استمتعوا
هيلي تابعت السير، تشقُّ طريقها وسط الرياح الباردة دون وجهة واضحة، لا تدري إلى أين تمضي، وكأنّ العالم قد غاب عن ناظريها. ثمّ ما لبث ديلان أن لحق بها ووقف في طريقها ليصدّها.
“إلى أين تظنين نفسك ذاهبة؟“
عندها فقط توقّفت هيلي عن المشي. وحين رأت المعطف الذي يحمله ديلان في يده، أدركت أنها خرجت مسرعة دون أن تأخذ معطفها. وما إن شعرت بدفء المعطف على كتفيها، حتى همست بصوتٍ خافت يملؤه الإحباط.
“الخائنة هي إينو.”
“…أجل.”
“لقد حاولت إنقاذ أمي أيضاً. لكن لماذا فعلت إينو ما فعلته؟ هل ما زالت تحتفظ بشيء من الضمير والطيبة في قلبه؟“
تلك المرأة التي كانت بالنسبة لها كابوسًا مرعبًا لا يُطاق، لماذا تتصرف الآن وكأنها تحمل بقية من إنسانية؟ لم تستطع فهم دوافعها.
“لماذا انشقّت إينو عن خطة أبي؟ لقد كانت تحبّه حبًّا جمًّا. ألم يكن من الأحرى أن تلازمه حتى النهاية ويتهاويا معًا، بدلًا من أن تنجو بنفسها وحدها؟“
تمنّت لو كان الأمر كذلك، لكان أسهل على قلبها. لو أنّها فقط تنبّأت بسقوط الماركيز فاختارت أن تنجو بنفسها، لهان الأمر. ولكن ما يزيد الألم، أنها كانت تعلم أن ذلك لم يكن السبب.
فمنذ ما قبل تسليمها للصندوق، كانت تصرفاتها غريبة.
‘كان تعلم أن أبي سيذهب ليقتل أمي، فأخبرتني بذلك أولًا.’
ما الدافع الحقيقي وراء أفعالها إذًا؟
لم تستطع التصالح مع التناقض بين الصورة التي رسمتها عن إينو، وبين ما صدر عنها من أفعال. وهكذا ازدادت حيرتها.
“أتريدين أن تذهبي وتسأليها بنفسك؟ يمكننا التسلل إلى منزل الماركيز معًا.”
“…”
كانت ترغب في أن تمسكها من جوانبها وتصرخ في وجهها. لكنها في الوقت ذاته، كانت تخشى الحقيقة.
‘إذا علمت كل شيء، فكيف سأتصرّف بعدها؟ إينو، في نظري، امراة خبيثة شريرة لا تُغتفر. لكن إن كانت…’
كانت تخشى ما سيأتي بعد اكتشاف الحقيقة. لم تكن تملك الشجاعة لمواجهة إينو بعد أن تعلم كل شيء. فهل شعر ديلان بترددها؟ إذ وضع يده على كتفها وقال.
“ليس اليوم، في وقتٍ لاحق. حين يتوفر لنا الوقت، والهدوء، سنذهب حينها.”
“نعم، في وقت لاحق، لنذهب حينها.”
“إذن، بما أن وقت العشاء قد اقترب، فلنعد إلى المنزل. ديانا قالت إنها لن تجد وقتًا لتأكل، لذا علينا أن نأكل عنها أيضًا، أليس كذلك؟“
ديانا المسكينة كانت مشغولة تقفز من عمل إلى آخر، بدلًا من الإمبراطور المريض. في الأيام العادية، كانت لتمازحها قبل المغادرة، لكن اليوم ساورها شعور غامض بأن المزاح غير مناسب، فاكتفت بما سمعته وغادرت.
“أنا أنوي الشرب أيضًا. أمي أعطتني زجاجة منذ قليل. إن رغبتِ، سأشارككِ بكأس.”
“وايضاً. رغم أنني من العائلة الإمبراطورية، إلا أنني بارع في التوسُّل.”
نظرت إليه هيلي مستغربة، فأردف ديلان مبتسمًا.
“وخاصةً عندما يتعلق الأمر بالتوسل من أجل الحب. ألم أرجوكي ذات يوم في بلوتاروس أن تدلّليني؟ أتذكّرين كم كنت بارعًا؟“
تذكّرت تلك الأيام التي كانت فيها تطلب منه أن يداعب شعرها إن تصرف بلطافة. بل في بعض الأحيان، كانت تُلصق جبينها بجبينه لساعات.
“لا أذكر شيئًا من هذا.”
“إذًا سأُعيد لك الذاكرة عندما نعود للمنزل.”
فتبسمت هيلي بخفة أمام وقاحة ديلان، وهي تهز كتفيها وكأنها تدّعي النسيان.
وهكذا، سارا معًا على نفس الطريق الذي سلكته هيلي بمفردها منذ قليل، لكن هذه المرة… كانا معًا.
***
في استراحة قصيرة، جلست ديانا تحتسي القهوة، واستعادت في ذهنها ما حدث مؤخرًا.
حين التقت بإينو للمرة الأولى في غرفة الصلاة داخل المعبد، كانت قد أخبرتها عن الصندوق الذي يملكه الماركيز، وعن مخطط لاغتيال الأميرة الأولى.
ذلك الاعتراف المفاجئ جعل ديانا وكاليستو يتساءلان عن دوافع إينو. بل إنهم تمنّوا لو تمكنوا من فتح جمجمتها ومعرفة ما يدور في عقلها.
قالت إينو إنها ستهدي المعبد أصيص زهور ثمينًا قريبًا.
زهور رونيتيه التي اعتنت بها بإخلاص.
وقد أخبرتها أن في داخل ذلك الأصيص يوجد صندوق. لذا، في اليوم الذي وصل فيه الأصيص، فتّشت إيفيجينيا داخله وعثرت على الصندوق، وتأكدت من مطابقته لصندوق الماركيز والبابا، ثم سلّمته بسلامة إلى ديانا.
وكان ذلك اليوم الذي التقت فيه ديانا بإيفيجينيا، هو ذاته الذي زارت فيه إينو المعبد.
وحين أخبروها بأن الأميرة الأولى تصلي وحدها في غرفة الصلاة القديمة، اتجهت إلى هناك. حاول الكاهن منعها، لكنه أجابه.
“وما دخلي أنا؟ نعم، الغرفة متسخة قليلًا، لكنني أفضّل الأماكن الهادئة. أأُجبر على الذهاب لمكان آخر لأن صاحبة السمو هناك؟“
رأى الجميع ذلك استخفافًا بالأميرة، لكنه في الحقيقة، كانت تسعى إلى محادثتها.
اقتربت من ديانا، ولمّا رأت الصندوق في يدها، بان على وجهها ارتياح غريب.
“عثرتم على الصندوق إذًا.”
“نعم.”
استدارت ديانا ببطء نحوها، وتلاقت أعينهما. وبرقت خصلات شعرها الأحمر تحت الضوء الخافت. كانت تحدّق فيها بعمق بينما بدأت في محاولة فتح الصندوق.
ولمّا لم يمنعها كاليستو، اندفعت إينو نحوها في فزع، وأمسك بيدها لتمنعها من فتحه.
“ماذا تفعلين! ألم أقل لكِ إنه لا يجوز لكِ فتحه؟!”
“إذًا، كان الأمر حقيقيًّا.”
إيفيجينيا لم تكن تملك قوى مقدسة مثل البابا، بل كانت مجرد كاهنة لديها السمع، لذا لم تستطع التأكد من الصندوق سوى بالنظر. غير أن ديانا، بفضل ردّة فعل إينو، تأكدت من صحّته.
“…سموكِ لا تثقين بي إذًا.”
“الثقة العمياء أمرٌ غريب. فأنتِ زوجة ماركيز ترافيا، أليس كذلك؟“
ضحكت إينو بمرارة، وذاك التعبير لم يغادر قلب ديانا، بل ترسّخ فيه.
ثم طلبت شيئًا واحدًا.
أن تساعدها ديانا على الهرب مع ابنها إلى بلد آخر. ووافقت ديانا.
هيلي ستكرهها لاحقًا، لكنها لم تفكّر قط في طرد من أحضرت الصندوق بنفسها. بل إن إينو حتى أخبرتهم بخطة اغتيال الأميرة الأولى خلال مسابقة الصيد، بكل تفاصيلها!
وعندما سألوها عن سبب تسليم الصندوق، قالت.
“كان على علاقة مع ثيمستو، مساعدته. وعندما واجهته، قال لي. ‘أتظنين أن رجلاً خان مرة لن يخون ثانية؟‘، ومع ذلك ظننتُ أنني مختلفة. نعم، كنت مخطئة. أنا لستُ شخصًا نبيلًا، ولا قراراتي نابعة عن نُبل. ببساطة، أردت أن أتخلّى عنه قبل أن يتخلى عني.”
ربما كانت تلك الخيانة حقيقية، لكن ديانا لم تصدق أن هذا هو السبب الوحيد وراء انقلابها على الماركيز.
‘ثمّة شيء آخر، لا شك في ذلك.’
لكنها لم تحصل سوى على حدس، ولم تبدُ إينو مستعدة لإعطاء الإجابة الحقيقية.
تنهّدت ديانا وهي تحدّق في فنجان القهوة الفارغ، ثم التقطت القلم من جديد، وعادت إلى مراجعة الأوراق.
***
“كيف لي أن أنهي كل هذا!”
صرخت إيريس، وكانت على وشك أن تقذف بالكتاب من يدها، لكنها تراجعت حين أدركت أن الورق هشّ ومتآكل لا يحتمل.
في الغرفة الآن، كان هناك ستة أشخاص مجتمعين ينبشون بين الكتب العتيقة.
بحثًا عن سرّ الميثاق بين التنانين والبشر.
لقد قلبوا الكتب مرارًا، دون أن تنقص الكمية، ودون أن يعثروا على ضالتهم. وفي أثناء ذلك، كانت إيريس تمسح نظّارتها المغبّرة وهي تتمتم باسم ميتيس الغائبة.
“أين اختفت أختي؟ هي الأسرع في القراءة!”
كانت ميتيس تقرأ بسرعة مذهلة، لا قراءة سطحية، بل تحفظ النصوص عن ظهر قلب. لو كانت معهم لساعدتهم كثيرًا، لكنها لم تُرَ منذ أيام.
“قالت إن هناك مسألة لم تُحل في الوثائق التي قدّمتها سموك، فخرجت قبل أسبوع وما عادت، هااااه…”
لم تنهِ كاليستو كلامها حتى تثاءبت بكسل، فأجابتها إيريس بامتعاض.
“ما زالت تحقق خلف الأمير الثاني؟ لقد أُودِع السجن، فما جدوى التحقيق بعد ذلك؟“
“لكن إن كانت لديها أسئلة، فإنها لا تتوقف حتى تجد الجواب.”
ذلك الجانب منها كان مرهقًا، لكنه في الوقت ذاته، كان جوهر شخصية ميتيس.
وفي تلك الليلة المتأخرة، بينما كانت إيريس تشتكي، وكاليستو تتثاءب… كانت ميتيس تعود من الشرق على ظهر جواد.
ورغم أن جسدها المنهك بالكاد يحتمل، إلا أن الحماس كانت تتغلّب على التعب.
وبموجب الصلاحيات التي منحتها إياها ديانا، توجهت ميتيس مباشرة إلى السجن حيث يُحتجز المجرمون. لم تتردّد وهي تهبط درجات السجن المظلم، بل بدت متحمّسة.
كانت قد بلغت مرحلة التأكّد من نظريتها، ولم تُرد إخماد الحماس الذي يخفق في صدرها.
اخترق لحنها الأنفاس المتقطعة في السجن. حتى توقّفت أمام إحدى الزنازين.
نظرت إلى الداخل، ثم انحنت بأدب نحو من في الداخل وقالت.
“أُحيّ سمو الأمير الثاني. أنا ميتيس ماركونتي، من الجنوب.”
“وما الذي جاء بك لمقابلتي؟“
نظرت ميتيس إلى ثيسيوس بابتسامة ودودة. كان جسده مليئًا بالكدمات، ووجهه شاحبًا، وعيناه غائرتان.
‘من يراه يظن أنه تعرّض للتعذيب.’
لكن ميديا قالت إن الأمير الثاني جرَح نفسه وهو تحت تأثير الهلوسة. وحين ضعف إدراكه، تناول منوّمًا من يد ميديا دون أن يشكّ.
قالت له ميتيس، متجاهلة حذره.
“سمعت عن مغامرتك البطولية، ولم أستطع كبح حماسي، فجئت إليك.”
لا شك أنها لم تأتِ إلى هذا السجن وفي هذا الوقت المتأخر من أجل حماس فارغ.
راقبها ثيسيوس بعينٍ متوجسة، ولم تُبعد هي نظراتها عنه. التوتر بينهما ملأ الأجواء.
“القتلة الثمانية الذين أرعبوا الشرق… إنهم أنت، أليس كذلك؟“
“…”
“أليس كذلك؟“
في ظلمة الزنزانة، كان بريق عيني ميتيس كوميض البرق.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 63"