استمتعوا
قام ثيسيوس بفك الإطار الخلفي للوحة بحثًا عن مالكها الأصلي، وفي تلك اللحظة، سقطت ورقة خفيفة كانت مخبّأة خلف صورة ميديا.
لم يُعرِ الأمر اهتمامًا كبيرًا، بل اتجه مباشرة لقراءة اسم الرسّام الذي رسم اللوحة.
كان الاسم المكتوب هو أوينوني، وقد رُسمت اللوحة في ربيع العام 650. بقي ثيسيوس يتأمل الاسم الباهت طويلاً وكأنما يريد أن يحفظه في ذاكرته إلى الأبد.
‘ما هذا؟‘
لكي يُعيد الإطار إلى مكانه كما كان، انحنى ثيسيوس والتقط الورقة التي سقطت قبل قليل.
وكان مرسوماً عليها رجلٌ يعرفه ثيسيوس جيدًا.
وما إن التقت عيناهما، حتى ارتعشت حدقات ثيسيوس بعنف.
“ما هذا الهراء…”
ضحك ضحكة ساخرة لا تحمل مرحًا.
خلف صورة ميديا، كانت مخبّأة صورة للإمبراطور.
لماذا تحتفظ ميديا خفية بصورة الإمبراطور؟
‘هل كانت الصورة الظاهرة مجرد تمويه؟‘
ربما كانت تلك اللوحة واجهة تخفي خلفها حقيقة مشاعرها، لتتمكن، بعد أن خُلعت عن منصبها، من الاحتفاظ بصورة الإمبراطور بعيدًا عن أعين الناس.
سرعان ما تلاشى اسم أوينوني من ذهنه، ليحلّ مكانه اسم الإمبراطور الذي طغى عليه كطلاءٍ جديد.
“ما الذي تفعله؟“
عادَت ميديا إلى الغرفة في تلك اللحظة، ووقعت عيناها على الإطار في يد ثيسيوس. كان لا يزال شارد الذهن، غارقًا في التأمل في صورة الإمبراطور، حتى إنه نسي أن يخفي الإطار.
لم يُحاول تفسير أفعاله أو تبريرها بكلمات طويلة متعثرة، بل اكتفى بجملة واحدة.
“هل تُحبين الإمبراطور؟“
“…”
وساد الصمت.
لم يعتد ثيسيوس أن يرى ميديا مترددة في الرد، فاشتعل الغضب في صدره.
“ألم تسمعي سؤالي؟ هل تُحبين الإمبراطور؟!”
“وهل يهمك جوابي؟ لقد تمّ نبذي منذ زمن بعيد.”
اقترب منها ثيسيوس بخطى حادة، وما إن تراجعت خطوتين، حتى سقط الكوب من يدها بفعل الحركة المفاجئة، فصدر عنه صوت حاد. أسرع ثيسيوس إلى احتضانها ورفعها إلى الأريكة.
“لماذا؟ لماذا تُحبين الإمبراطور؟“
أخذ يُحقق معها بإلحاح، ثم مزّق صورة الإمبراطور بعنف. وكان سلوكُه هذا، الذي يُعاملها كمذنبة، غريبًا على ميديا ومثيرًا للشفقة في آن.
“لا أستطيع أن أستوعب ذلك أبدًا.”
“ولستُ مضطرة لإقناع الآخرين بمشاعري.”
نظرت ميديا إلى ثيسيوس الذي بدا غارقًا في الحزن، ثم أردفت.
“أنت أيضًا لستَ مفهومًا. لم أفهم قلبك يومًا، ومع ذلك ها أنت تأتي لرؤيتي.”
ثم أمسكت بذقنه بابتسامة خافتة، وكان لتلك الابتسامة الهادئة أثر بالغ، إذ سُلب ثيسيوس من كل إحساس.
عيناها الحمراوان اللتان بدتا كشمس مشرقة، كانت تشبه الشروق الذي كان يتمناه عندما هرب من فجرٍ كئيب.
رغم أن لمستها كانت باردة، خالية من الدفء، إلا أن عينيه رمشتا ببطء وكأنما في سُكر.
“الوقت متأخر، ألا تفكر في العودة؟“
“وماذا لو لم أشأ الرحيل؟“
“فلتبقَ إذًا، ألم تكن تنوي أن تفعل كل شيء كما يحلو لك على أي حال؟“
وقفت ميديا، وضغطت برفق على كتفه، ثم ناولته بطانية. أخذها ثيسيوس وهو يبدو مشوشًا وقال.
“تصرفك المفاجئ هذا، وكأنك صرتِ لطيفة فجأة، يُشعرني بغرابة.”
“فلنقُل إنه بسبب اكتشافك سرًا كنتُ أُخفيه طويلًا.”
“سيزول هذا السر، لأنني لن أسمح لك حتى بأن تتذكري لحظة واحدة من حبك للإمبراطور.”
قال ثيسيوس هذا، وأسند رأسه على وسادة وأغمض عينيه. كان يحب هذه اللحظة كثيرًا، حتى إن كل رغبة أخرى تلاشت. تمنّى لو يظل هكذا فقط.
أما ميديا، فجلست إلى المكتب، وأخذت تقلّب صفحات الكتاب الذي كانت قد أحضرته. وبينما كان يُسمع صوت الورق الخفيف، غرق ثيسيوس في النوم بسهولة مدهشة.
وما إن بدأ نَفَسُهُ المنتظم يملأ الغرفة، حتى التفتت ميديا ونظرت إليه، ثم عادت ببصرها نحو الإطار فوق المكتب. كانت لوحة أوينوني لا تزال سليمة.
كانت ديانا قد زارتها منذ أيام وقالت لها.
“بما أنكِ في صفي، كوني الأداة التي تفصل بين ثيسيوس والإمبراطور.”
لذا، طلبت ميديا من ديانا أن تُحضر لها صورة الإمبراطور.
تذكّرت ميديا كيف أن ثيسيوس في زيارة سابقة، كان يتأمل لوحة أوينوني باهتمام كبير.
وبالفعل، أعطتها ديانا الصورة، وفعلت ميديا ما طلبته منها.
جعلت ثيسيوس، الذي يكنّ لها مشاعر خفية، يظن أنها لا تزال تحتفظ بحنين تجاه الإمبراطور. لم تكن تحمل أي مشاعر إيجابية تجاه آيغِل، ولكنها فعلت ذلك.
لماذا؟
‘لأن ديانا يجب أن تصبح الإمبراطور.’
لكن ميديا لم تدعم ديانا حبًا بها ولا طمعًا في السلطة.
بل لأن ديانا وعدتها، منذ زمن، أنها إن أصبحت الإمبراطورة، فستحررها من الإقامة الجبرية. ولهذا تعاونت معها.
بزرع بذور الصراع بين ثيسيوس والإمبراطور، ستنال حريتها. وفي الوقت ذاته، ستُبعد اهتمام ثيسيوس عن أوينوني. وهكذا، كانت الخطة مربحة من كل جوانبها بالنسبة لميديا.
وراء هذا العناء، كانت الحرية في انتظارها. ولهذا، لم تعد تعدّ الزيارة الليلية المفاجئة مأساة، بل فرصة. ولم تعد البقعة التي خلفها جسد ثيسيوس على الأريكة تشوّهًا، بل نقشًا جميلًا.
***
تذكر آيغِل أبناءه بحزنٍ ثقيل.
ديانا وديلان، اللذان وُلدا من الإمبراطورة، ابتعدا عنه منذ زمن. وكان ديلان أكثرهم طاعة، لكنه تغيّر كثيرًا مؤخرًا.
كان ينوي أن يُقوّي علاقته بالمعبد من خلال تزويج ثيسيوس، عديم الأصل، بالقديسة، لكن الأخير لم يحتمل المشهد، وخطف القديسة.
‘ربما ديانا هي من أمرته بذلك.’
ديانا دائمًا ما كانت تتصرف بتعالٍ، ولم تكن تروق له قط. ولعل ديلان تأثر بها أيضًا، وانحرف عن الطريق.
أما روز، التي وُلدت من الأميرة إيترا من تالوڤ، فكانت تحب ديانا وديلان. وبما أن الإمبراطور أهملها، فقد كانت النتيجة متوقعة.
‘روز لن تفيدني كثيرًا على أي حال.’
كانت النبوءة تقول، إن الابن الأول من أميرة سيتحوّل إلى بطل. لكن روز لم تكن صبيًّا، لذا لم يُعلّق آيغِل عليها أي آمال.
وبينما استمرت علاقته بأبنائه في التدهور، ظهر فجأة ابنه الذي اصبح بطلًا.
لم يكن يعرف عن وجود ثيسيوس، لكنه كان مؤدبًا ومحترمًا.
كان فتىً مطيعًا، دائمًا ما يُشعره بالفخر. بدا وكأن الحلم الذي كان يراوده عن حياةٍ أسرية مثالية قد تحقق.
لكن…
‘أتقولون إن ثيسيوس أفضل مني؟!’
منذ أن سمع هذا، لم تعد إنجازات ثيسيوس تُبهجه.
الابن الذي كان ملاذه الوحيد في هذا القصر الجليدي، اصبح يهدد مكانته.
لكن آيغِل هزّ رأسه نافيًا.
‘لا، لا يمكن أن يكون كذلك. ثيسيوس ليس كديانا.’
هؤلاء الناس لا يعرفون شيئًا، ويعظمونه فقط لأنه بارع في القتال.
‘…ردة الفعل هذه لن تدوم، فلا تُلقِ لها بالًا.’
غير أن بذور القلق، التي لم يُدركها الإمبراطور حتى، كانت قد بدأت تنمو في قلبه.
***
في يومٍ عاصفٍ بارد، زارت ديانا المعبد برفقة كاليستو.
قالت إن السبب هو أن تُصلّي من أجل عودة شقيقها التوأم ديلان سالمًا من الحملة العسكرية. لكن في الحقيقة، كانت جاءت لرؤية إيفيجينيا.
سألت ديانا.
“أما زلتِ لا تعرفين شيئًا عن الصندوق الذي تحدثنا عنه آخر مرة؟“
“نعم. قالت هيلي إن به كوابيس، لذا بحثت جيدًا ولم أجد شيئًا. أظن أنه غير موجود هنا في المعبد.”
كانت إيفي تتصرف كجروٍ وجد صاحبه. لا بد أن لديها ذيلًا خفيًا يهتز من السعادة. وعندما ربتت ديانا على رأسها كمن يهنّئها، ابتسمت إيفي ببلاهة لطيفة.
“بالمناسبة، ماركيزة ترافيا كانت تزورنا كثيرًا مؤخرًا.”
“لتقابل البابا؟“
“لا، لم تفعل. كانت تأتي وتُصلّي بصمت، ولم تطل الحديث مع أي من الكهنة.”
فكرت ديانا قليلًا بعد سماعها هذه الكلمات.
‘قيل إن أحد الصندوقين مع الماركيز. فإلى أين ذهب الصندوق الذي يملكه البابا؟ لا أظن أن إينو هي من نقله.’
لم يكونوا يعلمون بعد أن ريكام في بلوتاروس هو من يملك الصندوق.
بعد أن غادرت إيفي، بقيت ديانا مع كاليستو في قاعة الصلاة. وفي ذلك الصمت المهيب، دخلت إينو.
وسرعان ما انتشر عبير العشب الطازج في الأرجاء.
نظرت كاليستو نحو إينو، وهمست لديانا.
“سموكِ، أظن أن الماركيزة ترافيا لا تكف عن التحديق بنا.”
“دعينا نُغمض أعيننا ونتظاهر أننا نُصلّي.”
“حسنًا، ولكني سأُصلّي بصدق هذه المرة.”
“ولماذا؟ ما الذي ستدعينه؟“
“سأدعوه أن يسمح لأبي، وهو في السماء، أن يراني وأنا أجتهد في حياتي.”
شعرت ديانا بشيء غريب في صدرها، وقالت بصوت خافت.
“كاليستو… والدكِ لا يزال حيًّا. بل وقطعتِ علاقتكِ به.”
“آه، اختلطت عليّ الأمور. من فرط الإرهاق، صرت أنسى كثيرًا مؤخرًا.”
“أراكِ تطلبين إجازة بطريقة غير مباشرة.”
وقبل أن تُكمل سخريتها، قاطعتها كاليستو.
“سموكِ، الأمر حقيقي. لقد التقت أعيننا للتو مجددًا.”
هذه المرة، التفتت ديانا أيضًا، وحدّقت في اتجاه الإحساس الذي شعرت به. والتقت عيناها بعيني إينو.
كانت إينو ترتدي طرحة بيضاء شفافة، لكنها لم تكن لتخفي نظرات العيون.
وما إن أنهت صلاتها، حتى تقدّمت ديانا ومدّت يدها.
“مضى وقت طويل سيدة ترافيا. أظن أن آخر مرة رأيتك فيها كانت في حفلة خطبة شقيقي.”
“صحيح. ولم نتمكّن من الحديث وقتها.”
كانت ديانا قد غادرت الحفل مبكرًا.
“لم يكن لديّ سبب لأمكث طويلًا، ولا لأُحادثك على انفراد.”
“وهل لديك سبب الآن؟“
“كنتِ تحدقين بنا كثيرًا.”
“لو كنتُ أعلم أن التحديق سيجعل سموكِ تُحادثيني، لفعلتُ ذلك منذ زمن. لم يكن لديّ الشجاعة للمبادرة.”
ضحكت إينو، واستمرّ الحديث بينهما على صفيحٍ ساخن.
كانت إينو تتحدث بصوتٍ نقيٍ كأنها تُغني، وأصغت ديانا لها بتركيز. ثم بدأت تتساءل إن كانت قد أساءت السمع… لكنها سرعان ما أدركت أنها سمعت جيدًا، وفوجئت بما قالت.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 59"