استمتعوا
ميتيس، إيريس، وتيتيس.
ثلاث أخوات كنّ قراصنة سابقًا وأصبحن من نبلاء تيلون، جلسن في غرفة ديانا يتناولن قطع السمك المجفف، وفي الوقت ذاته، كنّ ينهشن بالنميمة من غاب عن هذا المجلس.
“إذًا… هل تقولين إن الأمير الثاني يذهب سرًّا لمقابلة السيدة ميديا دون علم أحد؟“
“يا للعجب… يبدو أنه آن أوان موته. لا أقصد نفسي بالطبع، بل ذلك الأحمق.”
تغيرت ملامح ميتيس وتيتيس بامتعاض، بينما راحت إيريس، التي كانت تفرك ذقنها شاردةً، تطرح سؤالًا.
“ألّا تخبرين جلالته بعد، يعني أنّك تنتظرين اللحظة المناسبة لتفجير الأمر، أليس كذلك؟“
“نعم.”
“همم… في تلك الحالة، ما رأيك أن نبدأ نحن بإشعال النزاع بين الاثنين؟“
“وكيف سيكون ذلك؟“
تحوّل انتباه الحاضرات من قطع السمك المجفف إلى إيريس. لم تكن إيريس تهتم كثيرًا بفقدان الأضواء، لكنها تحدثت بوضوح وثبات، إذ لم يكن هناك شيء أمتع من رؤية أعدائها يتفككون ذاتيًا بعد انهيار الثقة بينهم.
“علينا أن ننشر إشاعة تزعج جلالته بشدة. أنتِ تعلمين جيدًا، أيتها الأميرة، أي نوع من الأبناء يحذرهم جلالته.”
فجاء الجواب فورًا.
“جلالته لا يحبّ الابن الذي يتفوق عليه. وإن لم يُظهر طاعته، فإنه يكرهه أكثر.”
وفي تلك اللحظة، ومضت في ذهن ديانا ذكرى قديمة…
ذلك اليوم حين نجحت الصغيرة ديانا في أداء طقس معقد لم ينجح فيه الإمبراطور عندما كان أميرًا. ظنّت أنها ستنال فخره، لكن نظرة الإمبراطور آنذاك… كانت غارقة في الحسد. نظرة لم تُمحَ من ذاكرتها، أقوى من أبيات القصيدة التي ألقتها في ذلك اليوم.
‘كنت أظن أنه سيفتخر بي.’
تبدّل علاقتها به منذ ذلك الحين كان دليلًا قاطعًا، فقد كان الإمبراطور يشعر بالنقص أمام ابنته التي تنجز ما عجز هو عنه.
حين سمعت إيريس الإجابة التي أرادتها، ابتسمت ابتسامة ساحرة، بدت فيها شامة أسفل عينها أكثر بروزًا. أدركت تيتيس الخطة وقالت بانفعال.
“آه! فهمت الآن!”
تقاطعت ذراعا إيريس وقالت: “هيّا، دعينا نسمع ما لديكِ.”
ابتلعت تيتيس ما تبقى من قطع السمك، ثم شبكت يديها ككاهنة تتلو نبوءة وقالت بجديّة.
“نطلق إشاعة تقول. ‘الابن يتفوّق على أبيه‘. شيء من هذا القبيل، أليس كذلك؟“
“بالضبط.”
ربّتت إيريس على رأس أختها، وكأنها تقول. “يا لمفاجأتي، لقد استخدمتِ عقلكِ أخيرًا.”
الإمبراطور يحبّ ثيسيوس، ولكن بشرط واحد. أن يكون حبه له غير ضارّ بمكانته كإمبراطور.
ثيسيوس يتقن فن المبارزة أكثر من والده، ومع ذلك، لم يشعر الإمبراطور بغيرة منه لأنه لم يكن يشكّل تهديدًا له.
كان الابن الطيب، الطاهر، المطيع الذي يُفتخر به أمام الناس. ولهذا، أحبه الإمبراطور. لكن ثيسيوس، عمّا قريب، لن يبقى ذلك الابن المثالي.
“بمجرد أن تصل تلك الشائعة إلى آذان جلالته، نمنحه بعض الوقت ليغلي الغضب في صدره، ثم نكشف عن زياراته المتكررة للسيدة ميديا.”
كأنها تقول: دعوه يتغذى على شعوره بالنقص حتى ننقض عليه في اللحظة الحاسمة.
“لنوفّر كل أدوات الاستغلال الممكنة.”
“بما في ذلك والدتي.”
ضحكت إيريس بمرح. لم تكن سمعتها بأنها تثير الفتنة أينما حلّت إلا انعكاسًا صادقًا لطبيعتها.
بينما كانت إيريس تنسج خططها، انفجرت كاليستو غاضبة وهي تتحدث مع تيتيس عن الأمير الثاني.
“من المستحيل أن يكون ذلك الوغد بطلًا!”
وفي اللحظة ذاتها، التقت أعين ميتيس وديانا.
“لا تقولي إنك تشكين فيه؟“
“ألم يُهلكنا الظن مرارًا؟“
لم يكن في طبيعة ميتيس ترك الأسئلة بلا أجوبة. لذا توجهت مباشرة إلى ديانا بالسؤال.
“هل احتفظتِ بمعلومات عن الأمير الثاني؟“
“في الدرج الثاني.”
أخرجت ميتيس مجموعة من الوثائق وابتسمت برضا.
كل تلك الأوراق المثقلة بالأسرار… لا بد أن إجاباتها المعلّقة مخبأة بينها. ارتدت ميتيس واقية الإصبع بفرح، مستعدة لاكتشاف الحقيقة.
***
في ساعة متأخرة من الليل، تذكّر ثيسيوس حواره الأخير مع الكونت هيريل.
“إن غيابي عن الأميرة لم يكن بسبب الكره، بل لأني أخجل من نفسي.”
سمع أنه فقد ابنه مؤخرًا، ومع ذلك لم يبدُ عليه أي غضب تجاه الأميرة. لم يستطع ثيسيوس فهم هذا الرجل. بل رآه منافقًا ومثيرًا للاشمئزاز.
فكّر ثيسيوس.
‘تظن أن هذا ولاء؟ كلا. أنت واهم.’
لم يكن الكونت يملك شجاعة مواجهة الأميرة، لذا أسقط خطيئته على نفسه. يا له من جبن!
“ولكن، يا كونت… إن لم يحتضن الاب حتى ابنه، فمن سيفعل؟“
“أنا لا أريد أن أحتضن مجرمًا. هذا تصرف غبي وغير أخلاقي. لقد ارتكبت حماقة مرة، ولن أكررها.”
أغمض ثيسيوس عينيه وهو يستعيد حواره مع الكونت. تمنى أن يفتح عينيه صباحًا، لا فجرًا.
لكن، كعادته، خذلته أمانيه.
حلم.
رجل في الحلم أحبّ شخصًا بعمق، ثم كرهه بشدة. وبعد سنوات من الغبطة، وجد نفسه يبكي وهو ينظر إلى يديه الملطختين بالدماء.
ركض وراء عربة طائرة، ينادي اسمًا بكل صوته، لكنه لم يتلقَّ أي رد. سائق العربة لم يلتفت إليه، بل مضى وتركه خلفه.
“أرجوك…!”
مدّ يده في الهواء، يحاول الإمساك بمن لا يمكن الإمساك به… ثم استيقظ.
لهاثه الثقيل كان أول ما سمعه، فنظر إلى الساعة وضحك بسخرية.
وكأنه عاش عمرًا في الحلم، بينما عقارب الساعة أشارت إلى الثانية والنصف فقط.
حاول ثيسيوس أن يستجمع أنفاسه، لكنه لم يكن يستحق ذلك.
فما إن تنفّس، حتى خرجت من ملابسه حشرات تزحف.
“ها… هاها…!”
راح يبكي ويضحك وهو يراها تزحف على سريره، ثم فرّ هاربًا من الغرفة، لا تردد في خطاه.
فمنذ أن وُلد مجددًا، كان يعرف وجهته جيدًا.
***
ميديا كانت تتمنى لو تعود خمسة وعشرين عامًا إلى الوراء، إلى ما قبل أن تصبح أمًّا.
لكن العودة بالزمن أمرٌ مستحيل.
وما توصّلت إليه بعد سنوات، هو طريقة واحدة فقط.
فتح بوابة إلى بعدٍ آخر، تتصل بزمن قبل خمسة وعشرين عامًا.
‘البُعد الذي ذهبت إليه عمّتي ذات مرة.’
لو نجحت، فستستعيد قواها السحرية.
رغم أن نسبة النجاح ضئيلة، لم تكن ميديا لتُفوّت هذه الفرصة.
كان عليها أن تحاول قبل أن تتخلى.
كانت الساعة متأخرة، لكن ميديا، التي انقلب ليلها نهارًا، لم تكن تنوي النوم.
أخذت معها ثلاثة كتب من مكتبتها، ونزلت الدرجات.
‘سأضع الكتب في الغرفة وأعدّ كوبًا من الشاي.’
عدد من يخدمونها في فترة خلعها قليل، ولم يكن أحد مستيقظًا، لذا كانت تقوم بأعمالها بنفسها، وهو ما لم يزعجها على الإطلاق.
بعد قليل، عادت إلى غرفتها، ولكن تنهيدتها العميقة كشفت عن انزعاجها.
فقد كان هناك رجل جالس على الأريكة دون سابق إنذار.
عيناه المختلفتا اللون حدّقتا بها.
ارتجف ثيسيوس عندما سمع صوت تنهدها، كما لو أنه رعد يهوي على جسده.
“ألم أخبرك أن تأتي بعد أن تعلمني؟“
“…آسف.”
نهض ثيسيوس ودفن وجهه في كتفها، وبدأت دموعه تتساقط، حتى شعرت بثقل البلل في ملابسها.
“أعلم أني كنت السبب… لكن ألا يمكنكِ فقط أن تتذكريني؟ أتوسل إليكِ.”
أبعدت ميديا رأسه ببطء. كان وجهه وذراعاه مليئَين بخدوش.
“أنا حقًا لا أعرفك.”
“بل تعرفين.”
هزّ رأسه وهو يبكي بحرقة.
“أنت فقط… لم تستعيدي ذاكرتك بعد.”
نظرت ميديا إلى عينيه المضطربتين، وفكرت.
‘عليّ أن أبدّل ثيابي لاحقًا.’
ثم خطر في ذهنها شيء، فسألته.
“ما الذي يفترض بي أن أتذكره؟ لا أستطيع أن أفهم. مهما حاولت، لا أذكر أنني التقيت بك.”
لكنه لم يجب، فقط تابع البكاء.
كانت قد ملت من هذا الإلحاح الذي لا يحمل أي توضيح. بل بدأت تنفر من الفكرة، ولم تعد ترغب في تذكر شيء.
مع ذلك، كبحت ميديا نفورها وتكلّفت الحنان.
“سأعدّ الشاي، انتظرني.”
“لا حاجة لي به-“
“أنا من سيشرب. إن لم تكن تريد، فانتظر.”
“حسنًا…”
تركت الغرفة لتحضّر الشاي لنفسها، بينما كان ثيسيوس ينظر إلى ظهرها ويبتسم.
‘كما توقعت، قدومي كان صائبًا.’
استعاد هدوءه في لحظات، ثم طاف بعينيه في أرجاء الغرفة، حتى وقع بصره على لوحة كان قد رآها من قبل.
صورة ميديا في شبابها. كانت تعتز بمن رسمها كثيرًا.
اقترب ثيسيوس منها بهدوء.
‘لابد أن اسم الرسام مكتوب خلفها.’
أراد أن يعرف أول شخص فتح له قلب ميديا.
‘ديانا؟ ديلان؟‘
من يكون يا ترى؟
كان يريد أن يكتشف ذلك، ليقضي عليه دون أن تعلم ميديا.
وحين أمسك بالإطار، وبدأ يفكّ قفله، لم يخفِ إصراره، بل كان واضحًا كالشمس.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 58"