استمتعوا
“هيلي. فلنذهب سريعًا إلى حيث توجد تيتيس. سنذهب، أليس كذلك؟ هه؟“
‘ما باله يتحمّس بهذا الشكل؟ هل نشأت بينه وبين الأخوات الثلاث علاقة وطيدة بهذا السرعة؟‘
رمقت هيلي موري الذي كان يُلحّ عليها بنظرة نافذة.
“لِم تنظر إليّ هكذا؟“
“لم أظنّ أنك تملك هذه الرغبة في شفاء الناس، يا موري.”
عندئذٍ، تمالك موري تعابير فمه المرتجفة وبدأ يشرح السبب.
“عندما التقينا لأول مرة، قلتِ لي إن السبب في أنني ما زلت أملك قوى مقدسة، رغم أنني نفيتُ إلى عالم البشر كعقوبة، ربما يعود إلى أن والدتي أرادتني أن أستخدمها لإنقاذ الناس.”
“نعم، قلتُ ذلك.”
“أنا سعيد فقط لأنني أظن أنني سأتمكن من تنفيذ تلك الإرادة اليوم.”
أبدى موري فرحًا غامرًا وكأن بابًا قد فُتح له للتكفير عن ذنبه.
“ثم إن تيتيس شخص طيب. أتمنى ألا يلحق ضرر كبير بالقرية. لهذا، علينا أن نعود بسرعة إلى هناك.”
هيلي بدورها وافقته الرأي. طالما أنها تملك قوى مقدسة، فقد رغبت في تسخيرها لمساعدة الصالحين. هزّت رأسها موافقة ثم خاطبت ديلان فورًا.
“أنا وموري سنعود إلى السيدة تيتيس.”
كان لا بأس أن يعود ديلان وروز، اللذان انتهيا من أعمال الشفاء، إلى العاصمة مع الفرسان. بل ربما كان من الأفضل لهم العودة. إذ أن وجود عربتين فقط كان يعني أن بإمكان هيلي وموري أن يركبا معًا ويعودا إلى قصر تيتيس.
تغيّرت ملامح ديلان الذي غاص في أفكاره.
‘هل كان اسم الكاهن في مقاطعة ماركونتي هو كاستين؟‘
كان كاهن ماركونتي يتصرّف بعدم تعاون مع تيتيس، لذا بدا من الأفضل أن يبقى أحدهم لمتابعة الوضع معها. أضف إلى ذلك أنه كان من المقرّبين للبابا الراحل، ولن ينظر بعين الرضا إلى هيلي التي حُكم عليها بالحرمان من الكنيسة.
‘كنتُ أود البقاء أيضًا……’
لكنه كان عليه العودة إلى العاصمة ليقوم بواجبه هناك.
“أنتم الأربعة تعودون معي ومع روز إلى العاصمة، والبقية يرافقون سموّ الارشيدوقة إلى المقاطعة.”
هزّت هيلي رأسها موافقة. تنفّس ديلان الصعداء بعمق ثم التفت إلى روز.
كان وجهها يوحي وكأنها تسأله: “ألا يمكنني الذهاب مع تيتيس أيضًا؟” لكنها لم تنطق بذلك، واكتفت بقبول قراره. وفي الأثناء، سألت هيلي ديلان، بينما كانت تراجع رسالة بين يديها.
“ما معنى أن الكاهن في ماركونتي غير متعاون؟“
“الكاهن كاستين……”
لكن تعابير وجه هيلي بدت متجهمة أثناء الاستماع إلى الشرح. كل ما خطر في بالها هو: “يجب أن نصل إلى مكان الأخوات الثلاث في أسرع وقت ممكن.”
***
شعر الكاهن المستجد في ماركونتي، رُون، وكأنه أُلقي به في قلب ساحة معركة.
‘وبعد شهرين فقط من قدومي، تظهر جائحة؟ ……كان يجب أن أطلب نقلي إلى مكان آخر.’
رغم توتره الشديد وخوفه، إلا أن كونه كاهنًا يعني أن بإمكانه شفاء نفسه.
‘لن أموت بسبب المرض على الأقل.’
لذا وجب عليه أن يسارع إلى شفاء الناس.
كان في طريقه إلى أحد المرضى الذي ناداه، إلا أن يدًا أوقفته. الكاهن كاستين هو من أمسك بالكاهن الجديد الطيّب القلب.
“السيد كاستين……؟“
“ما الذي تفعله؟“
“نعم؟“
“انظر إلى السوار الذي تلبسه. إنه دليل على أنك تعبد جيسين، لا حاكم الأرض. وجيسين هذا لا يختلف عن الشياطين. لا يستحق أن يُمنح نعم الحاكم، ولا يحق له أن ينال رحمته.”
وفعلاً، ورد في الآية الثامنة من سفر لونا ما يلي.
“جيسين كائن يزرع الشك بين البشر، لا يموت حتى لو أُسقط من الأعالي، أو أُلقي في أتونٍ مشتعل، أو غُمر في أعماق البحار. وفي النهاية، دفنه حاكم الأرض في باطنها.”
‘……لقد نسيت هذا النص.’
أطرق رون رأسه خجلًا.
“أعتذر. لم أنتبه، إذ بدا المريض أمامي، فتحركت بلا وعي.”
بالطبع، من يتبعون ديانة جيسين لم يعرفوا هذه النصوص. دينهم لا يذكر حاكم الأرض إطلاقًا، ولذلك فعند سماعهم بمثل هذه النصوص، قد يفكرون ببساطة، “حاكمنا يُعد شيطانًا في ديانات أخرى؟“
عندئذ، صاحت إيريس، إحدى الأخوات الثلاث، وقد كانت قد وصلت لتوها إلى المكان وامتطت صهوة حصان فارتفعت رؤيتها للمشهد.
“إذًا، فلتدفعوا ضرائبكم. أحد أسباب إعفاء المعبد من الضرائب الملكية كان بسبب مشاركته في أعمال الإغاثة.”
بما أنكم أعلنتم عدم أداء واجبكم، فلا حق لكم بالمطالبة بالإعفاء.
أما إيريس، الأخت الوسطى، فقد تحدثت عن الضرائب، بينما استندت الأخت الكبرى، ميتيس، إلى النصوص المقدسة.
“صحيح أن الحاكم دفن الشيطان جيسين، لكن ألا يمكننا تفسير ذلك على أنه احتواء له؟“
دفن حاكم الأرض لجيسين يمكن تأويله على أنه فعل احتواء واحتضان.
وفي نهاية المطاف، لا يُنظر إلى الشك كأمر سلبي.
إذ إن وجود ‘الشك‘ بين الناس يفترض وجود ‘الثقة‘ كأرضية أولى، والاعتراف ببداية الشك هو اعترافٌ ضمنيٌ بوجود الثقة قبلها.
“هذا يخالف التيار السائد.”
“لكن في سفر ليفيس ورد: ‘من الأرض التي دُفن فيها جيسين، نبت القطن.’ ثم لاحقًا، في الآية الثانية من سفر فاكلان، ورد أن ‘القطن زيّن رأس الحاكم ‘. فكيف تتغاضى عن هذه النصوص وتختار منها ما يناسبك فقط؟“
سخرت ميتيس من كاستين، وقالت إن معرفته بالعقيدة أقل من معرفتها رغم كونها لاجئة.
ثم، تقدّمت الأخت الصغرى الضخمة، تيتيس، ووقفت أمام كاستين بشكل مهين ومُرعب في آن واحد.
من خلفها، لم يكن يمكن رؤية كاستين، فقد كانت تيتيس تحجبه بجسدها تمامًا، وألقى ظلها البارد على وجهه.
بدأت أسنانه تصطكّ، لا من البرد، بل من الغضب والخوف والمهانة. لم يشأ أن يظهر ضعفه أمام كاهن مبتدئ، فحدّق في تيتيس بعينين متوقدتين.
“قتل أو إيذاء الكهنة يوجب النفي…….ألستِ من القراصنة؟ يبدو أنكِ لم تعتادي بعد على قوانين تيلون.”
“لم أكن أفكر بالقتل، شكرًا على التذكير.”
“بل يبدو أن من لا يعرف قانون تيلون هو أنت. في مثل هذه الظروف الطارئة، تكون صلاحيات الحاكم أعلى من صلاحيات الكاهن. نحن لا نجهل القانون، بل أنت من يفعل.”
قالت ميتيس وهي تميل برأسها. ولعلّ لفظ ‘أنت‘ أزعج كاستين، إذ ارتجف جسده.
‘هؤلاء القراصنة السوقيون يتجرأون عليّ……’
قيل إن الأخوات الثلاث جئن من جورام، وظللن لفترة يتنقّلن فوق البحار. بعد الحرب، لجأن إلى تيلون وتحولن دينيًا للحصول على الألقاب، إلا أن ذلك لم يكن سوى إجراء شكلي.
بالنسبة لكاستين، الذي وُلد من سلالة نالت القوى المقدسة منذ سبعة أجيال، لم يكن ممكنًا أن ينظر إليهن برضًا.
“سيدة إيريس! الاتحاد رفع سعر النبتة عشرين ضعفًا!”
“ماذا؟ عشرين ضعفًا؟ هل جنّوا؟!”
قفزت إيريس من مكانها وركضت إلى مساعدها الذي ناداها، وبدأت تناقش الأمر معه. كانت تضع يدها على عنقها بين الحين والآخر في نوبات غضبٍ متقطعة.
‘……فوضى عارمة.’
كان المكان يعج بالفوضى. وبينما كانت ميتيس تمسح جبينها أمام المعبد الغارق في الهيجان، جاء النداء.
“السيدة ميتيس، وصلت سموّ الارشيدوقة الآن!”
نزلت هيلي وموري من العربة في تلك اللحظة. تنفست ميتيس الصعداء حين رأتهما. فقد كانت قد طلبت دعمًا من العاصمة، لكن لم تكن تعرف متى سيأتي الرد، كما أن شفاء المرضى جميعًا باستخدام القوى المقدسة للكهنة المحليين كان أمرًا مستحيلًا.
“شكرًا لحضوركم.”
“لا شكر على واجب.”
اكتفت هيلي بتحية مقتضبة. لكن عيني كاستين سرعان ما تلونتا بالعداء عند رؤيتها. وكان الوصف الأدق لتلك المشاعر هو ‘الحسد‘ و‘الغيرة‘.
‘لماذا حصلت هذه الغرّة على قوى مقدسة بهذه القوة؟!’
إنه كمن أجاب كل أسئلة الامتحان برقم واحد بدافع التمرد، ثم خرج بالمركز الأول على مستوى الدولة.
‘لو كانت لي، لاستخدمتها لخدمة المعبد على نحو أفضل……’
تذكّر كاستين هيلي عندما التقاها في قاعة اجتماعات معبد العاصمة. تلك المجنونة التي أغضبت البابا وسائر الكهنة، ووصفتهم بالقمامة. بل حتى أنها أدخلت الأمير إلى المذبح المقدس، مما عُدّ تدنيسًا عظيمًا.
ومع ذلك، ها هي تنال أعظم قوى مقدسة؟ قبض كاستين قبضته وامتلأ قلبه بالغضب على إلهه.
“سموّ الارشيدوقة.”
استدارت هيلي إلى صاحب الصوت. كان كاستين، الذي حاول بكل ما فيه من غضب أن يتحكّم في نبرة صوته.
“بما أن سموّكِ قد نُفيتِ من الكنيسة، فنرجو منكِ عدم دخول المعبد.”
تذكّرت هيلي أوامر البابا وقت أن حُرمت من الكنيسة، والتي تضمّنت فعلاً أمرًا بعدم دخول المعبد. ومع أنها كانت تقيّم قوة كاستين المقدسة، إلا أن ابتسامة ازدراء علت شفتيها.
“حتى لو أمسكتَ بطرف ثوبي تتوسّلني أن آتي، فلن أفعل. لكن لا أدري كم يمكنك شفاء الناس بقوتك التافهة، أيها البقايا.”
……فكّر كاستين حينها في تمزيق فمها.
لكنه، سواء فكّر أم لم يفعل، أدارت هيلي له ظهرها وبدأت تتحدث مع ميتيس.
أُرجع المرض إلى بكتيريا في لحم غزال يُدعى لوفين، جلبه سرًا بحارة الميناء من دولة أجنبية وتناولوه. أما المعنيون بتطوير العلاج، فكانوا يعملون بجدٍّ دون توقف.
‘أنا أيضًا شعرت بأعراض شبيهة.’
قبل مغادرتهم للميناء بخمسة أيام، شعرت هيلي بالقشعريرة والسعال. وفي الليلة التي سبقت مغادرتهم، أمسكت بيد ميتيس في العلية ومرّرت إليها قواها الروحية.
“ذلك اليوم، حين كنت في العلية، منحتِني بركتكِ. أشكركِ من أعماق قلبي.”
انحنت ميتيس وهي تتذكّر ذلك النور المقدس الذي غمرها آنذاك.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 75"