استمتعوا
منذ وقت ليس ببعيد، قالت كاليستو.
“لا أستطيع أن أصدق أن ذلك اللعين البغيض يُعدّ بطلاً!”
وكانت تلك العبارة نقطة انطلاق لتحقيقات ميتيس.
بدأ بالتساؤل عمّا إذا كان القتلة الثمانية أشخاصاً حقيقيين. وانطلقت في تحقيقها مدفوعًا بالشك، حتى أوصلتها الخيوط إلى هذا المكان.
“لست أفهم ما الذي تحاولين قوله.”
قالها ثيسيوس وهو يميل برأسه قليلاً، ثم أردف.
“كنتي قرصانة في السابق، أليس كذلك؟ فوضويٌّة إلى أبعد حد. عليّ أن أقلق بشأن سلامتك متى ما خرجتُ من هذا المكان.”
الابن الثاني للإمبراطور، الذي قضى معظم حياته خارج القصر، أطلق هالة من الهيبة الطاغية. لم يكن من الممكن اكتساب هذه الرهبة في الفترة القصيرة التي قضاها داخل القصر. ومع ذلك، لم تتراجع ميتيس، بل قابلت كلماته بابتسامة واثقة، فرحة لأنها توصلت إلى الجواب.
عادت ميتيس إلى الأعلى عبر السلم الذي نزلت منه قبل قليل.
وقائع القتل التي وقعت في المناطق الثماني من الشرق، اختلفت دوافعها وطرق ارتكابها في كل منطقة.
وعلى وجه الخصوص، فإن المناطق الشرقية كانت منقسمة بوضوح بين الشمال والجنوب، والعلاقات بينهما لم تكن طيبة. ونظرًا لأن قانون تيلون يحدد نطاق السيطرة بحسب الدين، فقد تباين مستوى الدخل، وكان الشمال، حيث تنتشر عبادة حاكم الأرض، يتمتع بمستوى دخل أعلى.
‘بدلًا من أن يشتركوا في التحقيقات ويتبادلوا المعلومات، أجرى كلٌّ تحقيقه على حدة.’
ولأنهم لم يجدوا قواسم مشتركة بين الجرائم، تعذّر عليهم إجراء تحقيق مشترك.
لكن النقطة التي وجب التركيز عليها، لم تكن الأمير الثاني، بل الجناة والضحايا في كل منطقة، الذين قيل إن الأمير الثاني قد أمسك بهم.
في الوثائق التي كانت بحوزة ديانا، صُنّف الضحايا بدقة حسب المناطق. فقد افترض الجميع أنّ الفاعلين مختلفون، لا مجرمًا واحدًا.
أما ميتيس، فلم تقِم وزنًا لهذا التصنيف، بل رتّب مواعيد وفاة الضحايا كلها حسب التسلسل الزمني، ومن ثم لاحظ أمرًا لافتًا.
‘لا يوجد يوم تكرّرت فيه جريمة القتل. أهي مصادفة؟‘
في اليوم الذي وقعت فيه الجريمة في المنطقة الأولى، لم تقع أي حادثة في المناطق السبع الأخرى.
قارنت ميتيس هذا الجدول الزمني مع يوميات رحلات ثيسيوس، والتي أمر الإمبراطور بتسجيلها مدفوعًا بحماسه لقصص ابنه. ووفقًا لتلك اليوميات، كان ثيسيوس يتنقّل بين المناطق الثماني بحثًا عن الجناة.
جالت ميتيس بنفسها في القرى، تتحقّق من صدق ما ورد في اليوميات، واكتشفت في النهاية أنّ تحرّكات الأمير الثاني كانت تتطابق في كثير من الأحيان مع تواريخ حدوث الجرائم.
‘أيعقل أنه كان هو المجرم منذ البداية؟ غيّر طريقته في القتل بحسب كل منطقة، وبهذا تخلّص من الشبهات. إذًا، أولئك الذين زُعم أنهم الجناة؟‘
هل كانوا موجودين حقًا؟ أم أنّ الأمير الثاني قد لفّق لهم التهم، وتكفّل كلٌّ من ماركيز ترافيا والفيكونت كوتيا بالتغطية؟
تذكّرت ميتيس ما قرأته قبل قليل في إحدى التقارير. كان هناك شيء مفقود من أغراض أحد الضحايا في المنطقة التي وقع فيها اعتداء بالسلاح.
‘……كان التمثال النسائي المصنوع من خشب البلوط هو الشيء الوحيد المفقود، أليس كذلك؟‘
فقد وُجدت بقية الأغراض في منزل الرجل الذي زعم الأمير الثاني أنه الجاني، إلا أن التمثال المصنوع من خشب البلوط لم يُعثر عليه.
لم يكن ذلك التمثال ذا قيمة مادية تُذكر، بل كان يحمل آثار حرق. وبعد أن طويت القضية، وسيطرت رواية الأمير على الرأي العام، نُسي أمر التمثال.
ولأنه لم يُبع في أي مكان، فقد كانت الاحتمالات تشير إلى أن الأمير الثاني ما يزال يحتفظ به.
وبعد سؤالٍ وبحث، استطاعت ميتيس أن تلتقي بشخصٍ بالغ الأهمية.
“أتى إليّ بالتمثال المكسور وسأل إن كان بإمكاني إصلاحه. ولما أخبرته أن ذلك صعب، سأل إن كنت أستطيع صنع نسخة مماثلة له.”
بعد تتبّع متسلسل للحوادث، وصلت الخيوط إلى الفيكونت كوتيا، خال إينو.
كان الأمير الثاني قد سلّم التمثال إليه، إلا أنّ الإهمال أفسده، ولخوفه من غضب الأمير حين يرى حاله، سارع بتكليف أحدهم بصنع نسخة جديدة.
‘هل كان الأمير الثاني… يرغب أن يكون بطلاً؟‘
خرجت ميتيس من السجن ونظرت إلى السماء. تأمّلت القمر المغطى بالغيوم، وتذكّرت شخصًا واحدًا.
‘هل يا ترى نامت ديانا؟‘
حين تراها، كانت تنوي أن تطلب الإذن بتفتيش قصر الفيكونت كوتيا.
ولحسن الحظ، كانت أضواء القصر مشتعلة، وصدر الإذن في الحال.
***
وبعد وقت قصير، وصلت أنباء غير سارة إلى ديانا وديلان.
“جلالته قد استعاد وعيه.”
أعرب ديلان عن إعجابه مجددًا بصلابة جمجمة والده، ورافق ديانا للقاء الإمبراطور. كانا أصلاً في طريقهما إلى القصر لاستجواب البابا.
في الطريق، سأل ديلان.
“ألم يصبه فقدان في الذاكرة؟“
“لا، لحسن الحظ.”
لو أنّ الإمبراطور نسي ما وقع بينه وبين الأمير الثاني، لكان ذلك مؤسفًا للغاية. شعرت ديانا بالارتياح لأن الإمبراطور لم يفقد ذاكرته.
وحالما دخلا غرفة نوم الإمبراطور، لم يتمالك الأخير نفسه من الغضب، فالتقط وسادة ورماها نحو ديانا.
لكن لضعفه، سقطت الوسادة عند قدميها.
“لماذا لم تُبلّغيني بأن الأمير الثاني كان يتسلّل كل ليلة لزيارة الإمبراطورة السابقة؟!”
كانت الأخبار قد وصلت إلى الإمبراطور من خلال الشائعات، لكن من أطلقها ابتداءً كانت ديانا، فهي المسؤولة عن وصولها إليه.
‘لن يصدقني لو أنكرت معرفتي تمامًا.’
لذا، قررت ألا تنكر علمها بالأمر.
“خشيت أن يُفهم إبلاغي على أنّه محاولة لإشعال الفتنة بينكم، ولذلك ترددت. ومن كان يتصور أن الأمير الثاني، وقد فُتن بامرأة، سيقترف تلك الفعلة الشنيعة؟“
ما فعله الأمير الثاني، من ضرب رأس الإمبراطور، لم يكن في الحسبان لأحد، حتى لأريس التي خططت لكل شيء.
“ولم يكن يعجبني ما يفعله، يا والدي. وقد أعربت والدتي كذلك عن امتعاضها من زياراته المتكررة، فأردت أن أضع حدًا لذلك بصمت… ثم وقعت هذه الكارثة.”
أرادت أن توصل المعنى بأن ميديا لم تكن راغبة بلقاء ذلك الوغد، بل هو من اقتحم حياتها رغماً عنها.
وعلى الطاولة المجاورة لسرير الإمبراطور، كان هناك منفضة سجائر كعادته. لم تكن تلك التي استُخدمت في الضرب، بل واحدة جديدة. ويبدو أنه لم يدخّن منذ استيقاظه، فكانت خالية تمامًا.
حين رمقها ديلان بنظرة، انكمش الإمبراطور لا إراديًا. فقد خُيّل إليه أن الدماء لا تزال تقطر من المنفضة.
“يبدو أنّ الخدم لم يراعوا حالك بما يكفي.”
قالها ديلان بابتسامة خفيفة على جانب فمه، وقد ارتسمت على وجهه ملامح الشفقة على والده المخدوع.
لكن الإمبراطور أحسّ بقشعريرة في أعماقه من تلك الابتسامة.
“سأتولى إزالتها بنفسي. وبالمناسبة، ما رأيك بالإقلاع عن التدخين، يا أبي؟“
قالها وهو يحمل المنفضة بيده، ومن ابتسامته الوادعة انبعث برد الشتاء القارس.
تأمّلت ديانا ردة فعل الإمبراطور ثم سألت.
“هل تذكر المجرمين الذين نشروا الفوضى في الشرق؟“
“أجل. أليس ثيسيوس من ألقى القبض عليهم جميعًا؟“
“لقد اتضح أن أولئك لم يكونوا سوى أكاذيب، والمجرم الحقيقي هو الأمير الثاني. هو من ارتكب القتل ونسبه إلى غيره. وانتحل دور البطل. وقد تأكدنا أن الماركيز ترافيا والفيكونت كوتيا ساعداه في التزوير.”
في صباح اليوم نفسه، تلقّت ديانا من ميتيس تقريرًا يفيد بالعثور على التمثال الخشبي في قصر كوتيا، مرفقًا باعتراف من الفيكونت بأنه تلقاه من الأمير.
وحين أخبرت الماركيز في السجن بذلك، أنكر علمه، وألقى باللائمة على كوتيا والأمير.
وحين نُقل الاعتراف إلى كوتيا، ادّعى أنّ كل ما فعله كان بأمر من الماركيز والأمير معًا. ترى كيف سيكون لقاؤهما وجهًا لوجه؟
“هاه…”
تنهد الإمبراطور أيغيل، ووضع يده على جبهته غير مصدّق لما سمع.
كانت الأسئلة تتلاطم في رأسه.
أليس في الأمر غرابة؟
فبحسب ديانا، كان صديقه المقرّب أتاس ترافيا، على علمٍ بالأمير الثاني منذ زمن بعيد.
‘فلماذا إذن لم يخبرني أتاس بوجود ثيسيوس؟‘
عاد الشك يتغلغل في قلب الإمبراطور. لم يكن من السهل أن يُشكّ في الابن، ثم الصديق.
لاحظت ديانا حيرته، فأخبرته عن مؤامرة اغتيالها التي خطط لها الماركيز، وعن الصندوق المقدّس الذي كان يخفيه.
“لقد استخدموا الصندوق الذي كان بيد البابا لتنويم ديلان، ثم القضاء عليّ، وأخيرًا كان الهدف تنويم جلالتك باستخدام الصندوق الآخر.”
رغم أنهم لم يكونوا ليستخدموا كنزًا مقدّسًا على الإمبراطور، إلا أنها أرادت أن تُشعره بقيمته في نظرهم.
أحسّ الإمبراطور بالخذلان. لقد خانه الابن الذي أحبّه، والصديق الذي وثق به.
في شبابه، خدعته ميديا وخبّأت عنه ديانتها، والتوأمان كانا عصيّيْن على الطاعة. ومع أميرة تالوف، آيترا، لم يُرزق بالوريثٍ البطل. وحين التقى بثيسيوس ظنّ أن السعادة قد حلّت، لكن الواقع كان قاسيًا.
‘لماذا ايها الحاكم تمنحني هذا الحظ العاثر؟‘
آلمه رأسه من الضربة التي تلقّاها من ثيسيوس، فعبس.
“لكن، يا أبي…”
تابع ديلان الحديث دون أن يترك لوالده فرصة لالتقاط أنفاسه.
“لقد استجوبت البابا بنفسي اليوم، وقال شيئًا غريبًا.”
“……ما هو؟“
“عن الكارثة التي سبّبها المعبد. تجاهلهم لكلام الوحوش، وتحريضهم على الحملة. البابا قال إن كل ما فعلوه تمّ بعلم وموافقة الإمبراطور. فهل هذا صحيح يا أبي؟“
تلاقى نظر الإمبراطور بنظرة ابنه، ثم حاد بنظره متوترًا. فقد بدت هيئة ابنه وهو يحمل المنفضة مرعبة.
“أنا، أنا لم أفعل شيئًا من هذا القبيل.”
لكن الحقيقة أنه وافق.
كان في قرارة نفسه يريد تأديب أولاده العاصين. ولم يكن يظن أن بلوتاروس ستُخترق.
أومأ ديلان برأسه متظاهرًا بالتصديق.
“إذًا، المعبد كان يكذب.”
“نعم. لقد حاولوا استغلال غيابي عن الوعي لتنفيذ مخططاتهم. أأنا من يمكن أن يصدر قرارًا كهذا؟“
بحث الإمبراطور عن الكلمة المناسبة في قاموسه، فوجدها في ‘القطيعة‘ ، الكلمة التي تُنهي الصداقة. وأسند إلى ديانا تنفيذ القرار، وأعلن نهاية الصداقة.
وبعد قليل، غادر التوأمان قصر الإمبراطور.
قال ديلان وهو ينظر إلى ديانا.
“علينا الإسراع، قبل أن يغيّر رأيه.”
“صحيح. لكن ديلان، ألم تقل إنك ستأخذ المنفضة؟“
“آه… نسيت. كنت أمسكها طوال الوقت حتى لا أنساها، لكني نسيتها عند ارتداء المعطف.”
ظلّ يحملها طوال الحوار ليزيلها في النهاية، ثم تركها خلفه.
لا بدّ أن الإمبراطور الآن يظن أن ديلان كان يهدّده بها طوال الوقت.
أنجزت ديانا كل شيء قبل أن يتراجع الإمبراطور عن قراراته.
التهم: التآمر على قتل أفراد العائلة الإمبراطورية، خداع البلاط، إخفاء الجرائم، وغيرها.
وقد حُدّد تاريخ تنفيذ الإعدام في كلٍّ من ماركيز ترافيا، والبابا اكزافير، والأمير الثاني ثيسيوس.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 64"