استمتعوا
مهما فكرت بالأمر، لم يكن هنالك ما يستوجب اعتذار ديلان منها.
‘لا شكّ أنه يعاني من أمر تافه، ويغرق نفسها فيه كعادتها.’
قالت ديانا بنبرة مازحة، كأنما تحاول تسهيل الكلام على ديلان.
“ما الأمر؟ طالما لم تتآمر مع ماركيز ترافيا لاغتيالي، فلا بأس.”
في الماضي، لربما كان سيقفز من مكانه نافيًا التهمة بصوت مرتفع وهو يصرخ: “كيف لي أن أفعل ذلك؟!”
لكن الآن، وقد نضج بما يكفي ليدرك نية ديانا في التخفيف عنه، أجاب ديلان بابتسامة هادئة.
“كنت سأشنق نفسي، أنا.”
قال ذلك بنبرة تشبه حديثه عن قراءة كتاب قبل النوم.
‘لا، لعل انطباعه عن الكتاب بعد قراءته كان أكثر صخبًا من هذا.’
لم تتغيّر ملامح ديانا، لكن بعد لحظات، حين ارتشفت قليلًا من الشراب وأعادت الكأس إلى مكانها، انكمش وجهها قليلًا.
لم يكن السبب قوّة الشراب، بل كان ذلك أثر اضطراب خافت تسلّل إلى ملامحها.
“آسف لأنكِ كنتِ وحدكِ من يحمل ذكرى ذلك الأمر.”
“لكنني أنا من قرر ألا أخبرك، فلمَ تعتذر أنت؟“
“لأنني كنت أول من حاول الفرار، رغم أنني وعدتك أن نواجه الصعاب سويًّا.”
تحمّلنا معًا، وتجاوزنا المحن معًا.
لم يكن هذا المبدأ راسخًا فيهما منذ البداية. لقد كان أثرًا لتعليم كيرون، معلّمهما.
وما رسّخ هذا التعليم في نفسيهما، درسٌ محدّد ترك أثرًا كبيرًا.
ذات يوم، جاء كيرون، الذي كان يعلّم التوأمين، ومعه عيدان خشبية، وطلب منهما أن يكسراها واحدة تلو الأخرى.
تحطّمت الأولى بسهولة، ثم طلب منهما أن يربطا عدّة عيدان ويحاولا كسرها معًا… وديانا حطّمتها بسهولة أيضًا.
كان هدف التعليم الأصلي هو إيصال فكرة ‘الاتحاد أقوى من الفرد‘، لكن كيرون، وقد أذهله ما فعلته ديانا، غيّر مقولته قائلًا.
“حتى لو كانت العيدان صلبة، فإن كسرها معًا اصعب بكثير من كسرها فردًا فردًا! لذلك اتحدا دومًا!”
وهكذا، نجح تعليم كيرون على طريقته، لأن الرسالة وصلت، وبقيت في ذهن التوأمين.
تذكّرت ديانا ذلك الدرس، وكذلك ما جرى في أراضي تيتيس، وابتسمت ساخرة.
“أنت لم تؤاخذني على إخفائي للحقيقة. مع أنك، في ذلك الوقت، كنت تصرخ: ‘لماذا أنقذتني!’ وتلومني.”
“ذلك كان…”
خفض ديلان رأسه ولم يُتمّ الجملة.
شعر بالخجل والأسف معًا، مما جعله يتردّد.
“وهل لديك شيء آخر لتقوله؟“
“هم؟“
“عبارتك تلك، ‘لماذا أنقذتني‘، كانت سيئة.
ووجهك الآن وأنت تعتذر أسوأ منها.
لا تُظهر هذا التعبير بوجه يشبه وجهي، من فضلك.”
كانت الإجابة قريبة، واضحة كخيط نور وسط الظلام.
“شكرًا لأنك أنقذتني. يبدو أن الحياة تناسبني أكثر من الموت.”
“سعيد أنك وجدت ما يناسبك.”
“لكن، الدين حين يتراكم، لا يزول بسهولة.”
“؟“
نظرت ديانا إليه بوجه متحيّر، فتابع ديلان موضحًا.
“ألقيتُ عليك الكثير من الأعباء. كلما فكّرت في الأمر، أشعر أنني تركتُ كل الصعاب لك، بينما عشتُ أنا حياة سهلة.”
“غريب أنك ترى الأمر بهذه الطريقة. أنت فعلتَ الكثير.”
“…أنا؟“
تساءل ديلان بدهشة، وعيناه تومضان بتردّد.
ابتسمت ديانا ابتسامة مريرة وهي تنظر إليه.
“لو كان كل شيء سار كما ينبغي، لكنت أنا من أُرسل إلى بلوتاروس.”
ضحكت وهي تستعيد تلك الأيام، لكن لا دفء فيها.
وكأنّ ريح الشتاء الباردة مرّت عبر النافذة لتلسع خدّها.
‘اللعنة… بسبب ذلك الكلام.’
***
كان هناك حصان يعشقه الإمبراطور.
حصان جامح بطبعه، لا يطيع أحدًا.
فأمر الإمبراطور بإحضار الأميرة الأولى، عازمًا على إذلالها أمام الجميع حتى يُخضع الفرس بكسر نفس الطفل.
لكن على غير المتوقع، حين ظهرت ديانا، اقترب منها الحصان متودّدًا، يفرك رأسه بها.
وقد نجحت في ترويضه.
ربما كان ذلك مصادفة، أو مزاجًا متقلّبًا للحصان،
ففي اليوم التالي، فعل الشيء ذاته مع ديلان.
بدا أن للحصان ذوقًا في الوجوه أو الأرواح.
لكن ذلك الموقف، حين ركع الحصان المغرور أمام فتاة، أفسد على الإمبراطور مزاجه.
ولأن الناس كانوا يشاهدون، فقد تظاهر بمنحها الحصان كهدية،
لكنه لم يتصرّف بلطف خلف الستار.
ولم يكن يدري أن ترويض الحصان سيتسبّب بكل هذا.
استغلّ الإمبراطور ذلك كذريعة لإرسال ديانا إلى مملكة تالوف، بحجّة تقوية العلاقات.
وقد تبقى هناك لأشهر، وربما لسنوات.
في خضمّ هذا الظرف القاتم، نقل لها خالها خبرًا.
“حين يبلغ صاحبَا السمو سنّ الرشد، ينوي جلالته إرسال أحدكما إلى بلوتاروس.”
“لكن إرسال طفل ينهار من زكام صيفي إلى هناك لن يبدو جيدًا.”
“نعم، المقصود واضح. المستهدف هو أنتِ، سموّ الأميرة.”
كانت محاولة لدفع ديانا إلى الهاوية.
حين علم ديلان بالحقيقة، بعد فوات الأوان، عزم على أن يفعل شيئًا.
لم يكن ليسمح بأن تُترك ديانا وحدها لتعاني.
على الأقل، كان عليه أن يوزّع كراهية والده عليهما معًا.
وفي اليوم الذي غادرت فيه ديانا إلى مملكة تالوف، قال لها ديلان.
“أنا من سيذهب إلى بلوتاروس، وليس ديانا.”
“هل تدري كم هو مكان بارد؟ حتى زهور الهيالوس التي تحبها لن تنبت هناك.”
“لا بأس، فأنا الزهرة.”
“…ماذا تقول؟ هل ترغب بالموت تجمّدًا؟“
ومنذ ذلك اليوم، قلّل ديلان من وقت صلاته، وراح يركض في ساحة التدريب.
كان يدعو وهو يركض.
“أرجوك، ايها الحاكم، لا تجعلني عبئًا عليها.”
بينما يتمنّى الآخرون أن يصبحوا شيئًا حين يكبرون،
كان هو يرجو فقط ألا يكون عبئًا.
لا أحد يعلم إن كانت دعواته قد وصلت إلى الحاكم،
أو أن وقت نضوجه قد حان،
لكن جسد ديلان الضعيف بدأ يتغيّر بلا شك.
اختفت رقة ملامحه، وغدى وجهه الذي لطالما وُصف بالوسامة يحمل هيبة تجعل الاقتراب منه صعبًا.
حتى أن البعض ظنّ أن ضغط الأميرة الأولى هو ما كبته كل ذلك الوقت.
وبعدما عادت ديانا من تالوف، وجدت الأمر قد تغيّر كثيرًا، لكن لم يكن مظهر ديلان ما صدمها.
‘ما هذا؟‘
كان قرار إرسال ديلان إلى بلوتاروس قد كاد يُحسم.
‘ديلان سيذهب؟ بدلًا مني؟‘
سألت ما الذي حدث له ليتغيّر هكذا، فردّ قائلًا.
“أظهرت طموحي في أن أكون الإمبراطور بشكل واضح وجلي.”
بمعنى آخر، واجه والده مباشرة.
وبينما كانت ديانا في تالوف، لم يكفّ ديلان عن مضايقة الإمبراطور.
كان يراقب تصرّفات إيريس التي كانت تبذر بذور الفتنة بينه وبين أخته، ثم استخدم تلك الأساليب بإتقان.
حتى أن الإمبراطور شعر برغبة في التخلص من ديلان.
وبدا أن ديانا أكثر هدوءًا بالمقارنة.
وبسبب تمرّده، غيّر الإمبراطور خطته.
فبدلًا من إرسال ديانا، أرسل ديلان إلى بلوتاروس.
وكان لذلك أثر جانبي أيضًا.
إذ اعتقد معظم النبلاء، الذين لم يكونوا على دراية بما بين التوأمين،
أن صراعًا مريرًا على العرش سيشتعل بينهما في المستقبل.
تمرّد ديلان ترك انطباعًا قويًا.
***
مرّت ديانا بيدها على شعرها الذي طال قليلًا.
“لو ذهبت إلى بلوتاروس في تلك الحالة، لربما جننت.”
“مم، لكنك كنتِ ستتجاوزين الأمر. أنتِ شخص قوي.”
توقّفت عيناها الذهبيّتان المتلألئتان عن الحركة ونظرتا إليه.
قالت وهي تنظر إلى شقيقها.
“وأنتَ كذلك.”
“حقًّا…؟ كنتِ تقولين عني أنني ضعيف. آه، لكن، الآن بعد أن فكّرتُ في الأمر، يبدو أنك لم تقوليها بنبرة لوم.”
نعم، كانت تبتسم آنذاك.
ابتسامة خالصة، لا سخرية فيها، ولا خبث.
ابتسامة صافية لم تخفِ نواياها.
لكن لماذا؟
لماذا كنتِ تبتسمين لي هكذا، أنا الطفل الضعيف؟
لماذا لم تضيقي بي، ولم تغضبي؟
لماذا تلك الابتسامة، بدلًا من التأفّف؟
“حتى إن بدا السطح ليّنًا، فإن البذرة في الداخل صلبة.”
لأن تلك البذرة، يومًا ما، ستنمو وتزهر.
كأنها أدركت تساؤله دون أن ينطق، أجابت ديانا بهدوء.
ابتسم ديلان، ثم بعد قليل، شخر بخفّة، كأنه يبكي.
حاول أن يعزو الأمر إلى حساسيته، لكنه لم يكن مصابًا بها.
حين همّت ديانا أن تقول له.
“توقّف عن البكاء بوجه يشبه وجهي، واغرب عن وجهي“،
أسرع ديلان بالكلام.
“الاعتذار الثاني.”
“ما هو؟“
“كنتُ أقلّدك عندما كنت صغيرًا.”
حاول التظاهر بالتماسك، لكن صوته المرتجف فضحه.
وبذلك اعترف ديلان بكل شيء.
“كنتُ أقلّد تصرّفاتك. كنتُ أحسدك بشدّة.
وحين كشفتني هيلي، تمنّيت لو تنشقّ الأرض وتبتلعني.”
انتظر رد فعلها.
ظنّ أنها ستنفر منه، لكنها لم تتفاعل أبدًا.
رفع رأسه قليلًا، فرأى وجه ديانا متفاجئًا ببرود.
“أنا من طلب منك أن تقلّدني. تذكّرت أنك كنت ستشنق نفسك، لكنك لم تتذكّر هذا؟“
“ها…؟“
رفع ديلان رأسه فجأة.
وصوتها، الذي بدا مألوفًا، اخترق ذهنه كرمح حاد.
“في النهاية، أمي أنجبتني، وأنا وُلدت. وبما أنني جئت إلى هذا العالم، قررت أن أعيش بأفضل شكل ممكن. بكامل قوتي، دون ندم.
لذا، افعل الشيء ذاته. أنت دائمًا ما تتبعني عندما أطلب شيئًا.”
“لذلك، ستُجيد أيضًا عيش الحياة بجدّ.
وإن لم تفهم كيف، فقط… اتبعني.”
إن صحّ ذلك، فهذا يعني أن ديانا كانت تعرف سرّ ديلان… منذ زمن بعيد.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 70"