استمتعوا
على الحطب المكدّس فوق الأرض المتجمدة، بدأت صور هيلي تُكدّس واحدةً تلو الأخرى. وما إن أشعلت هيلي النار، حتى اندلعت ألسنة اللهب في الصور وابتلعتها شرارات النيران المتراقصة.
حين اشتعلت النيران بقوة، ارتدت هيلي خطوةً إلى الوراء، وقد باغتها وهج اللهب، ثم راحت تحدّق في ملامح وجهها وهي تذوي وتفنى وسط الاحتراق. كان شعورها حينها كما لو أن صدرها انفتح وتنفس حريةً.
“بطاطا مشوية! بطاطا مشوية! بطاطا مشوية!”
“يجب أن نأكل الجبنة أيضًا!”
“سمو الأميرة، لا تقتربي كثيرًا، الأمر خطير.”
“حسنًا، روس. سأنتبه!”
“وأنا؟ ألا ينبغي أن تقولوا لي ألا أقترب أيضًا؟!”
“…….”
خلف صوت اشتعال الخشب، تعالت أصوات موري وروز وهما يثرثران. وكان الاثنان يرفعان أيديهما عاليًا كأنهما يحتفلان بطقس ديني غريب.
‘لماذا لا يظهر حتى الآن؟‘
لقد تأخر ديلان كثيرًا. كانت هيلي تفكر في إرسال أحدهم لإحضاره، لكنها قررت الذهاب بنفسها. فمنذ إعدام والده، لم يغادر الفراش، حتى أن كاليستو قالت لها مازحة.
“سيعلق ظهرك في السرير إن بقيت هكذا“.
طرقت هيلي باب مكتب ديلان ثم دخلت مباشرة.
كان ديلان يحمل ورقة مألوفة الملمس. بدا أنه كان على وشك الخروج، فقد كان واقفًا أمام المكتب، وما إن رآها حتى دسّ الورقة بين صفحات كتاب بملامح هادئة.
‘تلك الورقة كانت قبل قليل بالتأكيد…’
شعرت هيلي بالريبة، فسألته.
“هل لي أن أرى هذا الكتاب قليلاً؟“
“لماذا؟“
“أشعر بالفضول حيال مضمونه.”
كاد أن يسلمها الكتاب عن طيب خاطر، ثم شد عليه بيده فجأة، محاولًا الاحتفاظ به. عندها قطبت هيلي حاجبيها.
“أرجوك، لا تستخدم قوتك.”
“……هل من الضروري حقًا قراءته؟ إنه ممل فعلًا.”
وفيما كان ديلان ينتقد كتابًا لكاتبه المفضل، انزلقت الورقة من بين الصفحات وسقطت على الأرض بخفة.
انحنت هيلي بسرعة قبل ديلان والتقطت الورقة، وما إن نظرت إليها حتى انكمش وجهها استياءً.
“ما الذي تفعله بهذا الشيء؟!”
كانت الورقة تحمل صورة لهيلي، إحدى الصور التي اعتقدت أنها أحرقتها كلها. لم تكن تتوقع أن تظل واحدة منها مخبأة هنا. شعور بالإحباط والدهشة اجتاحها.
“هل تؤمن بخرافة أن الاحتفاظ بصورة للقديسة يحمي من النحس؟“
“……لا أؤمن بذلك، لكنني شعرت أنه من المؤسف إحراقها جميعًا.”
في حين أن هيلي تسعى لإنهاء كل ما يتعلق بماضيها بالكنيسة، كان ديلان في الخفاء يحتفظ ببعض ما تبقّى. ومع ذلك، سلّمها الصورة طوعًا.
قامت هيلي بتجعيد صورتها على الفور، بينما غطى ديلان عينيه متظاهراً بعدم قدرته على النظر.
“هل توجد نسخ أخرى؟“
“……ربما؟“
إذًا هناك المزيد.
دفعت هيلي برفق على ركبته لتبعدها وفتحت درج المكتب. وجدت حوالي عشر نسخ أخرى.
“جمعتَ عددًا ليس بالقليل!”
أجاب ديلان بفتور.
“حسنًا، واحدة للقصر، وأخرى لقصر بلوتاروس…”
‘أليس يكفيك نسختان إذًا؟‘
لم تكن تحتفظ بالصورة أمرًا مفهومًا في الأصل، فكيف بتجميع عشر منها؟ لم تستوعب الأمر، فلوت برأسها قليلًا، فراح يشرح.
“هيلي، هل أحببتِ شيئًا من قبل؟ هذه أمور يجمعها الناس كهواية—”
“…….”
“فهمت، سأستسلم.”
حين برَدت نظرات هيلي، سلّمها ديلان الصور رافعًا يديه كعلامة استسلام. ابتسمت هيلي وهي تنظر إلى وجهه المتجهم.
“أفكر في رسم صورة جديدة لي، أعلم أن الأمر مزعج بعض الشيء.”
“لأجل هدية عيد ميلادي المقبل؟“
“ما هذا الكلام؟ إنها لي، فقط انظر إليها وأنت مارّ.”
“هل ستعلقينها في الممر؟“
“نعم.”
‘إذًا سأضطر للوقوف في الممر طوال اليوم…’
هكذا فكر ديلان وتوقف عن الكلام. إذ كانت هيلي تنظر إلى صورتها بتقزز ظاهر.
حين التقت عيناهما، ابتسمت هيلي بخفة وسألت. “لمَ تنظر هكذا؟“
جذبت حيويتها في تلك اللحظة ديلان، فمد يده دون تفكير وأمسك بأطراف يدها. كانت باردة، على ما يبدو أنها أتت للتو من الخارج.
“يبدو أن الجو في الخارج بارد جدًا.”
وبينما هو لا يزال يمسك يدها، قال.
“أنا أكره البرد حقًا. ما رأيك أن نبقى في الداخل ونقضي الوقت معًا؟“
رغم أن برد العاصمة لا يُقارن ببلوتاروس، إلا أنه حاول استغلال الفرصة. فكرت هيلي قليلاً، ثم ابتسمت وقبلت عرضه.
وبينما انتقلت الحرارة إلى يدها تدريجيًا، أصبحت دافئة لدرجة يصعب تصديق أنها خرجت للتو. ومع ذلك، استمر ديلان في الإمساك بيدها طويلاً، وقد أخذ يحدث نفسه أنه لا حاجة بعد الآن للتعلق بصورة مسطحة.
***
الساعة الحادية عشرة ليلًا.
كانت ميديا تستعد ببطء لأداء طقس سحري. كانت تعتزم فتح بوابة تؤدي إلى بعدٍ آخر، لتصل إلى زمن قبل خمسة وعشرين عامًا. أدارت رأسها نحو التقويم.
‘قالت عمتي إنها عبرت إلى البُعد الآخر عند بزوغ الفجر.’
كان من الأرجح أن تنجح المحاولة إن تمّت في اليوم والساعة ذاتهما. وغدًا تحديدًا هو اليوم الذي اختفت فيه كيركي، لذا قررت أن تغامر.
خلال الأيام الماضية التي قضتها في عزلة داخل الغرفة، تمكنت ميديا من جمع المواد اللازمة لرسم دائرة سحرية: عظام دجاج، خشب السُمّاق، ودم رجل عفيف (وقد تبرع ديلان بدمه دون أن يسأل عن السبب، رغم أن ميديا لم تكن ترغب بمعرفة ذلك أصلًا، لكنها لم تكن لتطوف تسأل الرجال عن عفّته، لذا اكتفت بدمه).
لم يتبقّ إلا شيء واحد.
‘أحتاج إلى طاقة سحرية.’
خلط المواد لا يتطلب سحرًا، لكن لتفعيل الدائرة، لا غنى عن الطاقة السحرية. من دونها، لن يتعدى الأمر سوى رسمة غريبة على الأرض.
في تلك اللحظة التي ارتسمت فيها الحيرة على وجه ميديا…
“يبدو أنك انتهيتِ من التحضير.”
“……عمتي.”
لم تكن تلك شبح الأمير الثاني، بل الساحرة كيركي، التي دخلت غرفة ميديا بصمت وجلست على الأريكة بكسل، تلوّح بيدها لا بقصد التحية.
“تشير إيماءتك إلى استخدامك السحر، أتعلمين؟ لا أشعر به مطلقًا، وهذا يثير غيرتي، لذا رجاءً، لا تستخدميه أمامي.”
“ستندمين إن فعلتِ.”
عندها التفتت ميديا إليها ونظرت بعينين حادتين.
“لقد جمعتُ قَدرًا من الطاقة السحرية، من جميع ساحرات هذا العالم، كل واحدة تبرعت بالقليل. كان من الشاق حقًا الوصول إليهن، لذا أظنني أستحق التباهي قليلاً.”
نهضت كيركي واقتربت من ميديا بخطى متحمسة.
“هذا يكفي لاستخدام سحرٍ واحد فقط.”
لم يكن بالإمكان تخزين المزيد من الطاقة في الحجر السحري، وكأن الكون سمح لها بفرصة واحدة فحسب.
“لقد تبرعت كل ساحرة في هذا العالم بقليل من سحرها لأجلك.”
ثم ضغطت بإصبعها السبابة على صدر ميديا، مباشرة عند القلب. كانت وخزة عميقة سببت لها ألماً مفاجئًا، ارتجفت له أنفاسها، وسال العرق البارد من جبينها.
لكن الألم كان خاطفًا، وسرعان ما شعرت بالطاقة تسري في جسدها مجددًا. ابتسمت بهدوء.
“كم مضى من الوقت منذ أن شعرت بهذا الإحساس؟“
“لحسن الحظ أنني لم أتأخر، أليس كذلك؟“
“حقًّا، أشكرك على حضورك.”
ما يزال أمامها وقت حتى بزوغ الفجر. وإن كانت ثمة فرصة لرؤية أحدهم، فهي الآن. وكان هناك شخص واحد فقط تود رؤيته.
“أريد لقاء شخص واحد قبل رحيلي.”
“من؟“
“أوينوني. أعلم أن طلبي طفولي، لكن… هل يمكن أن تحضريها إليّ باستخدام سحر الانتقال؟“
أرادت أن تقضي ما تبقى لها من الوقت مع صديقتها التي لم ترها منذ زمن.
“إنها هنا بالفعل.”
كيف تكون هنا؟ صُدمت ميديا من إجابة كيركي غير المتوقعة.
“ستصعد قريبًا. لعلها الآن نومت الحراس.”
“……بأي وسيلة؟“
“أرجّح أنها دست لهم منوّمًا. أليس هذا من صميم عملها؟“
“هاه…”
بعد حادثة الأمير الثاني، شدّد الإمبراطور الحراسة. أوكل أمورًا كثيرة إلى ديانا، لكنه احتفظ بهذه المهمة لنفسه.
“كان بإمكانكِ أن تفعلي ذلك بنفسك، ولكان اكثر فاعلية. لماذا جعلتِ أوينوني تقوم به؟“
كان لدى ابنة الأخ الكثير من الأسئلة والمطالب، وقد راق ذلك لكيركي.
“لأنها أرادت فعل ذلك بنفسها.”
علمت أوينوني كم كان محرجًا حين كُشف أمر ميديا في الصلاة، ولم تكن ترغب بأن يتكرر ذلك. لذا وضعت منوّمًا في مياه الحراس لتجنيبها الحرج.
وما هي إلا لحظات حتى فُتح الباب ودخلت امرأة إلى الغرفة. نظرت ميديا، التي كانت واقفة أمام النافذة بظهرها للضوء، فرأت وجهًا مألوفًا.
“مرحبًا، ميديا.”
كانت أوينوني، متنكرة بزيّ خادمة كما التقتا سابقًا.
“قالت آيترا أن أنقل لك شكرها، لأنها استطاعت الفرار من القصر الإمبراطوري بفضل مساعدتك.”
كانت آيترا قد تظاهرت بالموت لتهرب، وقد ساعدتها ميديا في ذلك. تذكرت الأخيرة رذاذ الماء الذي تطاير منها في تلك اللحظة، وأومأت بصمت.
تنحت كيركي جانبًا، وبدأت ميديا تتحدث مع صديقتها القديمة. تحدّثت أوينوني، الثرثارة بطبعها، عن اعتماد الناس المفرط على القوى الروحية وخشيتها أن يُهمَل الأطباء مثلها، ثم سألت عن إشاعة علاقتها بالأمير الثاني، قبل أن تتثاءب.
“هاااام. ألا تشعرين بالنعاس؟“
“أنا لا أنام في هذا الوقت.”
“منذ تخطيت الثلاثين، لم أعد أقدر على السهر. اليوم فقط سأبقى معكِ، لأنه سيكون الأخير.”
“إنه لشرف لي.”
ابتسمت ميديا ابتسامة صادقة، تحمل مزيجًا من البهجة بلقاء الصديقة، والحنين لما هو آتٍ.
مع بزوغ الفجر، عادت كيركي وساعدت ابنة أخيها في تجهيز الطقس. استخدمت ميديا المواد التي أعدّتها، فرسمت دائرة سحرية بدأت تتوهج بلهيب أحمر. لمن لا يعرف ما يحدث، لظن أن المكان يحترق.
وقفت ميديا في وسط الدائرة، ولوّحت بيدها وهي تبتسم.
“لا داعي لإرسال التفاح بعد الآن.”
“وداعًا، ميديا.”
دعَت أوينوني من قلبها أن تنعم صديقتها بالسعادة، وأن تستعيد قواها السحرية وتستخدمها بفرح.
كانت تشبه طفلة تستعد لرحلة مدرسية. طفلة لم تُظهر هذه البهجة قط في طفولتها أمام الكبار.
وربما، بالنسبة لميديا، كانت هذه رحلةً لا عودة منها. فقد لا تعود أبدًا إلى تسلون، لكن نشوة الرحلة وبهجتها ستظل محفورة في قلبها إلى الأبد.
“أتمنى أن تمسكي بيديك زمانك، وكل ما أضعته من رومانسيّتك.”
هكذا تمتمت أوينوني، وهي تنظر إلى أثر الدم المتبقي حيث رحلت ميديا.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 68"