استمتعوا
“اليوم… هو كذلك.”
رغم أن ديانا دُهشت للحظة من قدرتها على فهم حديث التنين، إلا أنها لم تُظهر أية علامة على وجهها تدل على ذلك. تابعت حديثها بهدوء واتزان.
“لقد جئتُ اليوم لعقد ميثاق. بعد أن نُعيد الصوف، نحتاج إلى وعدٍ منك بألا تنتقم من تيلون.”
وإلا فإن نبوءة اتحاد المُبارَك من الحاكم مع العائلة الإمبراطورية لتيلون، تلك التي قيل إنها ستجلب السلام، لن تكون إلا نبوءة ناقصة لا تكتمل.
إن لم يُعاد الصوف، فإن التنين ووحوشه سيداهمون العاصمة ناشرين الذعر والدمار. لكن، حتى إن أُعيد الصوف عن طيب خاطر، هل سيترك التنين بلاد إياسون وشأنها؟
لا يمكن للسلام أن يتحقق ما دام الخوف من انتقام التنين يسكن القلوب. لذلك لم تُحضر ديانا الصوف معها. لا يجوز تسليمه إلا بعد عقد ميثاق سلامٍ مع التنين.
حينها أطلق التنين ضحكة ساخرة، ورغم أنها بدت كأنها ستخرج لهباً من أنفه، إلا أن ضعفه لم يسمح إلا برائحة احتراق.
“ربما أُمزقكِ إرباً الآن، وأنتِ تأتين لتحددي موعداً آخر للقائنا؟“
“إن مزقتني، فشقيقي الذي تركته في القصر سيُحرق الصوف. ما لم تصله رسالة معينة بطريقة محددة في وقتٍ متفق عليه، فلن يتردد في إضرام النار فيه.”
حينها سيفنى التنين وتفنى الوحوش. فهم لا يرغبون في الموت. لما أنهت ديانا كلامها وابتسمت، التفت التنين إلى وحوشه يئن قائلاً.
“انظروا إلى تعابير هذه البشرية… تثير الغيظ حتى الموت.”
“… ميثاق، ميثاقٌ تقول. هذه أول مرة يُبادر فيها بشرٌ بعرض ميثاق. أن نشرب من دماء بعضنا؟ طريقة قديمة بالية، أليست كذلك؟“
“وهل هناك وسيلة أخرى؟“
“لا.”
“كاليسـتو، الكأسين.”
حين مدّت ديانا يدها، أخرجت كاليسـتو كأسين ذهبيين من الصندوق، وقد بدت على وجهها الكراهية.
أخذت ديانا خنجراً وجرحت كفّها، فسقط الدم القاني في الكأس. ولكي تملأه، كانت تعصر يدها مرة تلو أخرى لتستنزف ما في عروقها.
“أنا، وريثة عرش تيلون، أعتذر عن حماقات وغرور إياسون، وأتعهد بإعادة الصوف. وأتمنى أن يُخمد غضبك تجاه تيلون، وأن يتحول لهبك الحارق إلى مشعلٍ ينير الدرب في الظلام، لا نذيرَ خراب.”
أخذت ميتيس كأس الدم من يد ديانا، وناولت كاليسـتو الكأس الأخرى إلى ديانا.
حين قدّمت ديانا الكأس الفارغ إلى التنين، جرح الأخير نفسه بمخلبه وملأه بدوره بالدم. ولما امتلأ، نطق العهد.
“بما أن امبراطورية تيلون تعهدت بإعادة الصوف وعرضت ميثاق سلام، فأنا أقبل به عن طيب خاطر.”
تبادلا الكأسين. شرب التنين من دم ديانا، وشربت هي من دمه.
“حين يعود إليّ الصوف، ستعود الوحوش إلى التراب.
إلى شكلها الأول، إلى حضن الأم.”
وهكذا عُقد الميثاق: لن يهاجم التنين تيلون، ولن تُلحق تيلون الأذى به.
تكفّلت هيلي بعلاج يد ديانا النازفة. وحين رأى التنين ذلك، سأل هيلي.
“ألن تعالجيني أنا؟“
“آه…”
كان بطؤ شفائه نتيجة لعدم استعادة الصوف بعد. حين اقتربت هيلي لعلاجه، فاجأها التنين فجأة بأن اقترب بفمه فجأة وصاح.
“أووووه!”
“آه!! أي جنون هذا؟!”
“تباً! لقد أرعبني! متى كان التنين يصيح ‘أوووه‘؟!”
فزعت هيلي وابتعدت، وانفجرت كاليسـتو بالشتائم بدورها.
وما إن سمعه التنين حتى صاح غاضباً.
“تباً؟ هل قلتَ تباً لتنين؟!”
“أفعالك تشبه السحالي! فلتكن بحجمك إذن، أيها التنين!”
ضحك التنين بصوت عالٍ وكأن ما جرى أضحكه حتى الجنون. وبينما عمت الفوضى، تبادلت ديانا وميتيس النظرات.
‘أترغبين في التراجع عن الميثاق؟‘
‘…’
في تلك الأثناء، كانت هيلي تتأمل كلمات التنين.
‘الوحوش كانت مخلوقة من التراب إذن.’
لطالما تساءلت من أين خرج ذلك العدد الهائل، والآن فقط فهمت. لقد صنعهم من التراب.
لكن ثمة سؤال آخر لا يزال يُؤرقها. فنظرت إلى أحد الوحوش وسألته.
“سؤال يحيرني… لماذا لم تنجح الهجمات بالحجارة ضدكم؟“
تردد الوحش قليلاً، ثم أجاب.
[لأن الحجارة عظام أمّنا.]
“… هذا هو السبب إذن.”
لقد خُلقوا عاجزين عن إيذاء أمهم.
وفي الرواية، لم تدم هجمات الوحوش طويلاً، لأن قوة التنين قد نضبت بعد الحملة الثانية التي قُتل فيها ديلان. ولعل التنين والوحوش قد اختفوا حينها.
وبينما يسترجع ذكرياته، سأل التنين ديانا.
“ما الذي جرى للساحرة التي أرقدتني، والرجل المُسمى إياسون؟“
“إياسون أصبح ملكاً، لكنه توفي باكراً. وأما عن الساحرة التي ذكرتها… لم أسمع عنها قط. يبدو أن من أرقدك لم يكن إياسون بل ساحرة مجهولة الاسم.”
“نعم، هذا صحيح.”
لطالما ظن الجميع أن إياسون قتل التنين وأخذ الصوف منه، لكن حتى ذلك لم يكن فعلاً من أفعاله. حتى إخماد التنين لم يكن بيده.
ضحكت ديانا ساخرة حين علمت بالحقيقة.
“آه، الآن تذكرت. كانت هناك وثائق تشير إلى أن الملك إياسون اعتمد على منجم أو منجمة. ربما تكون الساحرة التي ذكرتها هي تلك المنجمة.”
“… وأنتِ تشبهينها كثيراً.”
حدق التنين في ديانا وكأنما يُعيد إحياء ذكرى قديمة. لو كانت تلك الساحرة قد أنجبت، لربما كانت تشبه ديانا هكذا.
“إياسون تزوج أميرة من مملكة كورنثوس. وأطفاله منها ماتوا جميعاً.”
أي إن إياسون لم ينجب من الساحرة، فلا سبيل لدمها أن يسري في عروق ديانا. هذا ما كانت تُصر عليه.
‘لكن إن كان دم ساحرةٍ أخرى… فربما.’
حين واجهت أسئلة التنين، لم تفكر إلا في اسمٍ واحد: ميديا.
رمقها التنين بعينٍ مرتابة، ثم لم يستطع كبح فضوله فالتصق جبينه بجبين ديانا.
لمدة ثلاث ثوانٍ فقط، لكنها كانت كافية. انهمرت ذكريات ديانا في عقل التنين. من أول ذكرى وحتى اللحظة الراهنة.
ولم يكتفِ بذلك، بل شاهد ذكريات ميديا وثيسيوس داخل عقل ديانا.
وحين أبعد جبينه عنها، كانت ديانا تنظر إليه بحدة.
“هل سرقتَ ذكرياتي للتو؟“
لو كانت إنسانة عادية، لما شعرت بذلك. لكن إدراكها لما فعله أكد له أنها ليست إنسانة عادية. فأجاب بوقاحة.
“نعم، وما فيها؟ ليس فيها شيء مميز. ربما لصغر سنك.”
“…”
في سرّها، فكرت. “أي وغدٍ هذا؟” لكن لم تُظهر شيئاً من ذلك على وجهها.
أما التنين، فقد اكتشف سراً عظيماً لكنه لم يُبدِ شيئاً.
‘إياسون قد عاد للحياة. لقد التقى بابنة تلك الساحرة في هذه الدنيا.’
ربما كان فضوله ثمناً باهظاً. فبينما يغوص في ذكرياتها، أدرك أن ثيسيوس هو تجسّد جديد لإياسون.
‘يالها من مفارقة غريبة.’
وتذكر التنين حينها، الاسم الحقيقي لثيسيوس، واليد التي سرقت منه صوفه.
لحسن الحظ، لم يكن التنين كائناً مُسجِّلاً، وإلا لربما سُربت هذه الحقيقة.
ولذا، اتخذ قراره: لن يُخبر أحداً، وسيحمل هذا السر حتى يزول مع ذاكرته ذات يوم.
وهكذا، تمكنت هيلي من تغيير مستقبل بلوتاروس المُدمر، والمصير المأساوي الذي كان ينتظر ديلان وهو يحاول إنقاذ روز من الوحوش.
ثم أعلن الإمبراطور تعيين ديانا وريثة للعرش بعد عودتها من بلوتاروس.
***
أما هيلي، فعادت إلى سريرٍ واسعٍ تقضي فيه وقتها مستلقية. وكان ديلان بجوارها، يتسكع وهو يُطلق أصواتاً بلا معنى.
وبينما تبادلا حديثاً عابثاً لفترة، تذكّرت هيلي حوارها مع ميتيس، فاستدارت. حينها التقت نظراتها بنظرات ديلان، الذي كان يتأمل وجهها الجانبي بصمت.
“ميتيس دعتني لزيارة إقطاعيتها. ما رأيك؟“
“هل ترغبين بالذهاب؟“
“نعم.”
“إذاً أرغب بالذهاب أيضاً. خذيني معك، أرجوك. سأُقلل من حجمي داخل العربة، ولن أنبس ببنت شفة. فقط اصطحبيني.”
لو قالت هيلي إنها لا ترغب، لقال ديلان المثل. رغم أن الدعوة وُجِّهت لهما معاً، إلا أن ديلان كان يطمح لاهتمام خاص، فألحّ على مرافقتها.
“هيلي، في المرة القادمة، لا حاجة لأن تسأليني رأيي. فقط قولي. ‘سنذهب هناك‘ وجرّيني معك! حتى لو أمسكتِ بياقتي وسحبتِني إلى وسط النيران، سأضحك فرحاً كمن يستمتع بمنظر النار.”
ضحكت هيلي بصوتٍ خافت، ثم قالت له.
“أقدر ثقتك بي، لكن في المرة القادمة، قاوم قليلاً على الأقل.”
“حسنًا.”
ربما علمت ميتيس أن ديلان استعاد ذاكرته. ولما دعت هيلي، أرادت أن تتفحّص مدى عمق العلاقة بينهما.
فترددها أمام عرضها جعله يُدرك: العلاقة بين ديلان وهيلي، أعمق مما تبدو عليه.
‘هل دعتني إلى اقطاعيتها لأتأمل المشاهد القديمة من منظورٍ جديد؟‘
مهما كانت نواياه، فإن ديلان أراد أن يعود إلى هناك مرة أخرى.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 72"