّنت هيلي من الحقيقة التي لم ترغب يومًا في معرفتها، لكنها في الوقت ذاته، تمنّت أن تعرفها.
إينو، تلك التي كانت تحتضر بسبب السم، ابتسمت بأبهى ابتسامة رأتها هيلي يومًا. كانت ابتسامة لا تليق بمن تموت، لكنها فعلتها رغم كل شيء.
“هل تعلمين؟ عندما جئتُ إلى العاصمة، كنتِ أوّل من ساعدني.”
حينها، كانت كلتاهما صغيرتين. وأثناء تنقّلها مع المرافقين، لاحظت هيلي أن إحدى العربات معطّلة. فأمرت بإصلاح العجلة.
دون أن تدري أن المرأة التي في العربة كانت عشيقة أبيها… وكانت تحمل طفله.
كم كان وقع الصدمة كبيرًا عندما رأتها لاحقًا تدخل منزل الماركيز، تحتضن ابن والدها!
لو أنها عرفت يومها من تكون تلك المرأة، كيف كانت الأمور ستتغير؟
تكلّمت هيلي بصوت يتقطّع.
“ما كان يجب أن أساعدكِ يومها… سواء تعطّلت عربتكِ أو لا، كان عليّ أن أمضي في طريقي.”
ضحكت إينو، ثم انفجرت في البكاء. كانت شفتاها البيضاء ترتجفان، والدم يسيل من بينهما.
“أنا آسفة… لقد ارتكبتُ أفعالًا لا تُغتفر…”
تأرجح جسدها أكثر من ذي قبل، لكنها تابعت الكلام دون أن تكترث.
“رغم كثرة أكاذيبي… إلا أن قولي بأنني فرحتُ حين شُفيت ساقاكِ وأذنكِ… كان صادقًا.”
“أجل… ساقاكِ وأذنكِ، فرحتُ بشفائهما حقًا.”
‘لقد جنّت… فقدت عقلها…’
تلك المجنونة لم تترك لهيلي مجالًا للرد، إذ اختتمت كلماتها وابتسامتها، ثم ألقت بنفسها من فوق الجرف.
“إينوووو…!”
أسرعت هيلي نحو الحافة، لكن كاليستو أمسكت بها.
كانت ترغب بالانتقام من والدها، كانت تريده أن يتألّم. لكنها حتى بعد موته، لم تشعر بالرضا.
كانت تظنّ أن السبب هو عدم تخلّصها من إيدن وإينو كليًا. لكن، إن كان شعورها بالاختناق ما زال يعصر قلبها حتى بعد انتحار إينو، فما السبب الحقيقي؟
حين أدركت هيلي الجواب، غرزت أظفارها في صدرها، محاولةً إخماد الألم.
‘كنت أتمنى تعاستكِ يا إينو… لكن لم أكن أريدكِ أن تموتي هكذا…’
هل يحقّ لي أن أظنّكِ مجنونة؟ إن عرفتِ ما في قلبي، لقلتِ إنني أنا المجنونة.
“بَدف-!” — صوت ارتطام جسد إينو بالماء أسفل الجرف. وما لبث أن قفز أحدهم خلفها بسرعة خاطفة.
لم تستطع هيلي التغلّب على الصدمة، وتلعثمت بكلماتها. لم تكن تدري أنها تبكي.
“مـ، من الذي…؟“
“السيدة تيتيس. …هي سبّاحة ماهرة، ستُخرج إينو من البحر.”
عانقتها كاليستو، وحاولت أن تُعيد الدفء إلى جسدها المتجمّد.
***
فرّ إيدن فور سماعه بخبر اعتقال ماركيز ترافيا، وجاء إلى إقليم ماركونتي بحثًا عن إينو. لكنه لم يفلح في إيجادها.
وحين فُرض الحجر على الإقليم بسبب الوباء، أصابه اليأس، وظنّ أنه سيُقبَض عليه حتمًا.
لكن سرعان ما تحوّل المأزق إلى فرصة، بفضل كاهن ثرثار.
“جمالٌ بشعرٍ أحمر، مختبئةٌ في منزلٍ مهجورٍ لا يسكنه أحد…”
‘لابد أنها إينو.’
ذلك الخائنة! تنكر فضلي وتخونني؟!
قبل نحو ثلاثين دقيقة من صعود كاليستو ومن معها إلى الجبل، تسلّل إيدن إلى المخبأ وقتل الفارس روبين.
فزعت إينو وهربت إلى الخارج، تنوي طلب المساعدة من أهل القرية.
لكن حين أشهر إيدن سيفه على رقبة ميليكير، اضطُرّت إلى الرضوخ لأوامره.
فصعدت معه إلى الجبل.
بعد عدّة دقائق، توجهت تيتيَس إلى المخبأ بصحبة أحد الفرسان، بعدما أرسلت الآخرين إلى الجبل. لكنهم وجدوا جثةً واحدة فقط، في منزل كان ينبغي أن يحوي ثلاثة أشخاص.
‘إينو وميليكير اختفيا… وروبين ميت. هل كانت إينو من قتله؟‘
ركعت تيتيَس لتتفحّص الجثة.
‘لكن الجرح يبدو نازلًا من الأعلى إلى الأسفل… إينو لم تكن لتقضي على روبين بضربة واحدة دون أن تُصاب.’
“هل يمكن ان إيدن قد أتى؟“
“لكن لا وجود لجثث إينو وميليكير. من غير المعقول أنهما نزلا إلى القرية المزدحمة، لا بد أنهما صعدا إلى الجبل.”
“سأصعد بنفسي. أنت فتّش القرية.”
“امرك!”
ولحسن الحظ، كان بعض أعضاء الفريق يصطادون في الجبل.
‘آمل فقط أن يُعثر على إيدن قبل أن يصيب إينو أو ميليكير بمكروه…’
صعدت تيتيَس الجبل بقلبٍ يتفجّر قلقًا، وبينما هي كذلك، سمعَت صوت المزمار.
‘هل وجدوا وحشًا بريًّا؟ أم إيدن؟ لا وقت للتفكير!’
اندفعت تجري بلا تردّد.
وحين بلغت القمّة أخيرًا—
رأت إينو تبتسم ثم ترمي بنفسها إلى البحر.
‘لااا…! لا تموتي!’
ومن دون أن تقيّم الموقف، قفزت تيتيَس خلفها.
***
اختفت كلٌّ من إينو وتيتيس، ولم يُعثر لهما على أي أثر.
بينما كانت في أحضان كاليستو، ضحكت هيلي وهي تمسك بأذنها اليمنى. المرأة التي كانت تبكي قبل لحظات، باتت تضحك بهيستيرية، مما أقلق كاليستو وسألتها.
“لمَ… لمَ تضحكين؟ هل أنتِ بخير؟“
“لقد… سمعت اوراكل، هاها!”
“اوراكل؟!”
لكن في الحقيقة، لم يكن الاوراكل موجّهًا لهيلي… بل كان مَن نزل عليها الاوراكل هي: إينو.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 78"