استمتعوا
تبدّل المكان الذي كانت أقدام الأربعة تطأه.
حدث ذلك فيما بينهم ومضة واحدة، لم يستطيعو ان يرمشوا فيها بأعينهم.
“ما هذا المكان…؟ أين نحن؟“
غرفة نظيفة، مفروشة بأغطية بيضاء ناصعة.
نهض ديلان وسحب الستائر،
وما إن نظر خارج النافذة حتى أدرك المكان.
“إن لم تخنّي ذاكرتي، فهذا قصر الأدميرال ماركونتي. في أي عام نحن الآن؟“
“إنه يوليو من عام 674.”
تغيّرت ملامح وجه ديلان بعدما تحقّق من التقويم.
674…
كان يوماً من أيام الصيف، لم يمضِ وقت طويل على خلع ميديا من العرش.
كان ذلك في يوليو من عام بلغ فيه هو وديانا الخامسة عشرة.
حاول ديلان أن يستعيد ذكريات ذلك الزمن، لكنه فشل.
“…لا أذكر شيئًا من تلك الفترة.”
لم يتذكر شيئًا مما حدث في الجنوب في يوليو من عام 674.
ما يعرفه عن تلك الفترة كان مستمدًا فقط من روايات ديانا.
قالت له حينها إنه بعد أن تسلّل للعب خلسة، أمضى وقتًا طويلاً طريح الفراش، غير قادر على تذكّر شيء.
رغم أن ديلان لم يستطع التذكر، فإن هذا المكان كان قد تشكّل استنادًا إلى ذاكرته، مما يعني أن الذكريات المطمورة في أعماقه بدأت تظهر.
“إذًا يمكننا أن نرى هنا ما فُقِد من ذاكرتك.”
“نعم. وبما أن هذا كابوس، فليس من المستغرب أن تكون الذكريات التي اختفت هي ذكريات سيئة.”
من الواضح أن عرضًا مستوحًى من كوابيسه سيبدأ الآن.
وبفعل القلق المتصاعد، عض ديلان شفته السفلى، فسألته هيلي.
“ما الذي تريده أن يحدث الآن؟“
من هنا فصاعدًا، ستسير الأمور وفق اختيار ديلان.
فهذا حلمه، وله حرية القرار فيه.
“إن كنت تريد استعادة ذاكرتك، فعليك أن تتابع ما يحدث هنا.
أما إن كنت لا ترغب بذلك لأنك تخشى ما ستراه… فابحث عن ذاتك في هذا الحلم، وذكّره أنه يحلم، ثم غادر هذا المكان.”
لم يتردّد طويلًا.
“أريد أن أرى. عليّ أن أعرف ما جرى لي، بعينيّ أنا.”
قرر ديلان مواجهة ذلك الكابوس المختوم الذي أغلق عليه حتى عن وعيه.
***
تمكّن الأربعة من العثور على ديلان بسهولة أكبر مما توقعوا.
بينما كانوا يفتشون القصر بحثًا عن ديلان ذو الخامسة عشر، سمعت رايلا حديثًا بين الخدم.
“الأدميرال أخذت سموّ الأميرين في نزهة إلى الوادي!”
فتوجّه الأربعة نحو الوادي.
كان صوت الماء يتلاطم، وأصوات الضحك والصراخ تملأ الأجواء.
وسط كل ذلك، برزت شخصية لا تخطئها العين.
“سموك! أغلق أنفك! الآن!”
كانت تلك تيثيس ماركونتي، سيدة هذا المكان.
وجودها تجاهل كل قوانين المنظور.
“آه! أنت مجنونة تمامًا!”
أمسكت تيثيس بكاحل ديانا وقلبتها رأسًا على عقب،
ثم غمستها في الماء، قبل أن ترفعها كما تُنتَشَل اللفتة من الأرض.
“يبدو أن السيدة تيثيس كانت هكذا حتى قبل ثمانية أعوام.”
بينما كانت أختاها، ميتيس وإيريس، تجلسان على المقعد الحجري، كانت تيثيس تلهو بمرح في المياه وتضحك بصوت عالٍ.
ديانا، وقد تبللت بالماء تمامًا، اصبحت تضحك أيضًا، ثم همست لتيثيس وكاليستو، قبل أن يمسكوا جميعًا بإيريس ويلقوا بها في الماء.
خوفًا من أن يُصيبهم نفس المصير، انسحبت ميتيس الكبرى وديلان بهدوء بعيدًا.
أما ديلان الصغير، فقد بدت عليه سعادة غامرة وهو يربت على شجرة كبيرة نمت هناك، كأنها كانت كنزًا ثمينًا لديه.
اقتربت ديانا، وقد خرجت من الماء، من ديلان، ونظرت إليه نظرة تفيد بأنها لم تُفاجأ به، ثم طرقت على الشجرة برفق كما لو كانت تطرق بابًا.
“ما الأمر؟ جئت حتى إلى هنا لتتأمّل الأشجار؟“
“نعم. لقد راقت لي كثيرًا.”
تأمّلت ديانا الشجرة بفضول واضح.
“حقًا؟ لا يبدو فيها شيء مميز. ما الذي راقك فيها؟“
“يبدو أنها قوية ولا تنكسر بسهولة.”
كانت شجرة قوية، عكسه تمامًا. حوّل ديلان نظره عن الشجرة ببطء نحو الوادي، مشيرًا إلى دلو موضوع في ظل قرب المصطبة.
“ديانا، ما ذلك الدلو هناك؟“
“ذلك؟ فيه زجاجات مشروب وبعض الثلج.
لو أردت أن تتذوق، اطلب من إيريس أن تعطيك كأسًا لاحقًا.”
ابتسم ديلان بخفة بعد سماعها، وتابع النظر إلى الدلو كمن يتأمل شيئًا عزيزًا. وعندما نادته كاليستو ليتناولوا البطيخ، نزلت ديانا برفق تدعوه للمجيء معها.
بعد وقت قصير، عاد الجميع إلى القصر وتناولوا العشاء معًا. رغم ما أكلوه عند الوادي، إلا أن الجميع أكل بشهية، وسط دهشة عامة.
“أقول لك، كانت الأميرة تملك ست أوراق من البداية، لا خمس!”
“لا بد أن ذلك مجرد انطباع. أنا متأكد أنني بدأت بخمس أوراق فقط.”
“آه! الآن وقد نظرت، أظن أن ظهر أوراق السيدة إيريس مختلف عن الباقين!”
“هم؟ ربما عيناك مرهقة يا كاليستو؟ لا أرى فرقًا البتة! لعل الوقت متأخر جدًا على الأطفال؟ هاها!”
“…أعطني أوراقك، أختي.”
وبعد صراع قصير، قارنت كاليستو وتيثيس بين أوراق إيريس وأوراقهما.
“…واو. حقًا؟ إنها مختلفة قليلًا.”
تم كشف خدعة إيريس وديانا، وانهار اللعب وسط مشاعر الصدمة والاستياء والخيانة.
“هل أعددتِ تلك الأوراق منذ البداية، يا إيريس؟“
“لا. كانت عندي من قبل، أخذتها من قراصنة كانوا يلعبون بها في السفينة. أنتم الذين أردتم اللعب، فقررت استخدامها.”
وأضافت ديانا بنبرة وكأنها تمازحهم.
“يعني، لم نخطط أنا وإيريس لأي شيء. فقط لاحظنا فرق الظهر بين الأوراق أثناء اللعب.”
هزّت ميتيس رأسها ساخطًة.
“كلّكم ماكرون بلا استثناء. من يستطيع أن يثق بأي منكم؟“
“إذًا ثقي بأخي ديلان، يا ميتيس. أعرفه منذ خمس عشرة سنة، وهو شخص يمكن الاعتماد عليه.”
ثم حان وقت لعبة الألواح. ولأنها تتطلب فريقين،
اقترحت ديانا أن يكون ديلان في فريق ميتيس.
عندما ابتسم ديلان، صنعت ميتيس إطارًا مستطيلاً بأصابعها لتُحاط وجهه كما في صورة.
“تجربتي تقول: أكثر شخص يبتسم وسط هذه الفوضى هو الأخطر. من يعلم ما يُخفي خلف ابتسامته!”
“واو… كل ما فعله الأمير أنه ابتسم، وفجأة اصبح شيطانًا متآمرًا!”
“هذه المرة، أختي ميتيس هي المخطئة.”
“ما هذا الكلام! سموّ الأمير، كن في فريقي. لنكن نزيهين وحكماء!”
“حسنًا، ميتيس. أعتمد عليك.”
ومع موافقة ديلان، انطلق الجميع، من الأخوات القراصنة إلى التوأم الملكي وكاليستو، بلعب حتى ساعات الفجر.
ولكن،
‘لماذا يُسمى هذا كابوسًا؟‘
كان هذا هو التساؤل الذي شغل بال الأربعة جميعًا وهم يراقبون المشهد.
فما رأوه لم يكن كابوسًا، بل ذكرى جميلة تم نسيانها.
عندما خلد الجميع للنوم، عاد ديلان إلى غرفته.
جلس إلى مكتبه، وأخذ يكتب شيئًا ما.
كان صوت قلمه يعكس استعجالًا وتوتّرًا.
حينها…
تجمّدت ملامح ديلان وهيلي وهم يقرؤون ما كُتب على الورقة.
‘ما هذا؟ هل كتبتُ هذا بيدي؟‘
كان ديلان الطفل جالسًا أمام مكتبه لا ينام.
لم يكن وجهه مرهقًا، بل يملؤه الأمل.
مع بدء الخدم ليومهم، بدأ ديلان يُدندن أغنية خفيفة وهو يتوجّه إلى إسطبل القصر.
“سأُعدّ فخًا للصيد اليوم. هل يمكنك إعطائي بعض الحبال؟ حبال قوية. أريد تجهيزها مسبقًا لئلا أنسى.”
أعطاه القائم على الخيل الحبال دون تردد، فشكره ديلان بابتسامة مشرقة.
ثم سرق ديلان ملابس أحد الخدم وارتدى قبعة ليخفي ملامحه،
ثم أخذ الدلو الذي راقبه بالأمس، ووضع الحبال بداخله.
عندها، أدرك ديلان من الحاضر ما سيحدث تاليًا،
الحدث الذي أفقده الذاكرة على وشك أن يبدأ.
“…ليلا، سيلين، انتظرا هنا من الآن فصاعدًا.”
“أمر سموّك.”
“وأنتِ، هيلي.”
“نعم؟“
نظر إليها ديلان كما لو كان يُحاول تثبيت صورتها في قلبه.
“هل ترافقينني؟“
“بالطبع.”
كان قاع الصندوق المفتوح مليئًا بالظلمة، لا يُرى فيه شيء.
وكان من المخيف أن يمدّ المرء يده ليتحسس ما في داخله.
لهذا، أراد ديلان أن تكون هيلي بجانبه عندما يمد يده نحو فجوة الذاكرة.
أمسكت هيلي بأطراف أصابعه المرتجفة، وما إن فعلت حتى تلاشى ارتجافه، وتبعا معًا أثر ديلان ذو الخامسة عشر.
توقف ديلان في المكان نفسه الذي ربت فيه على الشجرة كأنها كنز، أمس.
أخرج الحبل من الدلو وصنع منه مشنقة بسهولة.
ثم صعد على الدلو، وثبّت الحبل على غصن الشجرة المتين،
ولفّ المشنقة حول عنقه.
من دون تردّد، ركل الدلو الذي يقف عليه.
وبدأ الحبل، كأنه وفى بدوره، يخنق عنقه.
أخذ جسده يتلوى، يحاول إزالة الحبل عن رقبته.
بعد ولادة التوأمين، فقدت ميديا قواها السحرية.
لذا، موته يعني عودة ذلك السحر.
ولو حتى نصفه فقط… أخذت قوته تتلاشى تدريجيًا.
‘هذا هو الصواب. في النهاية… أنا بلا فائدة…’
أراد ديلان، وهو في الخامسة عشرة، أن يضع حدًا لحياته.
كما كتب في وصيته تلك الليلة.
والآن.
واجه ديلان حاضره ماضيه،
ونظرت هيلي بين ديلان الحالي وديلان الطفل.
‘لكن ديلان لم يمت حينها.’
ديلان اليوم، ذو الثلاثة والعشرين عامًا، ما زال حيًا.
وهذا وحده دليل أن محاولته لم تنجح.
‘إن نجاته تعني أن شيئًا ما أفشل المحاولة… فما هو؟‘
تفحصت هيلي المكان بحثًا عن السبب.
هل انقطع الحبل؟
‘لا. الحبل قوي.’
الغصن كذلك، كما تأكّد ديلان سابقًا، كان متينًا.
لقد خطط ديلان لكل شيء بدقّة مؤلمة.
ومع تزايد الألم، همست هيلي بصوت مبحوح.
“…أعطني سكينًا. عليّ أن أقطع الحبل الآن.”
“لكن إن فعلتِ، فلن نعرف سبب نجاتي.”
قالها ديلان وهو ينظر إليها بعينين تملؤهما الحيرة.
فجأة—!
صوت حاد شقّ الهواء من الخلف،
وفجأة انقطع الحبل الذي كان يشنق ديلان.
سهمٌ براق انغرس في الشجرة، وقطع الحبل الذي كاد أن يُزهق روح ديلان.
لقد رفضت الشجرة أن تكون شريكًا في تلك المأساة.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 53"