استمتعوا
فيما كان ديلان عائدًا إلى مكتبه بعد أن قضى بعض الوقت يتحدث مع هيلي في الغرفة، شعر بحركة شخص غريب. لقد كان هناك من ينبغي ألا يكون داخل المكتب.
‘من يكون؟‘
امرأة ترتدي عباءة سوداء، لم يكن يظهر منها سوى ظهرها، غير أن ديلان أدرك على الفور أنها ليست من سكّان هذا القصر.
وما إن التفتت المرأة التي كانت واقفة في الداخل ونظرت إليه، حتى أعاد ديلان سيفه الذي كان قد استله نصف استلال، دون أن يصدر صوتًا. عندها، تكلّمت كيركي التي رأت حفيد اخيها للمرة الأولى.
“لا بدّ أنها المرة الأولى التي نلتقي فيها، ومع ذلك، يبدو أنك تعرف من أكون.”
“لقد رأيتك أنا وديانا ذات مرة في القصر الإمبراطوري سيدة كيركي. من بعيد فقط، لكننا عرفناك.”
لم تزر كيركي القصر الإمبراطوري سوى مرة واحدة، وكان ذلك يوم لقائها بميديا. وبمجرد أن سمعت حديث ديلان، أيقنت كيركي أمرًا كان غامضًا لوقت طويل؛ لقد أدرك التوأمان سرّ ميديا في ذلك اليوم البعيد.
‘إذًا فقد كانا يعلمان منذ ولادتهما أن ميديا لم تعد قادرة على استخدام السحر.’
وما كانت ميديا تدري أن ولديها يعرفان الحقيقة. رفعت كيركي طرف شفتيها مبتسمة، ثم أسرعت بنقل الخبر دون مقدمات.
“ميديا رحلت. ذهبت إلى زمنٍ في عالمٍ آخر حيث يمكنها استخدام السحر.”
“ماذا؟“
ارتبك ديلان من هذا التفسير المختصر.
“أتعنين أن والدتي انتقلت إلى عالم آخر؟ متى حدث ذلك؟ هل غادرت للتو؟ بأي طريقة؟ كيف؟“
كيركي، وميديا، وديانا… كل من حوله لا يحبون الشرح كثيرًا،
مما جعل ديلان مجبرًا دائمًا على انتزاع التفاصيل بنفسه.
لكن كيركي، لحسن الحظ، أجابت عن كل أسئلته واحدًا تلو الآخر، وديلان رتّب ما سمعه في ذهنه بهدوء، ثم سأل.
“وهل هذا العالم آمن؟“
تذكّرت كيركي تجربتها عندما جُرّت ذات مرة إلى عالم غريب، فأجابت.
“ليس آمنًا. لكنها كانت تعلم ذلك، ومع ذلك، اختارت الذهاب.”
“وهل ديانا تعلم بهذا الأمر؟“
“لم أعد أملك القوة لأصل إلى القصر الإمبراطوري… أنا مرهقة للغاية.”
لقد استخدمت السحر أثناء بحثها عن الساحرات، واستخدمته مجددًا حين ذهبت لإحضار أوينوني، ومرة أخرى في طريقها إلى تيلون برفقتها. ثم، أخيرًا، ساعدت ميديا في تنفيذ سحرها.
بعد كل ذلك، أنهكها الإرهاق حتى أصبحت تلهث بأنفاس متقطعة. كانت تنوي إبلاغ الابنة أولًا، لكن لم تعد تملك طاقة لاستخدام السحر والوصول إلى القصر، فجاءت إلى أقرب مكان، قصر ديلان. كانت ترغب بالاستلقاء على الأرض من شدة التعب، لكنها تمسّكت بكبريائها أمام حفيد أخيها.
“فهمت. سأقوم أنا بإبلاغ ديانا إذًا.”
“حسنًا.”
“وهل… هل تركت والدتي لنا شيئًا؟ لي أو لديانا؟ كلمات، أو وصية؟“
هزّت كيركي رأسها نفيًا.
“لم تفعل. ربما كان عليّ أن أسألها إن كانت تودّ ترك شيء ما؟“
“…لا بأس. على الأرجح لم يكن لديها ما تقوله، لذا لم تقل شيئًا. شكرًا لكِ لإبلاغي.”
رحلت كيركي كما ظهرت، بلا صوت، وتطلّع ديلان إلى الفراغ الذي خلّفته برحيلها. لقد كان أمرًا مفاجئًا للغاية.
‘لم أكن لأتخيّل أبدًا أنها سترحل بهذا الشكل.’
هدأت مشاعره تدريجيًا، ومسح وجهه بيده، ثم بدأ يستجمع أفكاره بهدوء.
‘ذلك الدم الذي طلبته يومها… لا بد أنه استُخدم لهذا الغرض.’
في ذلك الوقت، لم يكن يظن أن الأمر يعنيه، فلم يسأل عن السبب. لكنه الآن يتساءل إن كان عليه أن يصرّ ويسأل. لعلّه لم يكن سيقف الآن كالأحمق، لا يفعل شيئًا.
مع ذلك، شعر بالارتياح لأنه ساعد والدته في لحظتها الأخيرة. لا، بل هل يصح القول إنه ساعدها؟ دمه ولحمه في الأصل منها، أليس كذلك؟
ومع هذا، أمر واحد يبقى مؤكدًا: لقد قدّم جزءًا من دمه الذي ورثه من ميديا لتُنجز به سحرها.
***
“وجدته! لقد وجدت المعلومات!!”
صرخت مساعدة ديانا وهي ترفع نظّارتها وقد خرجت من تحت كومة الكتب. فتحت تيتيس عينيها المتثاقلتين وسألت.
“وجدتِ ماذا؟“
“عن العهد مع التنين. وجدت مرجعًا قديمًا. الخطّ باهت قليلاً لكنه لا يُعيق القراءة.”
تناولت إيريس الكتاب العتيق، وقطّبت جبينها وهي تقرأ الكلمات الباهتة. طريقة إبرام العهد مع تنين كانت بسيطة.
كان يجب تحضير كأسين ذهبيين وخنجر. يُملأ كل كأس بدمٍ من أحد الطرفين، ثم يتبادلان الكأسين ويشرب كل منهما دم الآخر.
“آه، لماذا لا يكون هناك ختم بالحبر فحسب؟ لماذا علينا التعاقد باستخدام الدم؟ أنا حتى لا أتحمّل وخز الإصبع بالإبرة عندما أعاني من عسر الهضم، فكيف بكأس دم كاملة؟“
بدأ الجميع في الغرفة بالتذمّر من الطقوس القديمة التي لم تواكب العصر، وقالوا إن التنين طال نومه كثيرًا فتأخّر عن الركب.
“هل من الضروري أن تكون ديانا بنفسها من تذهب؟ ماذا لو شربت دم تنين وحصل مكروه؟“
وفي تلك اللحظة التي كانت فيها كاليستو قلقة على مصير ديانا المعلقة بقدر شربها دم الزواحف، كانت ديانا تتحدّث مع ديلان الذي زارها فجأة في منتصف الليل.
شعرت ديانا بعدم ارتياح من ذلك الحزن المكسو حول شقيقها التوأم. تساقطت الثلوج من على كتفي ديلان حين دخل إلى الداخل، مبلّلةً قماش ثوبه.
تناول كوب ماء بارد بدلًا من الدافئ وشربه دفعة واحدة، كأنه أراد أن يفيق من غشاوة، ثم أخبرها بصوت مبحوح بخبر والدتهما.
“رحلت؟ الآن؟ للتو؟“
كان ديلان من شرب الماء البارد، لكن ديانا شعرت وكأن أحدهم سكبه على وجهها فجأة.
كانت ديانا قد وعدت والدتها بالتحرر من الإقامة الجبرية، مقابل أن تساعدها بقواها السحرية. لم تكن تفعل ذلك بدافع منحها الحرية فقط، بل كانت تخطط لإصلاح شامل.
كانت تنوي إزالة كل أشكال التمييز الديني في تيلون، وبدأت بذلك بإطلاق سراح ميديا التي عُزلت بسبب قضايا دينية. لكن…
‘ومع ذلك، غادرت فجأة؟‘
ما دامت ميديا قد استعادت سحرها، لم يعد للحظر أي فاعلية عليها. بإمكانها ببساطة أن تغادر هذا العالم.
بذلك، لم يعد هناك ما يلزمها بتنفيذ اتفاقها مع ديانا، فتحطّم عهد الاثنتين.
‘لو كانت ستنقض الاتفاق، ألم يكن من الأجدر أن تبلغني؟‘
وبينما كانت ديانا تهمس لنفسها بتلك الشكوى، تذكّرت ما قد يحدث بعد ذلك، وصُعقت.
“…لا، انتظر لحظة. يجب أن أتعامل مع الأمر فورًا. كل الناس مشغولون الآن بأخبار أمي.”
وكان ذلك بسبب فضيحة الأمير الثاني ثيسيوس. لو كان حيًا، لتوزّع الاهتمام، لكن بعد موته، تسلّط الضوء بالكامل على ميديا.
وها هي تختفي فجأة. سيبدأ الناس بالترويج لشائعة قريبة من الحقيقة: ‘لقد هربت‘. مجرد التفكير بذلك صدّع رأسها.
“لو علم والدي باختفائها، فستكون كارثة.”
أخذت تضرب جبهتها براحتها مرارًا، لكن ديلان هدّأها‘
“لا تقلقي. صديقة أمي أوقدت نارًا وهي تغادر. السيّدة كيركي صنعت جثة مزيفة باستخدام مكونات من غرفة أمي.”
وسيتظاهر الحرس الملكي بأنهم كانوا سكارى وفشلوا في إيقاف الحريق.
منذ زمن، حين أغوى أياسون قلب الساحرة، أضرم النار في منزلها. واليوم، أوينوني التي أسرَت قلب ميديا، أضرمت النار أيضًا في بيتها.
لكن السبب في الحالتين كان مختلفًا كليًا.
أياسون أشعل النار ليقتلها، أما أوينوني فأشعلتها لتحميها وتمنحها الحياة.
“آه، في هذه الحالة لا بد من إقامة جنازة رمزية على الأقل.”
“أجل.”
كان صوت ديلان باهتًا وهو يرد. تطلّعت إليه ديانا طويلًا، ثم سألت.
“هل تبكي؟“
“لا.”
“بل تبكي.”
“ما هذا الكلام؟“
لم يكن يبكي حقًا، لذا كان واثقًا من نفسه. ثم قال وهو يبتسم ابتسامة باهتة، مثل القمر المختبئ خلف الغيوم.
“لقد رحلت لتفعل ما تريد… فلماذا أبكي؟“
“صحيح.”
عادةً ما يُستدعى أفراد الأسرة في لحظات الفراق، لكن ميديا استدعت صديقتها. لم تكن ميتة، لكن يمكن تشبيه رحيلها بذلك.
“أشعر بشيء من الخذلان. على الأقل شركاء العقود يبلغون الطرف الآخر حين ينوون الانسحاب.”
“…”
قالت ديانا ذلك، ثم أكملت بابتسامة.
“لا بد أنها كانت شديدة الحماس، فرحلت دون أن تنظر خلفها.”
نظر أحدهما إلى الآخر، وابتسم الاثنان. ولأول مرة منذ زمن، شعرا بالامتنان لأنهما ليسا وحيدين. وجود شقيق يتشارك معه هذه اللحظات كان عزاءً ثمينًا.
أمرت ديانا خادمتها بإحضار كأسين، ثم أخرجت زجاجة من الخمر من أحد الأدراج.
صبّت قليلًا من النبيذ الكهرماني في كأس ديلان، فبادلها هو بملء كأسها، وما إن أشارت له برأسها أن يتكلّم، حتى ابتسم بركن فمه وقال.
“من أجل بعث الساحرة.”
رنّ صوت الكأسين وهما يتصادمان، فارتشفت ديانا رشفة صغيرة، ثم شرب ديلان بدوره قليلاً، والتفت نحوها بنظرة خفيفة.
ولمّا أحسّت بنظرته، قالت دون مواربة.
“ما دمتَ لا تتحرك كمن يريد دخول الحمام، فقل ما لديك واذهب إلى منزلك لتنام.”
تردّد قليلاً، ثم شرب كوب ماء آخر وقال بصوت خافت.
“…أنا مدين لك باعتذار.”
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 69"