استمتعوا
“أرسلتُ بعض الرجال، وأمرتُ بأن تُعلَّق منشفة بيضاء على مقبض الباب في كل منزل فيه مصابون. كل منكم سيتولى معالجة المرضى في منطقته الخاصة.”
سار الكهنة وفق تعليمات ميتيس، وتوجه كلٌّ منهم إلى منطقته ليقوم بالشفاء.
‘…لقد عالجتُ ثلاثة عشر شخصًا فقط، فكيف أنهكني التعب بهذا الشكل؟‘
مسح الكاهن رون العرق بمنديله، وسرعان ما أسرع بخطاه. وأثناء تنقله بين المناطق، مرّ صدفةً بمنطقة كانت هيلي تعالج فيها.
‘يُقال إن قواها الروحية مذهلة، فدعني أرى مدى عظمتها بعيني.’
كان ينوي، لو التقاها، أن يختلق عذرًا بأنه جاء لإعادة تحديد المنطقة المكلف بها. دون تردد، ترجل رون عن فرسه واتجه نحو مكان هيلي.
وبعد قليل، توقف فجأة دون وعي منه.
نورٌ أزرقٌ مقدّس.
في منزل متداعٍ، كانت هيلي تُعالج شيخًا. بعينين مغمضتين وقلبٍ ممتلئٍ بالأمنيات، أرادت أن يعمّ السلام قرية الأخوات الثلاث، وألا يموت أهلها.
“إنها حقًّا قديسة…”
كان ما ظنّ أنه مجرد فكرة في ذهنه، قد خرجت من فمه دون أن يدري.
وما إن أنهت هيلي العلاج وخرجت، حتى أسرع رون يثني عليها بنية صافية، مُقدمًا لها نصيحة.
“لعل الحاكم لم يكن ليستطيع رعاية الجميع، لذا أرسل إلى هذه الأرض شخصًا مثلك، صاحبة رؤيا. ألا تفكرين في التوبة؟ إن الحكام الرحيمة ستغفر لكِ خطاياك، ولا شك أنها ستمنحكِ وحيًا يأمركِ بالعودة إلى المعبد.”
لكن رون وحده كان يجهل أن ما قاله كان وقحًا، ومتعجرفًا على نحوٍ غير مقبول.
وقفت هيلي لحظة تحدّق فيه بصمت. لم يكن رون مدركًا، لكن من حوله فهموا النظرة جيدًا: ‘ما هذا الهراء؟‘
“لستُ واثقة، لكني لا أظن أن الحاكم فكّر كثيرًا حين خلقني. ثم إني جئتُ إلى هنا للترفيه، ولم أبقَ إلا بطلب من الكونت، فلا أظن أن الحاكم هو من أرسلني.”
“…”
“ثم، ما الذي تعنيه بالتوبة؟ لم أرتكب شيئًا يستوجب التوبة.”
قالت عبارتها الأخيرة بحدة، ثم مشت نحو المريض التالي.
وقف رون مذهولًا، محمر الوجه، يتمتم لنفسه وهو ينظر في اتجاه مغادرتها.
“…يا للمجنونة، انظر إلى طباعها! لا عجب أنها طُردت من الكنيسة.”
وهكذا، تراجع عن اعتقاده بأنها قديسة حقيقية.
***
“أشعر بالألم، يا أمي…”
ظل الطفل يسعل طوال اليوم، حتى تقيأ أخيرًا بلغمًا مخلوطًا بالدم. تلطخت يداه والغطاء الأبيض بدمٍ أحمر، فتجمد جسده من الرعب.
“…أنا خائف.”
حين رأى الدم بعينيه، شعر بأن الألم تضاعف. وبدأت الدموع تسيل من عينيه الكبيرتين. كانت رؤية دموعه تمزق قلب والدته، إذ لم يكن بإمكانها فعل شيء لأجله.
“لا بأس، سيأتي الكهنة قريبًا.”
قالت الأم بصوتٍ ناعم، كأنها تغني له لتهدئته، وهي تمسك بيده.
“لن أتركك وحدك. سأبقى إلى جانبك حتى تتعافى، فلا تخف، صغيري.”
وما إن غلب النوم الطفل بفعل الحمى، حتى بدأت الأم ترتجف وهي تبحث في الدرج. وأخرجت منه ورقة من نبات سيراتوس، ووضعتها تحت لسانها.
وبعد برهة، لما رأت الورقة وقد احمرت كلون اللسان، ابتسمت. لقد أُصيبت هي الأخرى بالعدوى.
‘هل هذا عقابي المتأخر؟‘
لقد مات زوجها. وكانت نجاتها ثمرة تسليمه للموت. والآن، لم يتبقَ لها إلا هذا الطفل.
هو كلُّ ما تملك. لقد خانت زوجها فقط لتعيش مع طفلها…
فإن مات طفلها، فلن تتردد في اللحاق به.
‘ربما يُراد لي أن أطلب الغفران بالموت.’
وفي لحظة من اليأس، أخفت وجهها بين كفّيها، حتى غاصت أظافرها في جلدها، دون أن تنتبه.
“لماذا أنا…؟“
حين بدأ الصخب أمام الباب، أبعدت يديها عن وجهها، وأرهفت سمعها. لم تكن الأصوات واضحة، لكن بدا أن الكهنة الشافين قد وصلوا.
كان هناك فارسٌ يحرس الباب لحمايتهما، لكنها لم تفكر فيه كثيرًا في تلك اللحظة.
‘علينا أن نتلقى العلاج بسرعة.’
فتحت الباب دون تردد، وصرخت بنداءٍ مؤلم.
“ابني مريض! أرجوكم، أرجوكم عالجوه…!”
لكن صراخها لم يطل، إذ ما إن التقت عيناها بعيني هيلي الواقفة أمام الباب، حتى شعرت وكأن الهواء قد انقطع عنها. شحب وجهها كأنما صُفعت.
‘لماذا لا تزال هذه المرأة هنا…؟‘
كانت هيلي أيضًا مذهولة، وإن بدا على وجهها الجمود لاحقًا.
“…مر وقت طويل، إينو.”
ذلك لأن تيتيس لم تُبلغ أخواتها بعد بمكان اختباء إينو الجديد، مما أدى إلى هذا اللقاء غير المتوقع.
***
وضعت هيلي يدها على رأسها المتألم. لم يكن السبب الحمى.
‘…هل سبق لي أن استخدمتُ هذه الكمية من الطاقة المقدسة من قبل؟‘
عند التفكير في الأمر، لم تفعل شيئًا في المعبد سوى إنبات الزهور أثناء الطقوس، أو منح البركة للمتبرعين بسخاء. لم تعالج عددًا كبيرًا من المرضى بهذا الشكل من قبل.
“كم تبقّى؟“
“خمسة منازل فقط.”
ثم تنتقل بعدها إلى المنطقة التالية لتكمل العلاج. أومأت هيلي برأسها، واتجهت إلى منزلٍ علّقت على بابه منشفة بيضاء، وأتمّت علاجه بسرعة فاقت تقديرات ميتيس.
بعد استراحة قصيرة، وقبل أن تواصل إلى المنطقة التالية، لفت نظرها منزلٌ عند أطراف القرية.
كان يقع في منتصف المسافة بين منطقتها ومنطقة الكاهن رون.
‘موقعه غريب.’
رأته أقرب لمنطقة رون، لكنه على الأرجح كان يظنه ضمن نطاقها.
تذكرت هيلي حينها حجم القوة المقدسة التي يمتلكها رون، وهزّت رأسها.
‘…سأذهب أنا.’
أمام الباب، كان رجلٌ يقطع الحطب. تنفّس الفرسان المرافقون لـ تيتيس بحدة، وكأنهم يعرفونه. الرجل، وقد تعرّف على هيلي، انحنى لها.
“هل أنت صاحب هذا المنزل؟“
“أجل، سيدتي.”
“ثمة علامةٌ تشير إلى وجود مريض، سأدخل.”
“ذاك…!”
كان هذا الرجل فارسًا تابعًا لـ ماركونتي، متخفّيًا على أنه زوج إينو.
‘هل يُسمح لهما بلقاءٍ كهذا؟‘
فوجئ الرجل، فوقف في طريق هيلي، مما جعلها تعقد حاجبيها.
“لمَ تمنعني من الدخول؟“
‘هل يعرف هؤلاء أن إينو ترافيا بالداخل؟ ها؟‘
أشارت بعينيها إلى زملائها الفرسان، لكنهم لم يفهموا قصدها. فلم يكن أحد منهم على علم بمكان إينو السري.
في تلك اللحظة، وهي حائرة بين التقدم والتراجع، اندفعت إينو من داخل المنزل.
بشعرها الأحمر الناري.
اتسعت عينا هيلي عندما رأت إينو. نظرت إليها مطولًا وبهدوء.
لم يكن عطر الأعشاب المنعشة الذي عهدته منها باقٍ. وربما لأنها بكت، كان تحت عينيها محمرًا، وقد بدا على ملامحها الشحوب والنحول. لكنها، رغم ذلك، ظلت فاتنة على نحوٍ مرعب. كأنها حاكم سقطت من عليائها.
“…لقد مضى وقت طويل، يا إينو.”
ارتخت ملامح هيلي المتجمدة قليلًا.
‘ما الذي جاء بها إلى هنا؟‘
كيف وصلتا إلى هذا الموقف؟ حتى وإن كانت صدفة، فالأمر فاق الاحتمال. شعرت أن الموقف عبثي لدرجة أنها كادت تضحك.
آه. لماذا أوكلوا إليّ هذه المنطقة؟ لأنها مكتظة بالناس؟ كان الأجدر بـموري أن يتولاها. هل نسيت ميتيس موقع مخبأ إينو في خضم كل هذه الفوضى؟
“سأدخل وحدي.”
كان هذا أمرًا بالصمت للفرسان، وأن عليها أن تعالج ثم تخرج دون ضجة. أمسكت هيلي بذراع إينو، ودخلت البيت. بدا جسد إينو باردًا، لكن قلب هيلي كان يخفق بعنف.
“في الغرفة الداخلية… ميلكير هناك.”
توقفت هيلي فجأة. وقفت وسط الغرفة تتأمل إينو.
رغم الهزال، لم تكن بائسة تمامًا.
لو لم يكن ميليكير مريضًا، لبدت في حالٍ أفضل مما كانت عليه في منزل الماركيز. شعرت هيلي بنوعٍ من التنافر.
ولأن هيلي توقفت، توسلت إليها إينو.
“لا تهتمي لي، فقط… فقط أنقذي الطفل، أرجوكِ…”
“يبدو أنكِ تحبين ميليكير كثيرًا.”
ومع تنفّسها، تراءى أمامها وجه فريكسوس الميت.
“كان فريكسوس أيضًا ابنًا لأمي.”
كيف لها أن تبكي فقط لموت طفلها، وتتجاهل موت غيره؟
“…أنا آسفة. أخطأت. أخطأت كثيرًا، حقًّا…”
جثت إينو على ركبتيها أمام هيلي، وانهمرت بالبكاء.
تركتها هيلي تبكي دون أن تُقاطعها، ثم اتجهت إلى الغرفة حيث كان ميليكير مستلقيًا على السرير.
ومن أطراف أصابع هيلي، تفتحت زهرة من نورٍ أزرق. وضعت يدها على جبهة الطفل وبدأت تعالجه.
“سأذهب الآن، وداعًا.”
“هل ستعودين مجددًا؟“
“لا، لن آتي مرة أخرى.”
“…إلى اللقاء.”
***
تذكرت هيلي هذا الحديث الأخير مع ميلكير، وهي تخرج من الغرفة.
خارجها، كانت إينو لا تزال راكعة، تبكي وتُسعل.
‘قالت إنها لا تريد علاجًا لنفسها، فقط الطفل…’
فكرت للحظة في المغادرة دون علاجها، لكنها هزّت رأسها.
‘لو لم أكن أنوي علاجها، لما عالجت ميلكير أساسًا. من السخف معالجة شخص واحد ثم الرحيل.’
حين قررت شفاء ميلكير، كانت قد قررت ضمنًا شفاء إينو أيضًا.
‘والأهم… إن لم أُعالجها، فسيعود المرض إلى القرية من جديد.’
رفعت إينو رأسها، ونظرت إلى هيلي الواقفة أمامها. كانت عيناها ممتلئتين بالدموع، ربما من السعال. كما فعلت مع ميلكير، مدت هيلي يدها إلى جبهة إينو.
وبمجرد أن لامستها، غمرها نورٌ مقدس ، ما أجبر إينو على إغلاق عينيها. وسط الظلام، سمعت صوت هيلي، كأنّه اوراكل.
“إينو… لماذا اخترتِ هذا الطريق؟“
“…إذا كنتِ تقصدين أنني سلّمتُ الماركيز، فـ—”
“لا، ليس هذا.”
أنهت هيلي العلاج وسحبت يدها. فتحت إينو عينيها ببطء، مترددة.
“إن لم يكن ذلك، فما القرار الذي تقصدينه…؟“
تنفّست هيلي بعمق. لم تكن تركض، ومع ذلك كان قلبها يدق بجنون.
…لقد أرسلتِ لي رسالة، أخبرتِني فيها بمكان أمي. ثم، في اليوم الذي مات فيه فريكسوس، لماذا…
“سيدتي…؟“
“لماذا أنتِ…؟“
حاولت أن تختار كلماتها بعناية، لكنها وجدت نفسها غير قادرة على التنفس.
اشتدّت أنفاسها، وسمعت خفقات قلبها تدوي في أذنيها.
أفكارها المزدحمة لم تتحول إلى كلمات، وسرعان ما فقدت هيلي وعيها، قبل أن تجد الإجابة التي كانت تسعى إليها.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 76"