استمتعوا
في ظهيرة شتوية ما… حينما كان أحدهم يغطّ في قيلولة، وآخر يتناول غداءً متأخرًا، كان شخصٌ ثالث يتلقى حينها حُكم نهايته.
لقد نهض ليكام من مقعده فجأة، بعد أن سمع الحكم الصادر عليه بالإعدام، برفقة الماركيز، والأمير الثاني، والبابا.
إلا أن الشخص الذي تشبّث به لم يكن القاضي، بل كانت هيلي.
“سموكِ! لقد وعدتِني بأنكِ ستُنقذينني إن شهدتُ بالحقيقة!”
“أنا…؟“
متى؟ وأين؟
أمالت هيلي رأسها بتعجّب، فقد حضرت إلى المحكمة فقط لترى نهاية والدها.
حينها صرخ ليكام قائلًا.
“لقد وعدتني بذلك في الحلم! كنتِ واضحة تمامًا حينها—”
“في الحلم؟“
“نعم!”
وبمجرد أن نطق بذلك، بدأ الحضور يتضاحكون ويتمتمون فيما بينهم. لم يكن أحد يعلم أن هيلي دخلت إلى أحلام ليكام، لذا بدت كلماته لهم ضربًا من الجنون.
“هل يريد منا أن نلتزم بوعدٍ قطعه في حلم؟“
“لقد جنّ، بلا شك.”
“ربما فقد عقله.”
أدرك ليكام متأخرًا حجم الحماقة في كلماته، فأطبق فمه. لكنه كان واثقًا؛ فقد وعدته الارشيدوقة حينما التقاها في الحلم، بأن تنقذه إن شهد بالحقيقة.
كان ليكام صادقًا في تصديقه، أما هيلي فلم تكن تنوي من الأساس أن تُبقيه حيًّا. فقد وعدته فقط في كابوسه لتطمئن أنه لن ينقلب عليها لاحقًا، وها هي ترفع كتفيها ببرود.
“لا يهمني أي حلم رأيته، لكنه كان بالتأكيد حلمًا تافهًا.”
“أشعر باشمئزاز بالغ. ما الذي يجعل زوجتي تظهر في أحلام هذا الأحمق؟“
حين عبّر الارشيدوق نفسه عن اشمئزازه بهذه الطريقة، أوشك ليكام أن يفقد صوابه.
كيف يُطالب بوعد قُطع في حلم؟ هيلي وديلان سخرا منه علنًا. وهكذا، وبعد أن تلقّى ضربة قاسية غير متوقعة، ظل ليكام يصرخ ويثور مطالبًا بتنفيذ الوعد، حتى تم تقييده.
وخلال ذلك، التقت عينا هيلي بعيني والدها، الذي كان يُسحب مكبّلًا بالحبال.
لم يكن بلباسه المعتاد، ولا بتلك الهيبة التي طالما أبهرت الناس. كان بمظهر شاحبٍ ومتواضع، غريبٍ على من اعتادوا رؤيته مهيبًا. شعرت هيلي باضطرابٍ طفيف.
ربما لن يعرف أبدًا أن إينو قد خانته.
وحينما كانت تحدّق في وجهه، همست هيلي لـ ديانا الجالسة إلى جانبها.
“أثناء الإعدام… اجعلي السيف غير حاد. لا أريد أن يموت بضربة واحدة.”
“إنتهى.”
لكن ثمة مشكلة واحدة ما تزال قائمة: لم يُلقَ القبض على إيدن بعد.
***
حين كُشف أن ثيسيوس هو المجرم الحقيقي، ضجّت الإمبراطورية. ومنذ الصباح الباكر، اجتمع الناس في ساحة الإعدام، يهمسون فيما بينهم وهم يرمقون الأمير الثاني.
“كنت أشعر بشيءٍ مريب…!”
“ألم أقل لكم إنه كان مشبوهًا؟“
“قلوبنا تحترق على من اتُّهم ظلمًا.”
اصبح الجميع يصف نظراته الذهبية اللامعة بأنها نظرات خبيثة. كانت صورة البطل تتحطم أمام أعينهم.
بعد قليل، قُطعت رقبة البابا بضربة واحدة. لكن ماركيز ترافيا، الذي تلاه، لم يحظَ بالموت السريع ذاته؛ فظل يتألم طويلًا، حتى إنه توسل أن ينهوا حياته بضربة واحدة.
وكان آخر ما قاله.
“دعوني أحتضن ميلكير، المسجون في الزنزانة، لمرة أخيرة.”
لكن هيلي، التي سمعت كلماته، أرسلت والدها إلى مثواه الأخير.
نظرت إلى رأسه المقطوعة بهدوء، ثم انسحبت إلى مكانٍ خالٍ، وبكت قليلًا.
كم هو معقد قلب الإنسان… ظنّت أن قتل والدها سيجلب لها السلام، لكنه لم يفعل.
‘هل لأنني لم أستطع التخلص من إينو وإيدن؟‘
تأملَت هيلي طويلًا في منصة الإعدام، التي كان يجب أن يقف عليها الاثنان.
أما الأمير الثاني ثيسيوس، الذي كان محبوبًا يومًا ما، فقد نطق بجملة أخيرة.
“ذاك الصوف… هو لي.”
ولأن لا أحد يعرف اسمه الحقيقي، فسّر الجميع كلماته بأنها تعبيرٌ عن طمعٍ في العرش.
وحين همّ بذكر اسم امرأة، لم يكمل عبارته، إذ قُطعت رقبته.
وفي اللحظة التي فارقت فيها أنفاس الرجل الحياة…
فتحت ميديا عينيها من نومٍ حديث، بوجهٍ كالحٍ منزعج.
شعرت بدوارٍ غريب.
‘ما هذا الشعور… القذر؟‘
بدت ذكريات ضخمة، كأمواج عاتية، تهاجم عقلها فجأة.
“هل سبق وتخيّلت كيف وُلدت هذه الحكاية؟“
“ربما ألهمهم منظر جبلٍ شتوي، كانت تعيش فيه امرأة غريبة الأطوار.”
“ربما. فكل كاتبٍ لا بد أن يكون قد استلهم فكرته من مكانٍ ما. ربما كان هناك بالفعل امرأة تعيش في جبلٍ مكسو بالثلوج، ورجلٌ كان يصعد لرؤيتها من وقتٍ لآخر.”
قال ذلك الرجل بابتسامة، ثم وضع شرطًا.
“إن استطعتِ اكتشاف أصل الحكاية… فلن أظهر أمامكِ مرةً أخرى، أبدًا.”
استرجعت ميديا تلك الذكرى القصيرة، ثم ابتسمت ابتسامة باهتة.
“لم أجد الجواب، لكن لم يعد يهمّ.”
فهو لن يظهر أمامها مجددًا.
شعرت ميديا براحةٍ غريبة.
“أنتِ لم تتذكري شيئًا حتى الآن.”
ثم، وهي تسمع ذلك الصوت الذي يدور في رأسها، أدركت ميديا شيئًا.
إن هي أغمضت عينيها الآن وغرقت في النوم، فستعرف ما هي تلك الذكريات التي تحدث عنها.
ذكريات لا يملكها سواه.
لكن ميديا رفضت أن تتلقّاها.
لم تكن مهتمة، ولا ترى أي داعٍ لبذل الجهد لأجلها.
بل إن تذكّرها له، سيحقق له مبتغاه النهائي.
ولم تكن ترى أي سبب لتحقيق أمنية له.
حاولت ألا تُغمض عينيها، حتى غرست أظافرها في كفّها لتمنع نفسها من الاستسلام.
لكن العلامات سرعان ما تلاشت.
وكأنها تقول: “ثيسيوس لم يكن يومًا أكثر من ذلك في حياتي.”
***
في زمنٍ سحيقٍ مضى، كان في مملكة تيلّون أميرٌ سادس منبوذ ومُحتقر.
اسمه كان إياسون. وُلد من جارية راقصة، ونشأ في ظل مكانته المتدنية، فلم يكن هناك لفظ سمعه أكثر من كلمة، ‘حدودك‘.
‘عليك أن تعرف حدودك.’
كانت تلك العبارة كالسهم يُغرس في قلب إياسون، تذكيرًا دائمًا بانحدار نسبه وضعة أصله.
في تلك الأيام، كانت الممالك تتنافس في سبيل الحصول على الصوف الذهبي، متحدّين نفوذ التنين.
ورغب ملك تيلّون بهذا الصوف كذلك، فأوكل المهمة لـ إياسون.
كان شابًا، وشبابه جعله جريئًا.
أقسم أن يقتل التنين، وينتزع الصوف، ليحظى باعتراف والده.
وقبل رحيله، أعطته والدته تمثالًا لامرأةٍ من خشب البلوط.
“تلقيتُ نبوءةً أن هذا التمثال سيفيدك كثيرًا، فاحتفظ به.”
ورغم كونه شيئًا ثقيلًا، قبله إياسون بفرح، وخرج في رحلته مع رفاقه للظفر بالصوف الذهبي.
عبروا أنهارًا كثيرة، وساروا على اليابسة أيامًا، حتى ظهرت أمامهم جبالٌ جليدية شاهقة.
خلف تلك الجبال، يسكن التنين ويحرس الصوف الذهبي.
“هل سنتمكن من عبور الجبل سالمين؟“
“أشعر أن أطرافي ستتجمد.”
“علينا الذهاب، فلا خيار آخر.”
“فلنستعد جيدًا.”
رغم تحذيرات أهل القرية، حزموا طعامهم وصعدوا الجبل.
لكن عزيمتهم انطفأت في مواجهة الثلوج، وسقطت واحدة تلو الأخرى.
مات جميع رفاقه، ولم يبقَ سوى إياسون، الذي بالكاد بقي على قيد الحياة.
أصابته قشعريرة، ولم يستطع الكلام، ولا حتى الصراخ طلبًا للنجدة.
هل كان هناك أحدٌ في هذا الجبل أصلًا؟
‘هل سأموت هنا؟‘
وقبل أن يسحقه الخوف…
سمع أنغامًا عذبة تتسلل وسط الريح العاصفة.
كان تمثال البلوط، الذي حمله على كتفه، يُغني.
وما هي إلا لحظات، حتى ظهرت أمامه امرأة.
‘إذًا… كان هناك بشر حقًّا.’
نظرت إليه وقالت.
“أعطني ذاك التمثال العجيب، وسأنقذك.”
ولو طلبت قلبه، لأعطاها إياه دون تردّد.
وسط العاصفة، كانت صورتها هي الوحيدة التي انطبعت في قلبه.
لقد وقع إياسون في حبّ المرأة التي أمسكت بيده حين كان على شفير الموت.
‘قالت أمي إن التمثال سيفيدني كثيرًا؟‘
ربما كان هذا هو السبب.
أومأ برأسه، ثم فقد وعيه.
***
“في الآونة الأخيرة، أصبح الناس يتوافدون لعبور الجبل. هل هو من أجل ذلك الصوف؟“
“نعم. أنا نفسي جئت من أجله.”
في إحدى المرات، استيقظ إياسون من نومه وتحدث مع ميديا وهو لا يزال في الفراش.
“أمر مزعج. لم يعد أحد يخرج حيًّا من جبلي، وهذا يثير غضبي.”
ثم أضاءت في ذهن ميديا فكرة، وصفقت بيديها.
“مهلًا… ماذا لو ساعدتك في الحصول على الصوف؟“
“أتستطيعين قتل التنين؟“
“ممم… بصراحة، لا. قتل التنين صعب على البشر. لكن بإمكاني أن أجعله ينام طويلًا.”
“لكن هذا ليس نصرًا كاملًا.”
وسرعان ما غيّر إياسون رأيه، فقد كان من المستحيل أن يجرح التنين بسيفٍ بشري.
‘طالما أن التنين لن يستيقظ في حياتي، فلا بأس.’
لذا، قرر أن يستعين بميديا.
جمعت مكونات سحرية بسرعة، وصنعت إكسيرًا منوّمًا، ثم خرجت مع إياسون إلى الجبل.
وحين اقتربا من التنين، رشت عليه الدواء، فنام بعمق.
وعلى غصن شجرة خلف التنين، كان الصوف الذهبي يتدلّى.
تألقت عينا إياسون وهو يراه، إذ رأى مستقبله كـ بطلٍ يُمجّد.
“سأعود مجددًا.”
“كما تشاء.”
لم تصدق ميديا كلماته، فمن يُعقل أن يعود أحد إلى هذا الجبل وهو بعقله؟
لكن هذه المرة… خابت ظنونها.
فقد عاد إياسون، وسقط فاقدًا وعيه من جديد.
كلما وبّخته لأنه كاد يموت، ضحك ضحكة خفيفة.
وبعد تكرار الأمر عدّة مرات، أخبرته ميديا بممرٍ سرّي.
“لا تخبر به أحدًا. هو لك وحدك.”
“أعدك.”
ابتسم وهو ينظر إلى ساحرته قائلاً.
“أنتِ إنسانة عطوفة. لو رغبتِ بالتمثال، كان بوسعكِ أن تأخذيه بعد موتي.”
في عينيه الذهبيتين كان الحب، وفي صوته دفء.
“رغم ذلك، أنقذتِني. لو ذاب جليد هذا الجبل يومًا، فسيكون بسبب دفء قلبكِ.”
مرّت أيام، وكان إياسون يصعد لرؤيتها مرارًا.
وجاء شتاء العام التالي.
وبعد أن قضى ليلته معها، وقبل أن يغادر إلى القصر، تردّد عند الباب.
“ما الأمر؟“
“…ميديا، هل تأتين معي؟ سأصبح ملكًا، وحينها… أريدكِ أن تصبحي ملكتي.”
وهكذا، وعد إياسون ساحرة الجبل بحبٍ أبدي، وغادرت ميديا الجبل معه.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 65"