استمتعوا
في داخل الدفيئة الدافئة، كانت إينو منغمسة في عمل إعادة غرس النباتات.
أمامها، وقد ارتدت قفازات البستنة، وُضِعَت أصيصات من زهور رونيت النادرة التي لا يُرى لها مثيل كثيرًا في هذا المكان.
إنه الوقت الوحيد الذي لا يعكّر صفوه أحد.
فـإينو هي الإنسان الوحيد في هذا المكان. وفي غفلة من أعين الرقباء، دسّت شيئًا مغلّفًا بالقماش عدة مرات داخل الأصيص الكبير.
وبملامح هادئة مطمئنة، شرعت بسكب التربة فوقه. وعندما انتهت من عملها، أعلنت أمام الخدم أنها ستتولى العناية بهذه الزهرة النادرة بنفسها.
كأنما تحذير مبطن، إن امتدت يدٌ إليها فأزهقتها، فلن تُسامَح أبدًا.
***
الساعة الثانية فجرًا.
فتح ثيسيوس عينيه مع طلوع الفجر، وراح يتحسس السواد الذي تراكم تحت عينيه. كانت آثار الأرق الذي لازمه طوال الأيام الماضية بادية للعيان.
كان مظهرًا لا يسره ولا يريد لأحد أن يراه. تنهد تنهيدة مثقلة بالإرهاق، وما إن حاول العودة للنوم، حتى وقعت عيناه على ما كان لا يرغب برؤيته.
زحف حشرة صغيرة على أطراف أصابعه التي كانت تلامس وجهه قبل قليل. فقتلها بضغط خفيف بين إصبعيه، ولكن سرعان ما تحركت أخرى على ذراعه الأخرى.
كانت الحشرات تعبث بجسده كأنما هو مرجٌ أخضر تتراقص فيه بحرية. وكلما رآها، بدا وكأن عددها يتكاثر، حتى بات قاب قوسين من الجنون. غسل جسده مرارًا وتكرارًا، ولكن دون جدوى.
“……العدد بات يفوق الاحتمال.”
لكن، لمن يبوح بهذا؟!
الخدم لم يكونوا يرون تلك الحشرات. كانت لا تظهر إلا له وحده. ولم يكن في مقدوره أن يصرّح بذلك. إذ ما الفائدة من أن يُقال إنه يرى خيالات؟!
حكّ ثيسيوس موضع الحشرات لا إراديًا، فتركت أصابعه خلفها خطوطًا حمراء على بشرته.
***
بعد الغداء، تجولت ديانا في الحديقة برفقة كالّيستو. كانت تلك الحديقة هي ذاتها التي اكتشفت فيها سر ميديا قبل أعوامٍ مع ديلان. وهناك، وجدتا ضيفًا غير مرغوب فيه.
“آه، ما الذي يفعله هنا…؟“
“اطرديه. جلالتك تستطيعين فعل ذلك بسهولة.”
رأت ديانا ثيسيوس، فتبدّل تعبير وجهها بانزعاج، بينما كانت كاليستو، التي وقفت خلفها، تُبدي رغبتها بالعودة إلى القصر منذ اللحظة الأولى.
“صباح الخير، ديانا.”
“على ما يبدو، صباح الخير لي وحدي.”
“ماذا تعنين؟“
مال ثيسيوس برأسه متصنعًا البراءة، بينما تصرّفت ديانا كأخت حنونة قلقة على أخيها، تمعن النظر في وجهه.
“تبدو شاحب اللون، هذا كل ما في الأمر.”
“آه، لم أنم جيدًا الليلة الماضية.”
وكان مظهره يؤكد ذلك بلا شك؛ الهالات السوداء تحت عينيه كأنما إعلان صريح عن الأرق.
“كن حذرًا. الناس قد تسيء الفهم، وتظن أن الأمير الثاني يُعاني من أزمة نفسية لأنه وقع في غرام امرأة أخرى رغم خطوبته الأخيرة.”
ومع أن تعليق ديانا كان ساخرًا ساذجًا، إلا أن ثيسيوس ابتسم كأنه مستمتع بالحديث.
“هل أنتِ قلقة علي؟ أنا ممتن حقًا، ديانا.”
“بالطبع. فالعائلة لا تُعوّض، أليس كذلك؟“
ربّتت ديانا على كتفه تشجيعًا، فأجاب ثيسيوس بصوت كأشعة الشمس.
“نعم. لقد نشأتُ وحيدًا، وكنت أحسدكم دومًا على وجود إخوة وأخوات يُمكن الاتكال عليهم.”
“هل هذا كل ما تحسدنا عليه؟ يبدو لي أن هناك أكثر من ذلك.”
‘هل تقصدين أننا جميعًا من سلالة الإمبراطور، ورغم ذلك نشؤوا في أحضان القصر بينما لم يحظَ هو بذلك؟‘
هذا ما خمّنه ثيسيوس. لم يكن يظن أنها تسأله عن غيرة تتعلق بحب الأب، فالعلاقة بين التوأم والإمبراطور لم تكن على ما يُرام.
لكن، ما قالته ديانا بعد ذلك فاجأه.
“مثلاً… وجود الأم.”
“……ماذا؟“
ولأول مرة، تحطمت ابتسامة ثيسيوس وهو يحدق في ديانا. أما هي، فبقيت بوجهها الهادئ تضيف شرحًا، وعيناها تُثبتان على ملامحه المرتبكة.
“سمعت أن والدتك توفيت في وقت مبكر. اعتقدت أنك قد تحسدنا على هذا.”
“آه… هكذا إذاً.”
“هل كان في كلامي ما قد يُساء فهمه؟“
“لا. إنما غبائي منعني من فهم مقصدك منذ البداية. فقد أمضيتُ وقتًا طويلًا بعيدًا عن القصر، كما تعلمين.”
كانت ديانا تكره هذا التبرير الممل، “نشأت خارج القصر“، لكنها صبرت على كرهها.
ولحسن الحظ، لم تتفوه بما فكرت فيه،
‘فلماذا لا تعود إلى هناك إذًا؟‘
ظهر خادمٌ يهمس شيئًا في أذن ثيسيوس. إشارة إلى أن هذا اللقاء البغيض شارف على الانتهاء. وكان هو أول من ودّع.
“لقد تأخر الوقت. عليّ الذهاب، لدي موعد مع الكونت ‘هيريل‘ .”
“حسنًا، لا تُثقِل معدتك.”
وما إن توارى ثيسيوس عن الأنظار، حتى سألت كاليستو.
“سموكِ، هل التقيتِ بالكونت هيريل مرة أخرى بعد ذلك اليوم؟“
ذلك اليوم… الذي أطلق فيه أحدهم على أكتايون بعدما تجسس على ديانا ورفيقاتها وهن يستحممن، حاملًا سكينًا بيده.
“لست أذكر.”
رفعت ديانا كتفيها متأملة ذلك الربيع. لم تندم قط على ما فعلته بـ أكتايون.
***
كانت ميديا قد أمرت ثيسيوس بلُطف مشوب بالحزم أن يُبلِغها مسبقًا بنيته في زيارتها. ولحسن الحظ، كان يلتزم بذلك بانتظام.
ورغم أنه صرّح بأنه تخلّى عن رغبته في نيل رضاها، فإن تصرفاته كانت تقول عكس ذلك.
فحتى بعد مرور كل هذا الزمن، لا يزال يتوق في قرارة نفسه لأن تنظر إليه كما كانت من قبل، ويستعيد دفء الذكريات التي جمعته بها.
كان يُرسل لها خطابات يُعلمها فيها بنيّته القدوم، وكانت تحتفظ بها. وما إن تتراكم تلك الرسائل، كانت ميديا تسلمها إلى ديانا.
عادت ديانا وكاليستو من نزهتهما إلى القصر، وهناك رأتا رزمة من الخطابات سلّمتها ميديا إلى ديانا، جميعها من ثيسيوس، واشمأزّ الاثنان حين قرأا محتواها.
“ما الذي يدفع هذا الوغد لزيارة امي بهذا التكرار؟!”
“بل يبدو أنه يراها أكثر من جلالته.”
كان يزورها كل ثلاثة أيام أحيانًا، وأسبوعيًا أحيانًا أخرى. لم تكن ديانا على علم بهذا التكرار المزعج، فاستبدّ بها الارتباك.
“لكن، ما الذي يمكن أن يتحدثا عنه؟“
“هذا ما يُثير فضولي أيضًا. جلالتكِ لا تُطيلين الحديث مع ميديا. تسألان وتجيبان، وينتهي الأمر.”
فالحوار الحقيقي هو تبادل الحديث، لكن حين يتأمل المرء ميديا وثيسيوس، لا يخطر بباله أن بينهما ما يستحق الحديث.
‘ألعله يتحدث وحده فقط؟‘
لكن، لو كان ذلك، فلماذا يأتي أصلًا؟
إذا كان يقصد جمع المعلومات، ولا تجيبه ميديا، فما فائدة زيارته؟ وإن كان فقط بحاجة للثرثرة، فليحدث أصيص الزهور!
لم تفهم ديانا وكاليستو سر زيارته لها خلسة.
تساءلت كاليستو.
“هل جلالتكِ واثقة أن السيدة ميديا لم تلتقِ بالأمير الثاني من قبل؟“
“نعم. ومع ذلك يتصرف كما لو كان يعرفها منذ زمن.”
في الحقيقة، ميديا لم تلتقِ به سابقًا. ومنذ أول لقاء بينهما، كانت تُنكر ذلك جازمة.
كما أن الشكوك التي راودت الناس عند ظهوره في القصر، بأن ميديا ربما قتلت والدته، لم تكن سوى ظنون باطلة، لأنها لم تكن تعرف أصلاً بوجوده. علمت لاحقًا من ديانا فقط بكونه ابنًا غير شرعي للإمبراطور.
“إن كان كذلك، فكونه رآها بضع مرات لا يُبرر هذا التعلق العجيب.”
“تمامًا. ردة فعله كانت غريبة أيضًا عندما تحدثتُ عن الأم في الحديقة.”
فمتى وأين التقى ثيسيوس بـ ميديا؟ حين كان لا يزال طفلًا يحبو، كانت ميديا قد أصبحت إمبراطورة بالفعل، ولم تكن تخرج كثيرًا من القصر.
‘وإن خرجت، فربما زارت قصر الماركيز أحيانًا. أما صديقتها التي تُدعى أوينوني، فهي تقيم في بلاد أخرى.’
“هل تعتقدين أن الإمبراطور ما زال يجهل تصرفات الأمير الثاني؟“
“أجل. سأُطلع دوق كريت عليها قريبًا.”
لقد تم استبدال الحرس على باب ميديا بأشخاصٍ من أتباع منزل تان، وتم إسكات ألسنة الخدم. فلا أحد يعلم بزيارات ثيسيوس سوى قلة قليلة.
ولم يكن آيغيل ليتصور قط أن ثيسيوس، بعد أن سُمح له بلقاء ميديا رسميًا، لا يزال يتسلل لزيارتها سرًا.
‘لا يجب أن تصل هذه الأنباء إلى مسامع والدي بعد.’
ففي الوقت المناسب، حين تزداد شكوك الإمبراطور تجاه ثيسيوس، ينبغي تسريب الخبر كي ينفجر غضبًا.
“سموكِ، اللورد ماركونتي جاءت مع أخواتها لزيارتك.”
بينما كانت ديانا تتحدث مع كاليستو، حلّ وقت الموعد مع الأخوات تيتيس.
“هل جلبن معهن شيئًا لذيذًا؟“
وبين لحظة وأخرى، انقشعت الجدية عن وجهي ديانا وكاليستو، وعادتا تضحكان كما لو كانتا على وشك الذهاب في رحلة بحرية.
صرخت تيتيس من الخارج، الطفلة التي لم تكبر رغم سنواتها.
“أحضرنا سمكًا مجففًا! افتحوا الباب!”
وسألت الكبرى ميتيس.
“هل السير كاليستو بالداخل؟“
وحين تلقت الجواب بالإيجاب، تمتمت وهي تتنهد.
“تبًا، إن كانت هنا فلن يكفي… كان ينبغي أن نشتري المزيد.”
عندها، بدت على كاليستو ملامح الذهول والتهكم معًا.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 57"