استمتعوا
“لأنّه لا يريد لتلك الذكرى أن تبقى، فقد اختار أن ينساها. لعلّه رأى أنّ النسيان أهون من أن يُثقل قلبه بما لا يُحتمل. ويبدو أنّ سموّ الأميرة قد ارتأت أن ذلك هو الأفضل.”
“…أجل، أجل هكذا كان الأمر.”
ابتسم ديلان وهو يستحضر وجه شخصٍ ليس في هذا المكان،
لكنه الأقرب إلى قلبه، ثم طأطأ رأسه ومسّد شعره بحرج.
“ولكن… هذا محرج أكثر مما تخيلت.”
ما خطر في باله كان ماضيه حين انفجر بالبكاء وهو يصرخ.
لماذا أنقذتني؟ مما جعله يبتسم خجلاً من شدة الحرج الذي شعر به حين استعاد تلك اللحظة.
“حين أعود، سأحسن معاملة ديانا حقاً. لقد أنقذت حياتي، فماذا يمكن أن أبخل به عليها؟“
كانت تلك الكلمات، ‘طالما وُلدت، فعِش جيدًا.’ ، قد رافقته وأمدّته بالقوة طيلة سنين.
ديلان، وبعد مضي ثمانية أعوام، تمكن أخيرًا من التعرّف على قائل تلك الكلمات التي رسخت في أعماقه.
‘…لم أكن أعلم أن الأدميرال ماركونتي وحتى كاليستو كانا على علم بكل هذا. لا عجب أن الأدميرال كانت تراني ضعيفًا.’
تيتيز كانت كثيرًا ما ترفعه عن الأرض، ثم تندهش من خفة وزنه وتعبّر عن ذلك باستياء. طبعًا، لم تكن تعلم أن محاولة انتحار ديلان هي السبب. ديلان نفسه لم يكن يدرك العلاقة بين الأمرين.
وبينما هو يصل إلى استنتاجٍ عبثيّ، بدأ جسده يستعيد لونه تدريجيًا.
ذلك الجسد الشفاف قليلًا عاد إلى هيئته الأصلية.
فنظر ديلان إلى يده وتنهد بارتياح.
وما إن تبدّلت المساحة التي كانوا فيها، حتى عاد الضباب الأبيض ليغمر المكان. ولم تستغرق ليلا وسيلين وقتًا طويلًا حتى عثرتا على هيلي وديلان، والفضل في ذلك يعود لشعرة موري المربوطة بإصبع هيلي.
“لم يتبقَّ سوى أن نخرج ذلك اللعين، راكام، معنا.”
قالت ليلا، وملامح الاشمئزاز ترتسم على وجه هيلي.
وكذلك كانت ملامح سيلين القريب منها.
‘آه… أود لو أتركه خلفي.’
بصدق، لم تكن هيلي ترغب في إخراج راكام معهم. لم يكن هناك شيء فيه يدعو للإعجاب. كان من الأفضل له أن يظل يبكي طوال حياته في هذا الكابوس.
‘لكن… إن كنا سنرسله مع البابا كصفقة واحدة، فلا بد من أخذه.’
وصل الثلاثة إلى مكان كرهته هيلي بشدّة.
“أليس هذا… المعبد؟“
“قبل مجيئه إلى بلوتاروس، كان راكام في معبد العاصمة. يبدو أنه شهد شيئًا مروعًا هنا.”
نظرًا لكبر مساحة المعبد، قرر الأربعة الانقسام للبحث عن راكام. ذهب ديلان مع سيلين إلى الجهة الشرقية، بينما توجهت هيلي مع ليلا إلى الجهة الغربية.
واستعادت هيلي ذكرياتها عن فترة وجودها في المعبد علّها تجد دليلًا يساعد في البحث عن راكام.
‘همم… كوابيس المعبد، أظن… بالنسبة لي، كانت أثناء أوقات الصلاة؟ هل أذهب لغرفة الصلاة؟ لا، لا ينبغي أن أفكر من منظوري الشخصي.’
توقفت هيلي وقد همّت بالتوجه نحو غرفة الصلاة، ثم هزّت رأسها.
كان عليها أن تفكر فيما كان كابوسًا بالنسبة للكهنة الآخرين، لا لها فقط.
‘بالنسبة لي، كانت فترات التأديب أشبه بإجازة، لكن الكهنة الآخرين لم يكونوا يرونها كذلك.’
فالعقوبات كانت تؤثر على الترقية، ولهذا كانت مصيرية للكهنة.
“ربما تعرّض راكام لعقوبة أو تم تأديبه.”
“إذن علينا التوجّه أولًا إلى أماكن إقامة الكهنة. وإن لم نجده هناك، نبحث في الزنزانات المنفردة.”
كان كل من السكن والزنزانات قريبتين من المكان الذي كانت فيه هيلي وليلا.
وبينما كانتا تتجولان في أرجاء المعبد الخاوي، عثرتا على راكام في إحدى الزنزانات، يتلوّى من الألم. ونظرتا إليه بعينٍ مملوءة بالشفقة والاستهزاء.
“ما هذا بحق السماء… أهذا هو كابوسك؟“
ضحكت هيلي بسخرية من فرط دهشتها.
صحيح أن الكوابيس تختلف من شخص إلى آخر. فهي تجربة فردية بطبيعتها. فما قد يكون مأساة مروعة لشخص، قد لا يعني شيئًا لآخر.
فلربما كان أسوأ يوم في حياة أحدهم هو اكتشاف أن عائلته قُتلت أثناء خروجه للتسوق، بينما أسوأ يوم لشخص آخر هو إسقاطه زجاجة نبيذ اشتراها بثمن باهظ قبل أن يتذوقها.
لكن مع كل هذا، كان كابوس راكام سخيفًا للغاية.
كان كابوسه هو اليوم الذي تلقّى فيه خبر نقله إلى بلوتاروس. والسبب؟ أنه كُشف أمر اختلاسه لأموال التبرعات في المعبد!
ضغطت ليلا على أسنانها غيظًا وهي تحدق فيه.
“بصراحة، هذا يثير الغضب.”
“أنا… أنا لم أختلس شيئًا، ومع ذلك، كانوا يعاملونني في المعبد وكأنني أحد الفاسدين. لا أفهم السبب.”
كل ما فعلته هيلي هو الاعتراض قليلًا على بعض الأوامر الفوقية.
‘لو كنت أعلم، لارتكبت شيئًا كبيرًا أنا أيضًا…’
ما كان يؤلمها أكثر هو أنها لم تحصل على فلسٍ واحد مقابل بيع لوحاتها التي رُسم فيها وجهها.
وعلى عكس هيلي وليلا، اللتين كانتا تبثّان برودًا كشتاء قارس،
كان راكام الشاب يبكي بحرقة لسماعه خبر إرساله إلى بلوتاروس.
“لماذا عليّ الذهاب إلى ذلك المكان القذر…؟ لماذا أنا بالذات!”
“أتظن نفسك الوحيد الذي يكره بلوتاروس؟ بلوتاروس أيضًا تكرهك!”
صاحت ليلا بفقدان تام للأعصاب بعدما أهان راكام موطنها الثاني. أما هيلي، فغرقت في أفكارها وهي تنظر إليه.
‘إذًا البابا استغل يأس راكام في هذه اللحظة وزرع فيه بذور الخيانة ليستخدمه كجاسوس في بلوتاروس.’
من المؤكد أن راكام شعر بفرحة غامرة لاحقًا. كان يظن أنه سيقضي عمره في ذلك المنفى، وفجأة جاءه البابا بمهمة خاصة.
لكن في هذا الحلم، لن يرى أحد ذلك المشهد.
‘بما أن راكام سيفرح بتنفيذ أوامر البابا، فلن يعود هذا الحلم كابوسًا بعد تلك النقطة.’
ولهذا اقتصرت كوابيس راكام فقط على ذلك الزمن… لحظة سماعه قرار الإرسال إلى بلوتاروس.
***
في الجهة الشرقية.
بينما كان ديلان وسيلين يبحثان عن راكام في غرفة التأمل،
وجدا نفسيهما أمام غرفة البابا دون أن ينتبها.
“لا يبدو أنه هنا أيضًا. ربما يكون في الجهة الغربية مع سموها.”
وبينما كان ديلان يتفحص الغرفة، لاحظ أمرًا غريبًا.
‘هناك ريح…؟‘
رغم أن جميع الأبواب والنوافذ كانت مغلقة، إلا أن الستائر كانت ترتعش بخفة. وفي لحظة رمش عينيه، شعر بقطرة ماء باردة تلامس خده.
مسح خده واقترب من مصدر الريح.
‘من المؤكد أن الماء جاء من هذه الجهة…؟‘
كلما اقترب من المرآة الموجودة داخل الغرفة، اشتدّت الريح.
وإزاء هذا الأمر الغريب، مدّ يده نحوها. وفجأة…
“انتظر—!”
جُذب ديلان إلى داخل المرآة في لحظة!
“لا… سموك…!”
ركض سيلين نحوه محاولة الإمساك به، لكن أصابعه لم تمس سوى الهواء…
***
“حسنًا… لنبدأ الآن.”
عندما أومأت هيلي برأسها، ربّتت ليلا على كتف راكام بمقبض سيفها. لم تكن تريد لمسه بيدها المجردة.
نظر إليهما راكام بذهول، وكأنما لا يصدق وجودهما أمامه.
فقالت ليلا وهي تتظاهر بفحص وجهه.
“ما رأيك؟“
“لا شك، هذا هو راكام الذي كان في بلوتاروس.”
بمجرد سماعه ذلك الاسم، عاد إليه وعيه. أدرك أنه في حلمٍ مستمد من ماضيه، فتشظّى كيانه بين الحاضر والماضي.
حدّق في وجه ليلا، وقد أصابه الذهول.
لكن ليلا تظاهرت بعدم ملاحظته وتحدثت إلى هيلي.
“هل نأخذه معنا من هذا الحلم؟“
“لا حاجة لذلك. هذا الوغد لا يستحق الخروج، فليمت هنا وحسب.”
“إذن، دعينا نغادر. لا ينبغي البقاء في هذا المكان.”
“أجل. حان وقت الالتحاق بسموّ الأمير.”
‘هل… هل أستطيع الخروج؟‘
اتسعت عينا راكام بعد أن أدرك مغزى الحديث.
“مـ، مهلًا! هل يمكنني الخروج حقًا؟!”
“بالتأكيد. سموّ الأمير وجد طريقة لإخراجنا جميعًا.”
وما إن أنهت ليلا حديثها حتى تشبّث راكام بهما كأنما هو على حافة الحياة.
“أرجوكم، خذاني معكما!”
بملامح ضجر، حاولت ليلا وهيلي إبعاده،
لكنه كان ملتصقًا كحشرة مما جعل الأمر صعبًا.
فنظرَت إليه هيلي بنظرة باردة كالصقيع.
“ولماذا علينا أخذُك معنا؟ من منظورنا، أنت خائن وضع بلوتاروس في خطر.”
“لقد… لقد خُدعت من البابا! لم يخبرني بشيء. قال فقط افتح الصندوق واهرب. قال إنني سأحصل على منصب في المعبد بعد ذلك… أرجوكما، دعاني أخرج، أرجوكما!”
فتح الصندوق والهرب؟ مستحيل.
فمن يفتح الصندوق، يقع فورًا في نومٍ عميق.
البابا أراد فقط أن يستغله ثم يتخلّص منه.
اهتزّ جسد راكام من الخيانة التي استوعبها لتوّه.
“ولِمَ لم تُبلّغ عن فهمك لكلام الوحوش؟“
“كنت على اتصال دائم مع البابا بعد وصولي إلى بلوتاروس. وعندما أبلغته بما سمعت، أمرني ألا أخبر الدوق.”
“هل يمكنك الشهادة بهذا رسميًا؟“
هدأت نظراته المرتبكة تدريجيًا، ثم ابتلع ريقه وسأل.
“و… وماذا سيحدث لي بعد الإدلاء بالشهادة؟“
“لو كان الأمر بيدي، لكنت من أوائل من يُعدم،
لكنني أعدك… بعد انتهاء المحاكمة، سأدعك تهرب.”
“حقًا؟! إذن سأفعل أي شيء! أرجوكم، اجعلوني شاهدًا!”
ابتسمت هيلي ابتسامة حانية، كانت تبتسم بها كثيرًا عندما كانت قديسة في المعبد. لكن ليلا سألتها هامسة.
“هل تنوين إنقاذه فعلًا؟“
“هذا حلمه، أليس كذلك؟ أنا لم أرَ مثل هذا الحلم من قبل.”
لو علم أنه سيموت رغم الشهادة، ربما يرفض التعاون ويقرر البقاء هنا.
لذا، قررت أن تغرّيه بالخروج… ثم تتنصّل من وعدها لاحقًا.
بعد برهة، خرجت الاثنتان وراكام معهما، لكن ما إن ابتعدن حتى فوجئن بسيلين يركض نحوهما ووجهه شاحب.
“سيلين؟“
“حدث أمر خطير! سموّ الأمير… قد اختفى!”
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 55"