استمتعوا
“منذ وقتٍ طويلٍ لم أسمع شيئًا عن ابنتي، فأصابتني مشاعر غريبة لا أستطيع وصفها.”
“هل تزوّجتِ؟“
اتسعت عينا هيلي دهشة، إذ لم تسمع بذلك من قبل. ويبدو أن ديلان وديانا تجنّبا ذكر هذا الأمر عن قصد، مما يدل على أنه موضوع لا يرغبان في الحديث عنه.
حاولت هيلي أن تُخفي دهشتها قدر المستطاع، ولما أدركت ميتيس ذلك، تابعت حديثها بشيء من الهدوء.
“نعم، كنتُ متزوجة. قبل أن آتي إلى تيلون، أي قبل أن أبدأ الإبحار مع شقيقتايّ، كنت قد انفصلت عن زوجي.”
ولأجل توضيح الأمر لهيلي، لخّصت ميتيس سبب طلاقها باقتضاب.
لقد كرّست حياتها لزوجها ولعائلته، غير أن ما جَنَتْه كان مجرد مديح لشخص لزوجها لا أكثر. لم يُعطَ لها شيء، بل محيت حتى من السجلات، ولم تعد تُذكَر باسمها. وحين لم يُرضِها ذلك، اختارت الطلاق.
لم تستطع أن تأخذ معها ابنتها الصغيرة حديثة الولادة. فرغم حكمتها، وقف الناس إلى جانب زوجها، لا إلى جانبها.
“هل سمعتِ خبرًا سيئًا بشأن ابنتكِ؟“
“لا، بل العكس تمامًا. لقد كانت أنباءً طيبة. قيل لي إنها نشأت بصحة جيدة، وإنها فتاة شجاعة، عادلة، حكيمة. والكل يمدحها.”
قالت ذلك ميتيس مبتسمة وهي تهزّ رأسها.
“لكن ثمّة مشكلة واحدة، وهي أن ابنتي لا تذكرني على الإطلاق.”
لم تحاول أن تُخفي حزنها، بل اختارت أن تبوح به بكل صدق.
“لقد نسيتني ابنتي، وأصبحت تابعة مطيعة لأبيها. حتى إنها قالت إن الذي أنجبها هو والدها، لا أمها.”
ابنة نسيت أمها، وجعلت من أبيها مصدر الحق والعدل الذي لا يُناقَش.
دخلت في منظومة تدور حول الأب، وأخلصت في خدمتها.
وحين عُرضت قضية ابنٍ قتل أمه انتقامًا منها لقتلها والده، وانقسم مجلس القضاة إلى اثني عشر قاضيًا بالتساوي—كانت هي ضمن أولئك الذين حسموا الحكم.
‘الولد لا يُولد إلا ببذرة الرجل. وذلك دليل على أن الأب أعظم من الأم. وإنّ جريمة المرأة التي تقتل رجلًا أعظم من جريمة رجلٍ يقتل امرأة. لذا ينبغي الحكم ببراءة الابن.’
ابنتها، وهي قاضية في أراضيها، حكمت لصالح الرجال. ومملكة جوريم هلّلت لحكمتها.
أومأت هيلي برأسها بينما كانت تستمع، وخيِّل إليها مشهد ديانا وهي تسخر من الإمبراطور الذي اقترح أن تتزوج ولي عهد جوريم.
“هل يمكنني معرفة اسم ابنتكِ؟“
سألتها هيلي، لعلها تستطيع البحث في تفاصيل الحكم إن سمح لها الوقت.
“أثينا. هذا هو اسم ابنتي.”
ضحكت ميثتس قائلة إن تيلون وإن كانت تعاني من بعض الشقاء، فهي أفضل من المكان الذي كانت تعيش فيه سابقًا.
تمنت لو أنها اختطفت ابنتها في ذلك الحين وجلبتها معها. أما الآن، فقد فات الأوان. فحين تُشكِّل القيم نظرتك للعالم، يصعب تحطيمها. وربما كانت ابنتها تُعزّز هذه القيم أكثر، فقط لأنها لا تريد أن تُنكر حياتها السابقة.
لكن، إن حصل—ولو كان احتمالًا بعيدًا—أن تلتقي بابنتها ذات يوم، كيف يجب أن تتصرّف؟
‘إن استطعت أن أضبط تعابير وجهي حين أراها، فربما من الأفضل أن أتصرف وكأنني لا أعرفها.’
بينما كانت ميتيس جالسةً تغوص في أفكارها، أخذت تسعل فجأة. فهرعت هيلي إلى تسخير قوّتها المقدّسة، لكن ميتيس أشارت بيدها وسط وهج الضوء المتدفق.
“لا، لا بأس، كح كح…”
“على الأقل، بهذا الشكل، لن تعاني من صداع الخمر غدًا.”
“……شكرًا لكِ.”
هل كان السبب بقاؤها طويلًا في البرد؟ جسدها بدأ يرتجف.
‘لا، أظن أنني شعرت ببداية الزكام منذ الصباح…’
قطّبت ميتيس حاجبيها ووضعت يدها على جبينها.
أحضرت هيلي غطاءً ولفّته حولها، ثم أوصتها ألا تُفرط في الشرب. وبما أنها شربت كأسًا بدورها، فقد استخدمت قوتها المقدسة لشفاء نفسها مسبقًا.
***
حين عادت هيلي إلى الغرفة، شعر ديلان بوجودها وفتح عينيه. رمش ببطء وقال.
“أين كنتِ؟“
“لم أستطع النوم، فصعدت إلى العلية. وجدت ميتيس هناك.”
جلست هيلي على الأريكة بدل السرير، فنهض ديلان واقفًا، وسار نحوها بدافع غريزي.
في ضوء القمر، بدا وجهه وهو ينظر إليها كما كان في الليلة التي سبقت الهجوم.
وعند تلك اللحظة، ترددت في أذن هيلي كلماته التي لم يُكملها آنذاك.
“تعلمين، بعد أن تنتهي الحملة، نحن…”
كانت تلك الكلمات التي قطعتها هيلي حين شعرت بشيء غامض ومخيف.
لكن الأمور انتهت بسلام مع الوحوش، ولم يمت ديلان كما توقعت. لذا، أليس من حقها الآن أن تعرف نهاية تلك الجملة؟ فتحت شفتيها مترددة وقالت.
“أريد أن أسألك شيئًا.”
“تفضلي.”
“في الليلة التي سبقت الهجوم… ما الذي كنتَ تريد قوله لي؟ بدا وكأنك تقترح أمرًا بعد انتهاء الحملة، لكنني قطعت عليك الحديث.”
تفاجأ ديلان قليلًا، وكأن التوقيت لم يكن متوقعًا. لكنه سرعان ما جمع أفكاره، ثم قال.
“كنتُ أريد أن أطلب منكِ الزواج مجددًا. لم أحب فكرة زواجنا الذي بدا وكأنه هروب. هذه المرة أردتُ حفلًا حقيقيًّا. أردت أن أقول ذلك… إن كنتِ ما زلتِ تقبلين.”
“……ولكن، أظن أن الوضع الآن مختلف قليلًا عن وقت زواجنا، وأشعر بشيء من الحرج.”
كان في عينيه حبٌّ عميق. ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة حزينة وهو يتذكّر كلمات أخيه.
“أنا متأكد. حتى لو لم تكن هناك اوراكل خاطئة، ولا الأمير الثاني، كنت سأقع في حبكِ على أي حال، وسأدور حول المعبد فقط لأقترب منكِ. ربما كنت سأختلق مرضًا سخيفًا لأطلب منكِ استخدام قوتكِ المقدسة علي.”
“وكانت ديانا ستنهرُك وتقول إنك فقدت عقلك بعد بقائك في الشمال طويلًا.”
“بالضبط.”
ضحك الاثنان وهما يتخيلان تعابير وجه ديانا. ثم عاد ديلان ليُفصح عن مشاعره.
“أتمنى أن تتزوجيني من جديد. لا من أجل السيطرة على الأمير الثاني، ولا بسبب اوراكل، بل لأننا نريد ذلك حقًّا.”
“أوافق. زواجنا الآن ليس واجبًا فُرِضَ علينا من اوراكل.”
كانت أيديهما متشابكة، ونظراتهما لا تفترق، بينما الوقت يمضي دون أن يشعر به أحد.
***
في صباح اليوم الذي غادروا فيه ماركونتي متجهين إلى العاصمة، كانت القافلة تتهيأ للمغادرة، فتقدمت هيلي بسرعة وأمسكت بمعصم تيتيس.
رغم تعزيز الحراسة، لم يُقبض بعد على إيدن، وهذا ما أقلقها.
“سمعتُ أنكم لم تُمسكوا بإيدن بعد… هل الأمر تحت السيطرة؟“
أجالت تيتيس النظر حولها ثم قالت بصوت خافت.
“كما تعلمين، إينو تطوعت لتكون الطُعم.”
كانت واثقة بأن إيدن سيحاول قتلها عاجلًا أم آجلًا، لأنها الخائنة.
لذا إن ظهرت له فرصة، سيأتي إليها بنفسه مهما كلفه ذلك.
“مكان إقامة إينو سرّي، لكنه فعلاً في أراضي ماركونتي. أختي إيريس تعمدت تسريب بعض المعلومات لتجذبه. وإذا تجاوز إيدن الحدود، فسنتمكن من القبض عليه.”
“أتمنى حقًّا أن تنجحوا في ذلك.”
شدّت هيلي على يد تيتيس، فأجابت الأخيرة بابتسامة حازمة.
“لا تقلقي. في المرة القادمة، سأستقبلكِ في ظروف أفضل. ستعودين لزيارتنا، أليس كذلك؟“
“بالتأكيد.”
وبعد وداعٍ طويل، صعد الجميع إلى العربة. ولوّحت تيتيس بيدها حتى اختفى الموكب، بينما أخرجت روز رأسها من النافذة تودّعها حتى أصبحت مجرد نقطة صغيرة.
شقت العربة طريقها وسط الرياح الباردة. لم يغادروا الأراضي فورًا، بل توقفوا في المكان نفسه الذي أقاموا فيه أثناء القدوم.
انطلقت العربة مجددًا. وقبيل مغادرتهم الأراضي، أوقفهم صوت أحد الفرسان المرافقين.
دوووم، دوووم، دوووم—
“صاحب السمو! تلقينا برقية من الأدميرال ماركونتي!”
فتح ديلان النافذة وأخذ البرقية المختومة بختم العائلة. رغم أنها باسم الأدميرال، فإن الخط كان خط ميتيس، وقد كُتبت قبل يومين. وسرعان ما تغيّرت ملامح ديلان، وأصبح وجهه قاتمًا كليلٍ بلا قمر.
「1. في صباح يوم التاسع عشر، تأكدنا
من ظهور وباء داخل الأراضي.
العدوى تنتقل عبر اللعاب.
الأعراض تشمل السعال، الحمى، بلغم دموي، آلامًا في البطن، وإسهالًا.
عند وضع ورقة شيراتوس تحت اللسان لمدة 30 ثانية،
يتحول لونها إلى الأحمر إن كان الشخص مصابًا.
ظهرت حالة إصابة بين خدم القصر.
يُحتمل أن يكون كل أفراد الموكب قد أصيبوا. يرجى الشفاء الفوري باستخدام القوة المقدسة.
2. نظرًا لعدم تعاون كاهن الأراضي، نرجو من هيلي تقديم العون العاجل.」
أخذت هيلي الورقة من يد ديلان وقرأت ما كُتب، ثم التفتت إلى روز. وضعت يدها على جبينها، فلم تجد حرارة. لم تكن تسعل أو تشكو من ألم في بطنها.
ومع ذلك، خشية الاحتمالات، وضعت هيلي يدها على كتف روز وسكبت في جسدها قوةً المقدسة. ثم أقبل موري بهدوء ليفعل الشيء ذاته مع ديلان.
تبادلت هيلي وموري النظرات، ثم سكبتا القوة على جسديهما.
ونادتا على الفرسان.
“قفوا جميعًا في صفٍّ أمامي أنا وموري.”
تردد الفرسان في البداية، ثم اصطفوا. لكن المشكلة أن أحدًا لم يتقدم ليقف أمام موري، بل ازدحموا كلهم أمام هيلي.
فصرخ موري غاضب.
“لماذا لا أحد يقف أمامي؟! هل جُننتم؟!”
“……لأن ستعالِجهم بعشوائية.”
“سأكون دقيق هذه المرة! سأقوم بالشفاء بشكل جيد!”
“……”
ومع ذلك، لم يتحرك أحد. فتغيّر نهج موري وقال.
“إن تركتم هيلي وحدها، فستُنهك وتسقط. هل هذا ما تريدونه؟“
“هذا لا يجوز! نصفكم تحرّكوا نحو موري!”
“أجل! لا يمكن أن نُرهق سموها!”
عندها فقط اقتنع الفرسان، وانقسموا إلى صفّين.
أما موري، فتنهد ثم تمتم بشتائمه وهو يقف أمامهم،
رغم أنه—مهما بدا حاله الآن—كانت لا تزال حاكم.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 74"