استمتعوا
بعد أن أمضى وقتًا طويلًا هائمًا على وجهه، كشف ثسيوس عن حقيقته للكونت كوتيا والماركيز ترافيا، مفصحًا عن كونه أميرًا إمبراطوريًّا. غير أنّه أدرك حينها حقيقةً لا تقبل الجدال: لم يكن بإمكانه أبدًا أن يبوح بهويّته.
ذلك القيد الذي خُتم على ولادته بمفعول السحر، والذي جاء كنتيجة مباشرة للّعنة التي أنزلتها ميديا، حَتّم عليه أن يبقى مجهول الهوية إلى الأبد.
لم يكن في هذا العالم مَن يعلم أن ثسيوس هو ذاتُه إياسون.
في البدء، لم يُلقِ لتلك الحقيقة بالًا. بل على العكس، كان عازمًا على أن يحيا حياته الجديدة بإخلاصٍ تام، كابنٍ غير شرعيّ سيحصل لاحقًا على عرش الإمبراطورية.
إلّا أن مرور الزمن بدأ يوقظ في أعماقه شعورًا خانقًا بالوحدة.
كان يتمنى، ولو لشخصٍ واحد فقط، أن يعرفه قبل أن يفصح عن نفسه. وشيئًا فشيئًا، بدأ يرى الحشرات أمام عينيه. كان يعلم أنها محض أوهام، ولكن لم يكن بوسعه التحمّل؛ فظلّ يمدّ يده إليها محاولًا الإمساك بها.
وبعد فترة، علم ثسيوس بوجود ميديا. وكانت صدمة كبيرة له أن يعلم أن ميديا تبك ذاتها كانت زوجة الإمبراطور. غير أنّ قلبه هدأ حين عرف أنها قد خُلعت من منصبها.
‘ترى، هل تذكرينني؟‘
ادّعى أنه بحاجة لمعرفة المزيد عن والدة الأميرة الأولى والأمير الأول، فراح يستقصي عن ميديا من خلال الماركيز.
وحين بدا استفساره ملحًّا أكثر من اللازم، استغرب الماركيز من إلحاحه، فاختلق ثسيوس كذبة مفادها أن ميديا قد تكون هي من قتلت والدته، ليُخفي بها دوافعه الحقيقية.
“صحيح أنّ الإمبراطورة تبدو غريبة الأطوار قليلًا، لكنها لن تفعل أمرًا مزعجًا كهذا، على ما أظن.”
كان الماركيز يعتقد أن ميديا لا يمكن أن تفعل ذلك، لكنه لم يجد بأسًا في أن يُلصق بالإمبراطورة —التي يعتمد عليها التوأمان معنويًّا— تهمة كهذه.
***
ثسيوس، الذي تاق لاستعادة الحب والمجد اللذين نالهما في حياته السابقة، عزم أن يصير بطلًا.
كان يؤمن أن نيله لمكانة الأبطال سيبدد وحدته هذه. لكن فرصة أن يصير المرء بطلًا ليست من الفرص المتاحة لكل أحد.
ولذا، قرر أن يسفك دماء الآخرين بيديه ويُزيّف الحقيقة، متجوّلًا بين القرى الشرقية مدبّرًا الأمر بإحكام، آخذًا في الحسبان خصائص تلك المناطق.
وبمحض الصدفة، استعاد تمثال سيدة شجرة البلوط.
كان ذلك التمثال من مقتنيات الضحية التي قتلها متخفيًا في هيئة لصّ. ورغم أن الجهة الخلفية للتمثال احترقت، فقد احتفظ به وسلّمه إلى الفيكونت كوتيا، لأنه كان شيئًا قد حماه في حياته السابقة.
كما كان إياسون في ماضيه، أصبح ثسيوس بطلًا محبوبًا.
دخل القصر الإمبراطوري كما خُطّط له، واستغلّ وحدة الإمبراطور لينال مكانته ومحبّته.
وفي إحدى مكافآت الإمبراطور له، أُتيحت له الفرصة ليلتقي بميديا.
وقبل أن يقابلها، حصل على إذنٍ لرؤية الصوف الذهبي،
محاولةً منه لضبط مشاعره واستعادة اتزانه.
‘صوفٌ أنا من جلبته بيدي، والآن عليّ أن أطلب إذنًا من أحد أحفادي لأراه؟ يا للسخرية.’
كان الصوف لا يزال جميلًا كما عهدَه، بل وقد بعث في نفس ثسيوس رغبةً جياشة في أن يصبح إمبراطورًا ليملكه من جديد.
وفي ذات اليوم، حين التقى بميديا، استبدّ به شعورٌ معقد ومضطرب. لقد كانت لقياها أشد وقعًا وتأثيرًا من مشهد الصوف الذهبي ذاته.
ميديا، التي جاءت في شبابها لتنتقم من إياسون، بدت الآن بشريّة عادية، وقد شاخت مع الزمن.
أما السيف الذي أحضره معه احتياطًا لمواجهةٍ محتملة، فقد فقد حضوره وهيبته في تلك اللحظة، بينما ماضيه الذي لا يستطيع النطق به، برز بكل ثقله.
حين رآها، تساءل في نفسه.
‘لو اختفت هي، فمن في هذا العالم الفسيح سيعرفني؟‘
ما من أحدٍ يعلم أن ثسيوس هو إياسون، ولا أحد يعرف ماضيه غير المدوّن.
ولذا، فإن ميديا كانت الإنسانة الوحيدة في هذا العالم التي قد تتعرّف إليه، وتدرك ما كان بينهما من ماضٍ مشترك.
‘صحيح أنّ ميديا الآن لا تذكرني، لكن ربما، في يومٍ ما، ستتذكّر كل شيء.’
رغم أن الاحتمال كان ضئيلًا، إلا أنّه لم يستطع التخلّي عنه.
***
حين وضع خاتم الخطبة في يد أريادن، لم يكن ما يشغل ثسيوس آنذاك هو مستقبله السعيد مع خطيبته.
بل كان يتردد في ذهنه صوت ميديا وكلماتها الماضية.
“عاجز لا يستطيع فعل شيء دون يد امرأة. أتعلم ذلك؟ أنت وحدك لا تقدر على أي شيء.”
إياسون، الذي أصبح ملكًا بفضل ميديا، جاء في هذه الحياة الثانية ليعتمد على امرأة تُدعى أريادن ليصير إمبراطورًا.
“ليست هذه تهديدات تليق برجلٍ مخطوب حديثًا.”
“هل أزعجك ذلك؟“
ضحك ثسيوس على كلمات ميديا حين زارها بعد خطبته، ظانًّا في نفسه أنه قد فقد صوابه.
وحين لمح على مكتبها كتابًا مصوّرًا للأطفال بعنوان فرينا, غمره شعورٌ بالفرح لا يوصف.
فذاك الكتاب مستوحى من قصتهما هما الاثنين.
تذكّر المرأة التي كانت تراقبه عن كثب أثناء صعوده الجبل ونزوله، وخمّن أنها هي من ألفت ذلك الكتاب.
‘كنتِ أنتِ فرينا، وكنتُ أنا الفتى في ذلك الحكاية.’
الفرق الوحيد هو أن فرينا لم تنسَ الفتى، أما ميديا فقد نسيته تمامًا.
ابتسم ثسيوس ابتسامةً قصيرة وهو يسترجع ذكريات الزمن البعيد، ثم قدّم لها اقتراحًا.
وعدها بأنه لن يظهر أمامها مجددًا، إن استطاعت أن تكشف عن أصل تلك الحكاية.
‘فإن استطعتِ التوصّل إلى الإجابة، فذلك يعني أنّكِ قد استعدتِ ذكرياتك.’
ومن هنا، رسخ في ذهنه يقينٌ بأن ميديا ستأتي إليه يومًا ما.
لكنّ السؤال الذي راوده كان.
‘…وإذا أتت، فماذا بعد؟‘
عصف به الاضطراب.
ما الذي أريده أنا حقًّا؟
هل سأرضى فقط بأن تتذكّرني؟
ولحسن الحظ، لم يطل به هذا التساؤل.
في فجر ذلك اليوم الذي قضاه في غرفة ميديا، كان صوت تقلّب صفحات الكتب وهمسات أنفاس الحبيبة السابقة في دفء الغرفة، كفيلًا بأن يذيب جليد قلبه.
‘لا، لا أستطيع أن أكتفي بأن تتذكّريني فحسب.’
لأني، ما زلت–
‘لا… لا ينبغي لي هذا. أنا جئت من أجل الانتقام.’
رغم أنه أدرك أنّه ما يزال يحبّها، إلّا أن الاعتراف بذلك شيء آخر تمامًا.
لكن الأصعب عليه من الاعتراف بالحب، كان إنكاره.
ولذا، بعد مقاومة طويلة، اعترف بحبّه وشرب الدواء الذي قدّمته له ميديا. وكان ذلك اللقاء آخر لقاء بينهما.
إذ إنّ رفض ميديا لتقبّل الذكريات جعلها لا تنتقل إليها، فاحترقت ذكرى إياسون التي كانت حبيسة بذهن ثسيوس وتحولت إلى رماد.
***
خلال الأشهر التي قضتها هيلي في المعبد بدور القديسة، كانت صورها تُباع كالنار في الهشيم. وكان المعبد في الخفاء يتقاضى المال مقابل استغلال وجهها، لكن شيئًا من تلك الأرباح لم يصل إلى يدها قط.
وبعد المحاكمة، خسر المعبد قائده فاجتاحه الفساد دون مقاومة.
وحين رأت هيلي دفاتر حسابات المعبد، أصابها الاشمئزاز.
‘باعوا هذا الكمّ الهائل، ولم يعطوني فلسًا واحدًا؟ يا لهم من أوغاد.’
زاد غيظها من كونهم استغلّوا صورتها دون إذن، والأسوأ أن يدها لم تطل شيئًا من الأرباح.
وحين طالبت بكامل المستحقات المتعلقة بتلك الصور، وذهبت لمقابلة ديانا، كانت خطواتها خفيفة كريشةٍ في مهب الريح، كأنها قادرة على السير فوق الماء.
حتى موري كان يشعر بارتياح. فلقاؤه اليوم مع ديانا مكّنه من استعادة صندوقٍ كان مفقودًا. أما ديانا، فقد سُرّت لأنها وجدت حجة لتنتقد بها المعبد وتتهمه بالاستغلال.
وبينما كان موري يسير خلف هيلي ثم توقّف فجأة، استدارت هي وسألته.
“ماذا تفعل؟“
ابتسم وهو يتأمل المباني من حوله، وعلى شفتيه ارتسمت بسمة حالمة كوجه طفلٍ يحلم.
“لا شيء… فقط، لقد مضى وقت طويل منذ زرت القصر. يبدو أن أشياء كثيرة تغيّرت.”
“هل زرت هذا المكان من قبل؟“
“نعم، قبل قرون… جئت حينها لأبلغ الملكة، التي كانت تنتظر زوجها الذي خرج للبحر ولم يعد، بخبر موته.”
تذكرت هيلي حينها قصةً كانت مربيتها ترويها لها في طفولتها، قصة حب كان فريكسوس مولعًا بها.
‘من كان يظن أن تلك الحكاية القديمة تدخل فيها يد الحاكم؟‘
واصل موري حديثه بصوت خافت يشبه صوت المربّية.
“في الحلم، كنت قادرًا على كل شيء، فتقمصت هيئة الزوج. وقلت لها، إنني قد مُتّ بالفعل.”
“وفي النهاية، أقدمت الملكة على الانتحار.”
“نعم… تمنيت لو أنني لم أخبرها.”
هل كان ذلك خطأً؟
‘لو لم أخبرها، هل كانت ستعيش أكثر؟‘
ربما كانت ستتمسك بأملٍ في عودته، وتواصل حياتها.
‘كان ينبغي لي أن أترك لها ذلك الأمل.’
ولهذا، سمح لهيلي بأن تدخل إلى كابوسها طواعية. لأنه كان يدرك أكثر من غيره نهاية الإنسان حين ينقطع عنه خيط الرجاء.
وبينما كان يتفحّص المباني، سألها بصوتٍ بطيء.
“كيف تسير عملية مصادرة اللوحات؟“
“جمعتها كلها… وسأحرقها.”
“إذًا، لنشوي البطاطا الحلوة فوقها.”
“فكرة ممتعة.”
قد يشعر البعض بالانزعاج من رؤية صورهم تُحرق، لكن هيلي لم تُبالِ. بل كانت أكثر انزعاجًا من أن تُعلّق صورها في منازل الآخرين.
ورغم أنّ سمعتها تلطخت بعد الحُكم عليها، فإن الكثير من صورها لا تزال تُباع خفية، وبأضعاف ثمنها الأصلي.
‘هل تظنون أن صورتي ستحميكم من الأذى؟ حياتي أنا نفسها كانت فوضى! لا تُطلقوا مثل هذا الهراء.’
ولذا، لم تجد هيلي حلًا سوى أن تجمع كل صورها المنتشرة في القارة وتمحو أثرها تمامًا.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 67"