استمتعوا
“كح… كههه…!”
ما إن انقطع الحبل، حتى هوى ديلان من علٍ،
متدحرجًا على الأرض وهو يمسك بعنقه المختنق.
وسرعان ما اقتربت خطوات مسرعة تضرب الأرض في عجلة ولهفة، حتى توقفت أمامه تمامًا.
ثم تبع أنفاسًا متقطعة مرتجفة، زفرة طويلة محملة بالوجع.
أقرب الناس إلى ديلان، من شاركته أكثر لحظات حياته، شقيقته التوأم، همست بنبرة مشوبة بالغضب.
“أجننت؟“
“كيف وصلتِ إلى هنا بهذه السرعة…؟“
رأى ديلان، وهو يسعل ويتلوى، شقيقته ديانا وهي تحمل قوسًا وجعبة سهام على ظهرها.
وأدرك من فوره أنها هي، بمهارة إرسالها السريعة،
من أطلقت السهم الذي قطع الحبل عن عنقه.
“استيقظتُ باكرًا، فذهبت إلى غرفتك وغرفة كاليستو.
لكنك لم تكن هناك، ولم أجد سوى ورقة وصيتك فوق المكتب.”
وبعد أن سمعت ديانا أن ديلان أخذ معه حبلًا، فهمت على الفور أنه ينوي شنق نفسه.
ولأنها تذكرت الشجرة التي كان يحدق فيها كثيرًا، امتطت جوادها وانطلقت إلى هنا.
“لم أتخيل يومًا أن يُستعمل الدلو في مثل هذا.”
رفست ديانا الدلو بقدمها، فانطلق صوت رنان في المكان. ثم نظرت إلى الشجرة التي عُقد فيها الحبل، ومسحت بعصبية خصلات شعرها المنسدلة.
الدلو والشجرة…
كلاهما كانا جزءًا من حديث الأمس بين ديانا وديلان، وقد استعملهما الأخير اليوم ليضع حدًا لحياته.
“قرأتُ وصيتك كاملة… أسلوبك في الكتابة ممتاز، لكن المنطق خلف قراراتك سخيف، لذا فهي مرفوضة.”
كانت كلماتها غريبة. هل يوجد ما يُقبل أو يُرفض في قرار انتحاري؟
فجأة، انهمرت دموع ديلان في حزن مرير، فرمت ديانا نحوه بمنديل أخرجته من جيبها، فارتطم بخده المبتل والتصق به.
ونظرتها تقول،
‘افعل به ما تشاء، امسح دموعك أو ابتلعه، لا شأن لي.’
مسح ديلان دموعه بالمنديل الكحلي، ثم قال بصوت يحمل في طياته شيئًا من العتاب.
“لماذا أنقذتِ حياتي؟“
وسرعان ما فاضت عيناه بالدموع من جديد، كأن دموعه لا تنضب. عندها ضحكت ديانا بسخرية.
“أأنت لم تُعلّق نفسك فحسب، بل علّقتَ عقلك أيضًا؟ من قال إنني أنقذتك؟ هراء! لو متَّ هنا، من كان سيتحمل المسؤولية؟ لم أنقذك، بل أنقذتُ نفسي في المستقبل، وأنقذت الأدميرال ماركونتي.”
فلو مات ديلان في هذا المكان، فلا شك أن الإمبراطور سيحمل تيتيز، من كان يُشرف عليها، المسؤولية كاملة.
“انتحر الأمير في أرضٍ غريبة، ولا يمكننا إظهار وصيته لأي كان. لماذا؟ لأنها تكشف أننا، أنا وأنت، نعلم سر والدتنا! ولو ظهر ذلك، سينكشف كذبنا في التحقيقات السابقة!”
وليس تيتيز وحدها من ستكون في مأزق،
بل ديانا أيضًا ستجد نفسها أمام مستقبل قاتم.
“وبما أنني لا أستطيع نشر مضمون الوصية، ألا تعتقد أن الناس، المحبين لنشر الشائعات، سيشككون في وفاتك؟ نحن محاطون بأشخاص يتمنون أن يفرقوا بيننا، ولن يضيعوا هذه الفرصة.”
“……”
ولن يلبث هؤلاء أن ينادوا بتتويج روز، ابنة أميرة مملكة تالوڤ، كإمبراطورة جديدة.
“ولنفترض أنني قررت نشر الوصية رغم كل شيء. حتى لو كُشفت أكاذيبنا، لعل ذلك يخفف من الشكوك التي ستنهال علينا، أنا وتيتيز.”
بدأت ديانا حديثها هذه المرة بهدوءٍ لم يكن موجودًا حين وجدت ديلان معلّقًا بالحبل.
“لقد كتبتَ في وصيتك أنك ستهب حياتك لاسترجاع والدتنا قواها السحرية. فهل تظن الناس سيتركونها وشأنها إن علموا بذلك؟“
لم يكن الناس على دراية تامة بأن ميديا وكيركي تملكان قوى سحرية حقيقية. كانوا فقط يعتبرونهما خارجتين عن الدين، لا أكثر.
لكن إن خرجت هذه الوصية للعلن، فستتحول ميديا في أعينهم إلى ساحرة خطيرة تملك قوى تنافس قوى القديسين.
“ولا شك أن الأمر لن ينتهي بنفيٍ أو حبسٍ بسيط.”
“……”
“هل فكرت في العواقب الحقيقية لما فعلته، وأنت تزعم أنك تفعله من أجل الآخرين؟ ألم يقل كايرون، لا تتشبث بجانبٍ واحدٍ من الأمور، بل انظر إليها من كل الجهات قبل أن تحكم؟“
كان ديلان في الثالثة والعشرين من عمره الآن. وقد آن له ألا ينظر إلى طفولته بعين الطفل، بل أن ينظر بعين ذاك الطفل إلى ما كان يراه.
إلى ديانا.
توأمته التي تصغره ببضع دقائق، ولكنها حملت عنه أعباء السنين.
رآها الآن، وقد عجزت عن إخفاء الإرهاق، تضع يدها على جبينها وتتنهد بمرارة.
كان عليه أن يتذكر هذه اللحظة. كم كانت ثقيلة الأعباء على عاتقها، فلماذا نسي؟
لا يجوز أن يلقي بهذا العبء كله على ديانا وحدها.
‘تعاهدنا، مهما كانت الصعاب، أن نواجهها سويًا. فكيف أنسى ذلك؟‘
أي توأم يشتركان في كل اللحظات؟ هو، من فرَّ هاربًا، وترك ذكريات المشاركة كلها في قلب واحد فقط.
“أن تموت لتسترجع والدتك قواها السحرية؟ يا إلهي… لم أسمع هراءً أعظم من هذا إلا حين قال البابا إنني أشبه والدي كثيرًا!”
توقفت ديانا لحظة لتهدّئ نفسها، ثم واصلت الحديث بصوتها الهادئ المعتاد، صوتٌ طالما أعاد الطمأنينة إلى قلب ديلان.
“فكر بعقلٍ صافٍ. لو أن موتنا يمكن أن يعيد لها قواها، لقتلتنا منذ زمن. فلماذا أبقتنا أحياء حتى الآن؟“
“ربما لأنها… تحبنا؟“
“لا تكن ساذجًا. الحب والتضحية والتفاني ليست من قاموسنا ولا من طبعها.”
ثم اقتربت منه، وانخفضت حتى أمسكت بكتفيه وقالت له بالحقيقة عارية كما هي.
“لأنها تعرف أن موتنا لن يعيد لها شيئًا. ولهذا لم تقتلنا.”
فلو كان في موتهم خلاصها، لما توانت عن الفعل. ميديا كانت دومًا تقدم مصلحتها على كل شيء.
ولو استردت قوتها، فستمتطي عربة التنين الأسطورية وترحل عن تبلّون دون ندم أو وداع.
ولكنها لم تفعل.
لماذا؟
ليس لأنها تحبهم حبًا جارفًا، بل ببساطة لأنها لا تملك سببًا وجيهًا لقتلهم.
فطالما أن موتهم لن يمنحها شيئًا، فلا حاجة لها بدمائهم.
“وأنا، حتى لو كان موتي سيعيد لها قواها، لن أقبل الموت بسهولة.”
لو أن ميديا أرادت قتلها لاستعادة قوتها، لقاتلتها ديانا حتى آخر رمق.
هي تحب والدتها، ولكنها لا تنوي أن تدفع ثمن ماضٍ ليس ذنبها ولا مسؤوليتها.
“في النهاية، لقد أنجبتني، وأنا وُلدت. وبما أنني قد وُلدت فعلًا، فقد قررت أن أعيش كما ينبغي. بكل جهدي، دون ندم. وأنت أيضًا، عش كذلك. أنت جيد في تقليدي، أليس كذلك؟“
الشطرنج، والرماية، وحتى هذا… ديلان كان بارعًا في تقليد أخته.
“إذا شعرت بالحيرة أو فقدت وجهتك، فقط اتبعني، وسيتضح لك الطريق.”
ظل ديلان يرمش صامتًا لبعض الوقت، ثم همس بجملة واحدة خرجت من فمه ببطء.
كانت تكرارًا لما قالته ديانا، لا ابتكارًا منه، لكنها كانت كافية.
“بما أنني وُلدت، فلا بد أن أعيش جيدًا…؟“
“بالضبط. وإن عشت بفرح، فذلك أفضل. الآن انزل إلى النهر واغسل وجهك. لا يمكنك العودة بهذا الشكل. دع الماء البارد ينعشك قليلًا.”
“… حسنًا، ديانا.”
ثم خطا ديلان نحو الوادي، وغسل وجهه جيدًا… قبل أن يفقد وعيه فجأة.
وقع ووجهه في الماء الضحل، فسارعت ديانا باللعنات والشتائم.
“اللعنة! لا أستطيع حتى تركه هنا!”
سحبته من الماء، ثم جلست منهكة على الأرض.
وما إن نهضت وهي تمسك بساقيها المرتجفتين، حتى وجدت من يمد لها يده.
“تبدين كعجلٍ حديث الولادة، سموّك.”
رفعت ديانا طرف فمها بابتسامة حين رأت تيتيز.
“أظن… أنني عرفت الكثير مؤخرًا.”
“أتفكرين في ابتزازي بهذه المعلومات؟“
“نعم. فلنتعاهد فقط ألا تقتليني لاحقًا وأنت تقولين
‘تيتيز، لقد عرفتِ أكثر مما يجب.’ “
ثم حملت تيتيز ديلان المغمى عليه وعادت به إلى القصر.
***
ظل ديلان طريح الفراش في القصر ليومين، قبل أن يفتح عينيه أخيرًا.
أما الجميع، فظنوا أنه سقط من شجرة أثناء صيد فوقع في الماء، وهذا ما تداوله الناس. أما من يعرفون الحقيقة، فهم ثلاثة: ديانا، تيتيز، وكاليستو.
دخلت ديانا إلى غرفته وهي تحمل وصيته المطوية، ولكنها فوجئت بنظرة ديلان الحائرة.
“… لماذا أنا هنا؟ ما الذي حدث؟“
لقد نسي كل شيء.
نسي المشهد، نسي محاولة انتحاره، نسي دموعها.
ديانا أطلقت تنهيدة ثقيلة.
“آه، لا تقل لأحد أنك أخي، رجاءً.”
“حتى لو لم أقل، ملامحنا تفضحنا…”
“… معكَ حق.”
قال ديلان بصوت ضعيف.
“أشعر أنني كنت نائمًا فقط، والآن يخبرونني أن موعد العودة إلى القصر قد حان… لا أصدق.”
كانت ديانا تنوي تمزيق الوصية أمامه، لكنها جلست على كرسي قرب السرير، وقد أدركت أن الحوار سيطول.
“حين نعود للقصر–”
كان ديلان مستلقيًا ينظر إلى السقف حين قال.
“سأكمل دروسي في الفروسية… وأشتري دفتر تلوين جديد.”
“… ما كل هذا الحماس المفاجئ؟ أأصابتك الحمى بالوحي؟“
“لا، لا شيء كبير… فقط، بما أنني وُلدت، فمن الأفضل أن أعيش جيدًا، وأستمتع بالحياة قدر ما أستطيع.”
ضغطت ديانا على المنديل في يدها بقوة.
كانت كلماته مزيجًا من البهجة والارتباك،
لأنه نسي كل شيء، ومع ذلك… تذكّر تلك الجملة فقط.
الوصية التي كانت تحملها في يدها، تشوهت قليلًا تحت قبضتها.
“ديانا… لم تخبريني بعد، لماذا أنا هنا؟“
“… كنت تتنزه وحدك، فسقطت من الشجرة، ثم غرقت قليلًا، فأنقذتك.”
سقط من الشجرة؟ نعم. سقط في الماء؟ أيضًا صحيح.
لكن هذه الكلمات، رغم فقرها، كانت كافية له في تلك اللحظة.
طوت ديانا الوصية، ودستها في جيبها دون أن تضيف شيئًا.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 54"