استمتعوا
بعد أن عاد حاملًا الصوف الذهبي، كان إياسون يعيش أوجَ أيام مجده بين الناس، غير أن شعوره بالنقص أمام إخوته كان عقدته الخفية.
كان حبّ ميديا له هو الدافع الذي حركها من الأعماق.
وما هي إلا فترة قصيرة على نزول ميديا من الجبل، حتى مات الأمير الأول في حادث سقوط من جواده.
أما الأمير الثاني، فقد تاه أثناء رحلة صيد في القصر الصيفي، ثم عاد مبتل من المطر مريضًا عليلًا، ولم يلبث أن فارق الحياة.
تمامًا كما تخلى رفاق إياسون عنه في صعودهم للجبل الثلجي، سقط إخوته الواحد تلو الآخر، إما موتًا أو إصابة.
وفي اليوم الذي أصبح فيه إياسون وليًّا للعهد، صارح والده الملك برغبته.
“لي قلبٌ يحبُّ، وأريد أن أتزوّج بمن أحب.”
ولم يكن أحد يعرف آنذاك وجه ميديا ولا اسمها بدقّة، وكان إياسون ينوي تقديمها رسميًّا. إلا أنّ الملك، وقد سبق له أن حقق في أمرها، هزّ رأسه رفضًا.
“هناك حديثٌ عن خطبة بينك وبين الأميرة غلاوكي من مملكة كورنثوس.”
وكان من المقرر أن تتزوج هذه الأميرة أخاه الأكبر. زواجٌ لم يكن لإياسون قديمًا أن يحلم به.
“… لكن يا أبي، من أحبّها هي ميديا، ولا أحد سواها.”
“أتقصد تلك الفتاة التي تُخفيها في القصر؟ من لا نعرف أصلها ولا فصلها؟ وماذا ستفعل لك مثل هذه؟“
صمت إياسون.
لم يكن بوسعه أن يقول، ‘هذه الفتاة المجهولة الأصل هي التي جلبت لهذا البلد الصوف الذهبي.’
كان من المفترض أن يُنسب إليه وحده الفضل في هزيمة التنين الشرس، وفي جلب الصوف الذهبي. ولهذا، أُخفيت كل أفعال ميديا.
“تخلَّص منها. الأميرة ستمنحك أجنحة تطير بها. الجميع يظنونها عرّافتك التي تستشيرها، ولهذا من الأفضل أن تنهي الأمر الآن.”
***
حين بلغ إياسون أن والده قد زار ميديا، سألها بقلق.
“قالوا إن أبي جاءك… هل أنت بخير؟“
“نعم، سمعت أنك تحدّثت له عني، ولهذا جاء، على ما يبدو.”
“لم يحصل شيء سيئ، أليس كذلك؟“
هل حدّثها عن الزواج من الأميرة ليجعلها تبتعد؟ هل طلب منها ذلك؟ راقب إياسون تعابير ميديا، لكنها أجابت بابتسامة مرتاحة.
“في البداية نظر إليّ بازدراء، لكن حين أخبرته أن لديّ دواءً يعيد الشباب، تغيّر مزاجه كليًّا.”
عندها تنفّس إياسون الصعداء، واحتضنها مطبقًا قبلة على جبينها.
لكن، بعد أشهر قليلة…
الملك، وقد أخذ الدواء من ميديا، بدأ يضعف شيئًا فشيئًا حتى مات.
صرخ إياسون بميديا وقد سمع نعي والده.
“ميديا، أنتِ فعلتِها! أنتِ من قتل أبي، أليس كذلك؟“
ولم يكن لدى ميديا حاجة لإخفاء الحقيقة عن من تحب.
هزّت رأسها بصدق، دون ذرة ندم، وابتسامة هادئة تملأ وجهها.
“نعم، أنا من فعل ذلك.”
“ولِمَ تفعلين أمرًا كهذا؟!”
“ألا تعرف السبب؟ لكي أجعلك ملكًا بأسرع وقت. ألم تكن تحلم دائمًا أن تكون ملكًا؟“
غشى وجه إياسون ظلّ قاتم، واختفت من قسماته كل علامات الحب، ولم يبقَ فيها سوى النفور الصادق، دون أدنى شائبة.
بغصّة ملؤها الغضب، تمتم.
“… أتمنّى لو تختفين.”
“ماذا؟“
“أنتِ قاسية… أنانية بشكل لا يُحتمل. أتمنّى أن تختفي من أمامي، لا، بل من هذا البلد بأسره.”
“… فعلتُ كلّ ما فعلتُه لأجعلك ملكًا، ومع ذلك تجرؤ على خيانتي هكذا؟“
ابتسمت ميديا بسخرية، وقد بدت كمن تلقّى طعنة في ظهرها بعد عمر من التفاني.
“هل تطردني حقًّا لأنني قتلت أباك وإخوتك؟ أم لأن زواجي بك لم يعد يفيدك؟“
كان سؤالها كالسهم الذي أصاب إياسون في الصميم.
لكنها لم ترحمه، بل تابعت قائلة.
“ستتزوّج من أميرة كورنثوس، أليس كذلك؟ كنت تبحث فقط عن ذريعة لطردي، وحين مات أبوك وإخوتك، وجدتَ الفرصة سانحة.”
“ميديا، أنا لم—”
“حقًّا؟ لم يخطر ببالك ولو للحظة أنني قد أكون وراء موت إخوتك؟ ولو لمحة واحدة؟“
“… “
“أرأيت؟ كنت تعرف كل شيء منذ البداية. فلماذا تغضب الآن وتسألني عن القتل؟ كم هو سخيف حقًّا.”
طوال تلك الفترة، حين كانت ميديا تقتل إخوته، لزم إياسون الصمت. لم ينبس بكلمة، بل ظل يراقب ما يريد وهو يتحقّق.
ضحكت ميديا بتهكّم وهي تنظر إليه بازدراء.
“عاجز لا يقدر على فعل شيء دون يد امرأة. هل تعلم؟ ما كان لك أن تبلغ هذه المرتبة لولا جهدي أنا.”
لو لم يمنحهم الحاكم في نبوءته صورة المرأة التي سلّمتها امه، لما التقى بميديا أصلًا، ولربما مات دون أن يرى الصوف الذهبي.
ولولا ميديا، لما عاد حاملًا للصوف الذهبي. ولولا هذا الصوف، لما أصبح وليًّا للعهد، لأن أخاه الأكبر، المحبوب من الملك، كان لا يزال حيًّا.
لو لم يمت أخيه، لما نال إياسون اللقب. وقد صار وليًّا للعهد، أراد أن يستقوي بزواج من الأميرة غلاوكي.
حاول إياسون أن ينكر كلمات ميديا، لكنه لم يستطع. فمهما لم تُسجّل هذه الأفعال في كتب التاريخ، فهي الحقيقة الجليّة بينهما. ولذلك، لم يجد غير العبارات المجردة يلفظها.
“… ميديا، أنتِ نذير شؤم.”
“وإياسون، أنتَ أكثر من استفاد من هذا النذير.”
تقدّمت ميديا نحوه بخطى ثابتة، ثم غرزت ظفر سبّابتها في صدره، حيث القلب.
“آه…!”
صرخ من الألم حين انغرست في قلبه حجرَة سحرية. بصق الدم، لكن ميديا لم تعبأ.
نظرت إليه بعين خاوية لا حياة فيها.
ولم يعد ثمة يوم تنظر فيه ميديا إلى إياسون بذات النظرة التي كانت تحمل حرارة العشق.
“إياسون، ستغدو أكثر الناس شقاءً. كل لحظة سعادة تصيبك، لن تكون سوى مقدمة ليأس أعظم.”
تلفّظت لعناتها بصوت بارد كالجليد.
“أرغب بشدة في أن أقتلَك الآن، لكنني لن أفعل. أريدك أن تقضي عمرك ترتجف، خائفًا من كل لحظة سعادة قادمة.”
ثم أطلقت ضحكة عالية وهي تنظر لإياسون الملقى أرضًا يتلوّى من الألم. مدّ يده إليها، لكنها كانت حركة عابثة.
سارت ميديا بخفّة إلى النافذة، فتحتها، ووقفت على حافتها، ثم قفزت في الهواء.
بدأ جسدها في السقوط، لكن…
“ميديا!”
قفز إياسون من مكانه نحو النافذة، غير أن ما رآه كان يفوق كل خيال.
‘ما هذا…؟‘
عربة يجرّها تنين، حلّقت في السماء حاملةً ميديا، التي بدت أكثر تحررًا من أي وقت مضى، وشَعرها الأسود يتطاير خلفها.
وحين رأى إياسون ميديا وهي تقود التنين بإتقان، أدرك الحقيقة المُرّة.
“ماذا فعلت…؟ ما الذي فعلته بحق السماء؟“
لقد أغضب كيانًا عظيمًا لا يُستهان به.
ومنذ تلك اللحظة، بدأ الخوف من ميديا، ومن لعنتها، ينبت في قلبه.
***
لكن إياسون لم يُرد أن يعيش حياته مرتجفًا خائفًا.
وبمجرد أن صار ملكًا، كانت أولى قراراته هي القضاء على ميديا.
علِم أنها عادت إلى الجبل، فأرسل إليها الفرسان ليحرقوا منزل الساحرة، عبر الطريق المختصر الذي كانت ميديا قد دلّته عليه من قبل.
وحين تأكدوا من انطفاء الأنوار في منزلها، أشعلوا فيه النار.
‘تمثال البلوط لا بد أنه ما زال في الداخل، لكن لا بأس، فلا خيار آخر.’
ثم، ارتاح إياسون نفسيًّا، وتزوّج من الأميرة غلاوكي.
ظنّ أن ميديا ماتت، وأن اللعنة قد زالت معها.
وكان أبناؤه من الملكة ينمون بصحة جيدة…
إلى أن مات الابن الأكبر بوباء، والثاني، الذي وُلِد ضعيف البنية، لم يحتمل المرض، فلحق بأخيه.
ثم ماتت الملكة نفسها، وقد أنهكها الحزن بعد أن دفنت طفليها.
وهنا فقط، تذكّر إياسون اللعنة التي وُضِعت على قلبه.
“كل لحظة سعادة تصيبك، لن تكون سوى مقدمة ليأس أعظم.”
“أيعقل… أن كل هذا هو ثمَن خيانتي لميديا؟“
لأنه أحب زوجته وأطفاله… لأنه كان سعيدًا، فقد فقدهم جميعًا.
صرخ إياسون بحرقة، وراح يمزّق وجهه بأظافره حتى سال دمه وتفجّرت عروقه.
ثم غرز سيفه في قلبه، في نفس الموضع الذي غرست فيه ميديا حجرها السحري.
وفي اللحظة التي كانت روحه تفارق جسده، ظهرت ميديا أمام ناظريه.
دخلت من النافذة، بخطوات هادئة، فامتلأت عيناه بها.
ورغم مرور الزمان، لم تتغير ملامحها قيد أنملة، كأنها تعيش زمنًا لا يمرّ.
‘حتى الموت لا يقترب من هذه الساحرة الشريرة.’
ضحكت ميديا وهي تنظر إلى حبيبها السابق يحتضر.
ومرة أخرى، حاول إياسون أن يُمسك بكاحلها، لكنها لم تسمح له بذلك.
وقبيل توقف قلبه، لمع الحجر السحري في صدره.
كانت ميديا قد قالت سابقًا إن الحجارة السحرية تزول حين ينتهي دورها، لكن حجره لم يختفِ، بل بقي ينبض في قلبه.
هذا يعني أن الرابط بينهما لم ينقطع بعد.
‘إن كان الأمر كذلك، فلا بد أن نلتقي مجددًا.’
وإن التقينا… سأقتلك، ميديا. سأنتقم منك على كل سعادة سلبتِها من حياتي.
بهذا العهد الأخير، أغمض عينيه.
***
وبعد زمنٍ طويلٍ جدًّا، فتح إياسون عينيه مجددًا.
لكنه لم يدرك أنه إياسون المُعاد تجسيده، إلا بعد أن لطّخت يداه بالدم.
“لمَ هذا الإصرار على الذهاب للقصر؟ كم مرة قلت لك أن تعيش بهدوء؟“
بسبب كلماتٍ كهذه، التي رآها تقليلًا من شأنه، قتل أمّه.
‘أهو ابن غير شرعي للإمبراطور هذه المرة أيضًا؟‘
عاد إياسون إلى الحياة، متجسدًا في جسد ثيسيوس، الذي حمل ذات الشعور بالنقص الذي لازمه في حياته السابقة.
نظر إلى أمّه التي قتلها، لكنها كانت نظرة خاطفة. سرعان ما تحوّلت عيناه نحو الهدية الإمبراطورية.
“إذًا، هذه هي الخنجر التي منحني إياها الإمبراطور.”
قتل أمّه بنفس الخنجر، وجمع كل الحلي التي منحها له الإمبراطور، ثم أضرم النار في منزله وهرب…
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 66"