استمتعوا
لا يمكن ترك هؤلاء الأشخاص عالقين في كوابيسهم.
فكلٌّ منهم يتعذّب في أكثر اللحظات رعبًا في حياته.
وفي عالمي، تحدّث نصف الحاكم الغير ناضج بنبرة قلقة عن هيلي.
“هيلي، عليك أن تفكّري جيدًا. لو ارتكبتِ خطأً بسيطًا،
قد لا تتمكّنين من الخروج من الحلم أبدًا.”
“وما نوع الخطأ الذي تقصده؟“
“سيُناديكِ أحدٌ من خلفك باسمك. لا تجيبي، ولا تلتفتي إليه.
ولا تأكلي شيئًا يُقدَّم لك. ما يوجد هناك ليس حقيقيًّا. إنها محاولات لإغوائك. وإن انخدعتِ بها، فلن تخرجي أبدًا من الكابوس.”
وستموتين حبيسة في كابوس لا ينتهي.
أومأت هيلي برأسها بعد أن استوعبت تحذير موري،
وابتسمت بهدوء.
“فهمت، سأكون حذرة.”
بعدها، جعلها موري تتمدد بجوار ديلان وشرح لها بنبرة ناعمة.
“أول ما ستواجهينه، هو كابوسك القديم.
عليك أن تتجاوزيه. أنتِ قوية بما يكفي، هيلي.”
“كابوسي…”
لم يخطر ببالها إلا حلم واحد.
حلم موت فريكسوس.
‘من المؤكّد أنني سأراه مجددًا هذه المرة.’
لكن ذلك لم يكن إلا ذكرى من الماضي.
لم يكن هناك ما هو أشد وطأة عليها من اللحظة الراهنة،
ولهذا فهي قادرة على تحمُّل أي شيء.
ديلان هو من أيقظها من كابوس قديم،
وهو من نصحها بما يجب فعله داخله.
ولذا، هذه المرة…
‘عليّ أن أكون أنا من يُنقذه.’
انتزع موري خصلة من شعره، ولفّها حول إصبعه،
ثم ربطها بإصبع هيلي أيضًا.
“ما هذا؟“
“هناك، داخل الكابوس، متاهة معقدة للغاية. عندما ترغبين بالخروج مع الآخرين، ستهديك هذه الخصلة طريقك.”
ثم غطّى عينيها وتلا تعويذة مألوفة،
كانت موجودة في أحد كتب المعبد.
ومع صوت حاكم الأحلام الذي يشبه التهويدة،
انسابت هيلي في نوم عميق.
***
فتحت عينيها لتجد نفسها تحت جسر.
المطر يهطل عبر الغيوم الداكنة.
حاولت النهوض، لكن جسدها لم يطاوعها.
كان شيء ثقيل يسحق ساقيها.
‘إنه ذلك اليوم.’
لم تحتج إلى تقويم لتعرف.
كان يوم الحادثة التي أفقدتها القدرة على المشي.
العربة التي سقطت من فوق الجسر محطمة،
وساقاها تحت الحطام.
وعلى إصبعها الصغير،
كانت ما تزال مربوطة خصلة شعر موري.
تمتمت بصوت مبحوح وهي تستوعب الموقف.
“…لم أتوقّع هذا.”
ظنّت أنها سترى حلم سقوط فريكسوس من الدرج.
لكن ما رأته كان ذاكرة غائرة،
نُسيت بعد أن شُفيت ساقاها بالقوة المقدسة.
كأنما الحلم يقول إن جراح الماضي الصغيرة لا تُمحى،
حتى لو طغت عليها جراح أكبر.
‘يا له من تفسير قاسٍ وغير رحيم.’
وما إن أدركت أنها في حلم،
حتى انفصلت روحها عن جسدها في الحلم.
باتت الفتاة تحت الحطام هي نسخة أصغر منها،
فيما وقفت هيلي الحقيقية بجانبها، بساقيها السليمتين.
‘الآن وقد تأكّدت من كيفية فصل الأرواح، حان وقت إنقاذ الآخرين.’
لكنها لم تستطع التحرك فورًا، إذ كان أحدهم يُمسك بطرف ثوبها.
لم يكن في هذا المكان أحد سواها.
التفتت ببطء، لترى هيلي الطفلة، تنزف من جبهتها،
بعينين خاويتين من كل مشاعر.
قالت الطفلة.
“هل سترحلين؟“
“…نعم.”
“وستتركينني هكذا؟“
“نعم.”
“لماذا؟“
“لأن هدفي الآن ليس مواساة نفسي في الماضي،
بل حلّ مشاكل الحاضر.”
فقد جاءت لإنقاذ من يشكّلون حاضرها.
“لكن، لا يجب تجاهل الماضي.
ظننتِ أنكِ نسيتي هذا الألم، لكنك لم تفعلي.”
كانت الطفلة تنظر إلى روح هيلي نظرة تخترق الأعماق.
وكما قالت، ما إن لامست قطرة المطر جبينها، حتى عادت الذكرى كاملة.
ألم الساق، وبرودة المطر، كلّها أعادت إحياء ما دُفن.
ثم تراخت يد الطفلة وسقطت،
بينما استدارت هيلي ومضت نحو ما يشكّل حاضرها.
وما أن خطت خطوة، حتى تغيّر المشهد من موقع الحادثة إلى متاهة غارقة في الضباب.
وسط الضباب، ومضة ضوء.
‘هناك شخص قريب من هنا.’
ركضت هيلي نحو الضوء.
وفي نهايته، وجدت فتاة بشعر أحمر.
كانت ليلا في طفولتها، فارسة بلوتاروس التي ترافق هيلي.
من علّية في قصر فاخر، سُمعت أصوات أقلام وصفحات تُقلب.
رغم دفء الموقد، كان الجو داخل الغرفة كئيبًا وباردًا.
لم تَعرف هيلي في البداية أن هذا القصر يعود إلى عائلة الكونت فيريست.
‘ما هذا؟ كانت ليلا من عائلة فيريست؟ لكن سمعت أن الابنة الوحيدة للكونت ماتت منذ زمن… آه.’
لم تكن الوفاة حقيقية، بل كانت قطيعة أُعلنت كموت رمزي.
تذكّرت هيلي خبر تبنّي الكونت لابنة أخيه.
‘ببساطة تبرّأ منها وكأنها ماتت. لكن، لمَ فتاة من منزل غني مثل هذا اصبحت تتدحرج في بلوتاروس؟‘
ولمعرفة السبب، نادت عليها.
“ليلا.”
لكن ليلا لم تلتفت.
كانت مركّزة على الكتاب أمامها. أخذته هيلي منها وأغلقته.
“ما الذي يجذب في هذا الكتاب؟“
“لديّ اختبار صباح الغد. ولم أحفظ كل شيء بعد…”
الصفحات لا تنقص، لكن الوقت يتضاءل.
همّت ليلا بقضم أظافرها، فبادرت هيلي وأمسكت بيدها.
“كم عمركِ الآن؟“
“اثنا عشر… لا، خمسة وعشرون.”
“وما هو واجبكِ في هذا العمر؟“
“طبعًا، حماية صاحبة السمو.”
رفّت ليلا بجفنيها وسألت.
“إذا كانت حمايتكِ مهمتي، فلماذا أنا هنا؟“
ابتسمت هيلي بلطف، وهي ترى جانبًا نادرًا من سذاجة ليلا.
“الكاهن ريكام فتح صندوق الكوابيس. فدخلتِ أنتِ، وسيلين، وصاحب السمو، وريكام، في الكابوس.”
“كنتُ مكلّفة بحمايتك، فصار العكس… أعتذر، صاحبة السمو.”
وبينما انحنت، انفصلت روحاها.
أما ليلا الطفلة، فما زالت تقلب الصفحات بتوتر، تقضم أظافرها.
قالت هيلي.
“ليلا، لم لا نحرق هذا المكان كله؟“
“هل هذا مسموح؟“
“ولم لا؟ إنه مجرد حلم.”
ضحكت كأنها تحرّضها، فاستجابت ليلا،
وانتزعت كتابًا من الرف وألقته على الأرض.
كوّمت الكتب، ثم التقطت حطبًا مشتعلًا من المدفأة،
ورمته بين الصفحات.
اشتعلت النيران بشدّة.
‘ما كان لها أن تتضخّم هكذا…’
لا شكّ أن الرغبة المكبوتة لدى ليلا في حرق تلك الذكريات هي من أضرم اللهب.
الطفلة التي بداخلها، راحت تدور حول النار تغني بفرح غامر.
قالت ليلا وهي تحدّق في اللهب.
“كنتِ تعلمين أنني من منزل فيريست، أليس كذلك؟“
“لم أكن أنوي السؤال.”
“مهما حاولت، لم أستطع أن أكون الابنة التي تمنّاها والداي. فهربت، وقطعت كل صلة.”
تأملَت الطفلة التي بداخلها وقالت.
“لو علمت أنها ستكون سعيدة هكذا، لهربتُ من قبل.
هذا ما أندم عليه فقط.”
وما إن تحرّرت ليلا من كابوسها،
حتى تبدّلت الساحة كما لو أُزيحت ستارة عن المسرح.
عاد الضباب.
سحبتها هيلي من ذراعها نحو ضوء آخر.
وهناك، وجدوا سيلين غارقًا في دموعه،
يُبلّل وسادته بأنفاس الشوق.
كانت الملاحظات على الحائط تقول.
“مرّ أسبوع على فراقنا“، و“ما زلت أفكّر بكَ في كل ليلة“.
قالت ليلا بانزعاج.
“يا له من أحمق…”
لم يشعر بوجودهما، بل راح يغني أغاني الفراق بصوت متهدّج.
زفرت ليلا وقالت.
“دعي هذا لي. أعرف كيف أوقظه.”
تقدّمت بثقة، ثم… بدأت بضربه بقراب سيفها!
العجيب أن ذلك نجح، وفصلت روحه.
ربما لم يكن ذلك الطريقة المثلى، لكن لم يسألن عن التفاصيل.
سيلين، الذي كان يبكي، ترك لنفسه القديمة نصيحة.
“دع البكاء، واحمل سيفك“
ثم خرج الثلاثة للبحث عن ديلان.
“سيلين، أسرع. تتأخر ككل مرة.”
“نعم!”
كان مندهشًا من الضباب، يلتفت يمينًا ويسارًا.
وإذ به يسقط فجأة.
التفتت هيلي وليلا فزعتين، لتجداه غارقًا في الأرض.
“أأنت بخير؟!”
“أقسم أنني أريد التقدّم، لكن شيء ما يشدّني للأسفل!”
هرعت ليلا لإنقاذه، وتبعتها هيلي.
لكن بينما كانتا تحاولان انتشاله، بدأ الضوء يشع من مكان سقوطه.
“قد يكون صاحب السمو أو ريكام هناك، أليس كذلك؟“
أومأتا برأسيهما وتوقفتا عن سحبه.
“ألن تُخرجاني؟“
“لا، ادخل كما أنت.”
“ستتخلّين عني؟!”
لكن الحرص على الدخول إلى الضوء دفعهما إلى دفع رأسه بقوة حتى اختفى داخله.
صرخ سيلين وهو يسقط، ثم تبعتاه إلى النور.
فإذا بهما داخل أحد أبنية القصر الإمبراطوري.
وكان سيلين قد سبقهم وسأل متردّدًا.
“…هل هذا هو سيدنا فعلاً؟“
كان على السرير فتى صغير وضعيف البنية،
بالكاد يشبه ديلان الذي يعرفونه.
اقتربت ليلا لتتفقّد حاله.
“يبدو نائمًا.”
لكن كيف يخبرون نائمًا بأنه يعيش حلما؟
هزّته هيلي ونادت اسمه، دون جدوى.
“لا يمكن…”
رأت العرق البارد على جبينه، وفهمت الحقيقة.
‘إنه يحلم داخل الحلم.’
ولإيقاظه، لا بد من الدخول إلى حلمه الثاني.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 50"