استمتعوا
بعد انفصال ديانا وديلان، تبعت هيلي ديلان إلى قصره.
كانت تنوي أن تجذب انتباهه وتُخرجه من هذا ‘الحلم داخل الحلم‘، في لحظة يكون فيها خاليًا من الخدم.
“يبدو أن سموّ الأميرة تلهو أكثر من اللازم،
لا حاجة لأن تُجهد نفسك بمجاراة ذلك اللعب.”
“من المؤكد أنها تستخف بسموّك.
لأنك طيّب القلب، ترافقك كما لو كنت أحد أتباعها.”
لكن ديلان، الذي لا يعرف للغضب سبيلًا، اكتفى بالابتسام، مهدئًا خدمه الذين أظهروا قلقهم عليه.
“لا… ليس الأمر كذلك. أنا من اقترحت أن نلهو سويًّا.
ثم إن… ديانا لطيفة للغاية. اللعب معها يشعرني بالسعادة.”
لقد علمته كيف يلعب الشطرنج، واقترحت له كتبًا توافق ذوقه.
حتى حديثهما عن الزهور في ذلك اليوم، جاء من كلمة عابرة قالها ديلان سابقًا عن زهرة ظهرت في ورقة لعب تشبه زهرة يالن.
ما كان لتلك المحادثة أن تحدث لو لم تُصغِ ديانا لكلماته.
بطبيعة الحال، لم يدرك الطفل ديلان أن ديانا سألت عن اسم الزهرة رغم أنها كانت تعرفه تمامًا، فقط لتتيح له الحديث.
‘هممم… ثمة شيء غريب هنا.’
هيلي، التي كانت تجلس على كرسي في الزاوية تستمع إلى حديث ديلان وخدمه، ارتسمت الحيرة على وجهها.
للوهلة الأولى، قد يبدو أن الخدم قلقون على ديلان لضعف صحته، ولكن، بدا أن هناك نغمةً خفية في كلماتهم، كأنهم يحاولون دسّ السم بينه وبين ديانا.
لكن السبب في فشل محاولات الخدم
– الذين عيّنهم الإمبراطور – كان بسيطًا،
الثقة بين التوأمين كانت أصلب من أي ريح تهب من الخارج.
***
في المساء، قال ديلان إنه يرغب في استنشاق الهواء العليل، فتبعته مجموعة من الخدم.
“سأصعد وحدي من هنا.”
عندما وصلوا إلى برج مراقبة النجوم، أبعدهم ديلان، فبدت على وجوههم علامات القلق.
“…أليست الدرجات عالية جدًا؟ دعني أرافقك حتى القمة وأعود وحدي.”
“لا بأس، أستطيع الصعود وحدي. وإن حصل شيء، سأستدعيكم فورًا، فلا تقلقوا كثيرًا.”
“فقط انتبه إلى الدرج، سموّ الأمير.”
“حسنًا.”
تبعت هيلي خطوات ديلان إلى داخل البرج،
فقد عزمت على إيقاظه هنا.
عند قمة البرج، جلس ديلان متقوقعًا على الدرج،
يتأمل السماء، ثم بدأ يشهق خفيفًا، ويمسح عينيه بكُمّه.
بعدها وقف، مستعدًا لمغادرة البرج والعودة إلى القصر.
لكن ما إن وقعت عيناه على الدرج أمامه،
حتى شحب وجهه وتوقف عن الحركة.
وفي تلك اللحظة، رأت هيلي في ديلان انعكاسًا لذاتها.
‘…يوم حفل مباركة الأمير الثاني، بماذا كنت أفكر؟‘
تذكرت توأمها الراحل، ويأسها العارم من المستقبل،
حتى فكّرت أن السقوط من على الدرج والموت لعلّه أسلم لها.
هي لا تعرف ملامح وجهها في تلك اللحظة، لكن ما تعرفه يقينًا هو.
“راودني القلق حين رأيت ملامحكِ مضطربة،
كأنها على شفا الانهيار.”
على الأرجح، الوجه الذي رآه ديلان في ذلك اليوم كان يشبه تمامًا الوجه الذي يرتسم الآن على وجه الطفل ديلان.
‘ديلان كان يعلم منذ البداية‘
علم أن هيلي كانت تملك ذات الأفكار التي راودته.
لكن هذه المرة، هيلي هي من قرأت ملامحه، فنادت باسمه بلا تردد.
“ديلان.”
رفع الطفل ديلان رأسه ليقابل عينيها. مدت هيلي يدها إليه.
“…هيا بنا، ننزل معًا.”
لأول مرة، شعر ديلان بوجودها، فأمسك يدها.
وبخطى بطيئة، بدأ الاثنان بالنزول من الدرج.
لم يكن يُسمع في البرج سوى وقع أقدامهما وأنفاسهما.
وعند آخر درجة، توقف ديلان فجأة وحدّق في هيلي،
ثم سأل بصوت مرتجف.
“لمَ مددتِ يدك إليّ؟“
“لأني لا أريدك أن تسقط.”
وبهذا، أعادت هيلي إلى ديلان الكلمات التي قالها هو ذات يوم.
فابتسم ديلان رغم اختناقه بالبكاء، ومد قدمه إلى الأسفل.
وما إن نزل آخر درجة ووطأ الأرض، لمحت هيلي قدم شخصٍ ما أمامها.
رفعت بصرها ببطء، فرأته واقفًا أمامها،
ذلك الذي جاء إلى هذا المكان من أجلهما.
إنه ديلان الحقيقي، ديلان الذي استيقظ من الحلم الأول.
كانت شفتاه الهزيلتان تتحركان، ويخرج صوته مبحوحًا.
“…حين نزلتِ من الدرج، أهديتِني زهرة.
لكن هذا المكان يغمره الظلام الآن.”
لكن ذلك التعابير الحزينة ما لبثت أن تبددت كرماد الرياح.
“حين أستيقظ من هذا الحلم،
سأجوب محالّ الزهور جميعها حتى آخر زهرة فيها.”
هكذا، نفض ديلان خيبة الأمل كمن ينفض غبارًا،
وابتسم وهو يغرس الأمل. فابتسمت هيلي أيضًا.
“هذا الحلم… كيف كانت نهايته في الواقع؟“
رغم أنّها قبل لحظات نزلت وهي تمسك بيده، إلا أنّها كانت تجهل ما آلت إليه القصة في العالم الحقيقي. لقد أرادت أن تعرف تتمّتها.
“سقطتُ من أعلى… ويا للخجل، فقد سمع أحد الخدم الضوضاء، فدخل وحملني خارجًا على ظهره.”
ضحك ضحكة صاخبة لا تليق بالموقف،
فقهقهت هيلي من غير تصديق.
ثم واصل ديلان الحديث بصوت لطيف.
“ربما سقطت حينها،
لكني الآن أظن أن ذلك لم يكن بالأمر السيئ.”
“لِمَ؟“
“لأنه بفضل ذلك، تمكّنت لاحقًا من مدّ يدي إليك.”
وذلك الحدث كان حجر الأساس الذي جعله يوقظ هيلي الآن.
لذا، لم يكن أمرًا سيئًا أبدًا، حسب استنتاج ديلان.
أومأت هيلي موافقة. ثم نظرت إلى ديلان.
على خلاف ليلا وسيلين، اللذين أدركا أنهما في حلم،
بقي جسد ديلان شبه شفاف.
ربما لأن هذا هو حلم داخل حلم.
‘يبدو أن عليّ أن أخرج من هنا أولًا،
ثم أستوعب أني في حلم لأعود إلى الواقع.’
لاحظ ديلان نظراتها، فسأل.
“دخلتِ إلى هذا الحيز بقوة موري، أليس كذلك؟“
“أجل. ببساطة، هذا المكان هو حلمك داخل الحلم. وعندما تخرج منه، ستجد نفسك في حلمٍ آخر، عليك أن تستيقظ فيه أيضًا كي تعود للواقع.”
“قفل مزدوج، إذن.”
“يمكننا تسميته كذلك. السير سيلين وليلا بانتظارنا خارج هذا الحلم، ما علينا سوى إيجاد ذلك الكاهن الحقير.”
اقتربت النهاية. عندها، دنا ديلان من ذاته القديمة وهمس له، لأول مرة وآخر مرة.
“إن رأيتَ يومًا من يحمل وجهًا كوجهك الآن،
فتقرّب منه ومدّ يدك إليه أولًا. أتمنى أن تكون ذاك الشخص.”
هز الطفل ديلان رأسه موافقًا، فبدأت الأجواء تتغير تدريجيًا كما لو أن ستارة المسرح تُسدل. وفتح الاثنان عيونهما في ذات اللحظة.
“سموّ الأمير!”
“يا لها من راحة انتما سالمين!”
كانت أصوات ليلا وسيلين. استيقظت هيلي من الحلم داخل الحلم، ونظرت حولها لتتأكد أنها بالفعل في قصر الأمير.
نظر سيلين إلى ديلان وسأل بدهشة.
“لكن، لماذا جسد سموّ الأمير لا يزال شفافًا؟“
“يبدو أن عليّ الاستيقاظ من هذا الحلم أيضًا لأستعيد جسدي.”
بينما كانا يتبادلان الأحاديث، التفتت هيلث إلى ليلا وسألت.
“كم مضى منذ أن نمت؟“
“ثلاثون دقيقة فقط.”
‘ثلاثون دقيقة؟‘
اتسعت عينا هيلي التي كانت لا تزال نصف نائمة.
‘لكنني شعرت وكأنني قضيت الليل كله هناك، كيف يعقل هذا؟‘
لم يكن الوقت طويلًا كما ظنّت.
‘…ربما في هذا بعض العزاء.’
إن استيقظت الآن، فسيكون الزمن في الواقع أقصر بكثير مما شعرت به.
في تلك اللحظة، بدأ المطر يهطل، ودوّى الرعد خارج النافذة.
دوك! دوك! دوك!
قرعٌ عنيف تزامن مع البرق، فالتفت الجميع ناحية النافذة.
وفي تلك اللحظة، كان الطفل ديلان، بطل هذا الحلم،
جالسًا إلى مكتبه. وما إن سمع الصوت حتى نهض وفتح النافذة.
‘تلك هي…’
ديانا، التي تسلقت الشجرة، كانت تقف والبلل يقطر من شعرها وثيابها. أسرع ديلان وجلب بطانية ليغطيها.
“ديانا؟ ما الذي جاء بك في هذا الوقت؟ والمطر يهطل؟“
لكن ديانا الصغيرة تصرّفت كما لو أن الوقت والمكان والمطر بلا أهمية، ودخلت فورًا في صلب الموضوع.
“اسمع، لا تصدم، لكن اكتُشف أن والدتي تعبد حاكما آخر.
يبدو أنها ضُبطت وهي تصلي سرًا.”
“مـ… ماذا؟ ماذا تقولين…!”
رغم تحذيرها ألا يصدم، لم يستطع ديلان كبح دهشته.
شعر كما لو أن قلبه سقط إلى الأرض.
“سيحقق الكهنة معنا بالتأكيد.
لن نُسمح بالخروج من القصر لبعض الوقت.”
جاءت ديانا لتُعد ديلان نفسيًّا لما سيأتي، حتى لا يُفاجَأ حين يُفرض عليه الحبس، وأيضًا لتتأكد من أنه لن يقول شيئًا في التحقيق.
“هيا، لنضبط أقوالنا. تذكّر، علينا أن نقول إننا لا نعلم شيئًا.”
“…”
“آه، لا، علينا تجنّب كلمة ‘نحن‘ .”
كلمة ‘نحن‘ كانت الأخطر على الإطلاق لشخصين يلازمان بعضهما يوميًّا.
“لم نعلم شيئًا.”
“أنا وديانا لم نكن نعلم.”
في حال تم التحقيق معهما في مكانين منفصلين،
لن تُغتفر هذه الكلمات، لأنها توحي باتفاق مسبق بينهما.
في تلك اللحظة، تفكّكت ‘نحن‘ .
وأمام ديلان المشوش، أطلقت ديانا كلماتها كالسيل،
رغم هدوء ملامحها، في إشارة إلى أنها لم تكن أقل اضطرابًا.
حاول ديلان أن يستوعب الوضع، ويهدّئ قلبه المتسارع، ثم أومأ برأسه بعزم.
“…حسنًا، سأكون حذرًا. شكرًا لأنك أتيتِ وأخبرتني.”
فهذا أفضل حتى لوالدته، الإمبراطورة. قول الحقيقة لن ينقذها، بل ربما يزيد الطين بلّة، إذ قد يتهمونها بفرض ديانتها على ابنها.
“سأرحل الآن.”
“عودي سالمه، ديانا.”
بفضل زيارتها، استطاع ديلان ترتيب أفكاره،
فواجه التحقيق والحظر دون ارتباك، ولم يرتكب أي هفوة.
لكن الإمبراطورة ميديا، وبخطأ واحد، خُلعَت من عرشها،
وأصبحت سجينةً في قصرها إلى الأبد.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 52"