استمتعوا
انجذب ديلان للحظة قصيرة إلى هيئة هيلي، لكنّه سرعان ما استعاد وعيه بتذكُّر سبب قدومه إلى هذا المكان، فخاطب الوحوش قائلاً.
“أنا حاكم هذه الأرض، بلوتاروس،
والقائد الأعلى للفِرقة التي هاجمتكم قبل قليل.”
كانت الوحوش تدرك أنه سيّد الفرسان الذين رأوهم واقفين على قمة الجرف، والذين زرعوا في أعينهم نار الحقد والثأر، وقد كانوا مُعلّقين على سهامٍ حجرية لم تستطع النار أن تلتهمها.
“أعتذر. قراري الخاطئ سبّب لكم أذى كبيراً.”
رغم أن السبب الجوهري للكارثة كان إخفاء الكاهن ريكام للمعلومات، إلا أن ديلان ألقى اللوم على قراره الخاطئ.
فقد كان يَعدّ إدارة الكاهن ريكام، المقيم في بلوتاروس، من صميم مسؤولياته.
تنهدت هيلي بصوت خافت أمام تواضعه،
ثم التفتت نحو الوحوش وسألتهم.
“هل لي أن أُعالج جراحكم؟“
[…]
وحين لم يصدر أي اعتراض، فسّرت هيلي صمتهم على أنه إذنٌ ضمني، فاقتربت منهم بخطوات هادئة.
وقفت أمامهم مباشرة، رمشت بعينيها ببطء، ثم نظرت إلى عيونهم بثبات.
انتشرت هالة من النور الأزرق المقدس من أطراف أصابعها،
وبدأت تُضمّد جراح قائد الوحوش كما يبدو.
هكذا أدّت هيلي مهمتها في جلب الدواء بعد أن كان الداء من جهتها.
موري، الذي ادعى أنّه سيراقب من بعيد خشية أن تنفث الوحوش النيران، عاد بسرعة عندما رأى الحوار يجري بسلاسة، وانضم إلى عملية العلاج.
وفيما كانت تُعالجهم، فكّرت هيلي بملامح جامدة.
‘الصوف الذهبي هو رمز مجد تيلون. فمنذ أن قتل الأمير إياسون التنين وأحضر الصوف، بدأت تيلون تزدهر. لكن الأمر لا بد أن يحمل معنى مختلفاً تماماً للتنين.’
‘بالنسبة لنا، الأمير هزم التنين وسلبه الصوف.
أمّا بالنسبة للتنين، فقد سُلب منه عنوة.’
بل والأسوأ، أن ذلك التنين لم يمت أصلًا.
لو أن الأمير إياسون أنهى حياته منذ البداية لما حدث كلّ هذا، فربما كان كل ما جرى بسبب عجزه عن إنهاء الأمر من جذوره.
بعد انتهاء العلاج، عاد موري إلى الفرسان،
فيما بقيت هيلي لتكون وسيطةً بين الوحوش وديلان.
تبادل ديلان النظرات مع الوحوش، ثم قال.
“سأنقل رغبتكم إلى حاكم تيلون.
وسأعود قريبًا بإجابته، فالتمسوا قليلاً من الصبر.”
غالبًا، لم يكن يقصد والده الإمبراطور، بل أخته التوأم.
فالإمبراطور المتواطئ مع المعبد، والذي تغاضى عن أزمة بلوتاروس، لم يكن يُفكّر بإعادة الصوف من الأساس.
[أمامكم ثلاثة أشهر فقط.]
تصلّبت ملامح هيلي فجأة حين سمعت نبرة التهديد في صوت الوحوش.
[إن لم يُعاد الصوف خلال تلك المدّة، فسيُرسل الملك إخوةً آخرين لنا إلى هذه الأرض. وربما لا يكون الحوار غايتهم هذه المرة.]
كان تهديدًا واضحًا لا لبس فيه.
‘تلك هي بداية الحملة الثانية التي وردت في الرواية… نهاية بلوتاروس المحترقة.’
نقلت هيلي ذلك التهديد إلى ديلان، الذي تجمّدت ملامحه للحظة، ثم استعاد هدوءه وحدّد موعدًا للرد باسم ديانا.
***
“الأمر غريب، أليس كذلك؟“
“أجل، ثمّة شيء غير طبيعي.”
قالت هيلي وديلان ذلك في الوقت نفسه،
وهما في طريق العودة داخل العربة.
“حين وعدتهم بنقل مطلبهم إلى العرش، بادروا فورًا بإعلان مهلة الثلاثة أشهر.”
بل وضمنوا تهديدًا مبطّنًا.
“هل يجب أن نُعيد الصوف سريعًا؟ يبدو أنهم يشعرون بقلقٍ شديد، لدرجة أنهم لم يتردّدوا في اللجوء إلى التهديد.”
لماذا تبدو الوحوش قلقة؟ ولماذا يتعيّن عليها استعادة الصوف خلال مهلة قصيرة؟
تذكّرت هيلي حديثهم قبل قليل.
[ملكُنا لا يزال حيًّا.]
‘…هل هو حقًّا كذلك؟‘
قد يكون التنين، الذي أفاق من نومه العميق،
عاجزًا عن استعادة قواه كما كان في السابق.
حاولت أن تربط بين الصوف الذهبي وبين حال التنين المتدهورة.
‘منذ البدء، كان وجود التنين لحماية الصوف الذهبي المقدس.’
لكن الصوف قد اختفى… فكأنّ وجود التنين بات بلا هدف.
‘هل اختفاؤه يُؤدي إلى زوال حياته؟‘
في الرواية، لم تُذكر حملة ثالثة.
ربما لأن الثانية انتهت بعجز التنين عن قيادة الوحوش أو مواجهة البشر.
شاركت هيلي شكوكها مع ديلان،
الذي أنصت لها بوجهٍ متأمّل، ثم سأل.
“وإن صحّ أنّ التنين في حالٍ متدهور… فهل تعجز قوّتك عن مداواته؟ إنهم لم يطلبوا منك ذلك.”
“ربما لا يرغبون في الكشف عن ضعف ملكهم أمام البشر.”
تنهد ديلان بعمق، وتهاوت تلك الزفرة الثقيلة على أرض العربة كأنّها حجر من جبل.
كان القلق بشأن الحملة الثانية ينهكه، والآن ازدادت همومه.
“علينا أن نُواجه ريكام حال عودتنا. نكشف حجم معرفته بالوحوش، ونُثبت إن كان البابا قد أمره بإخفاء الحقيقة.”
“وأمر إعادة الصوف الأفضل أن يُعرض على الأميرة.”
“صحيح.”
أجاب بصوتٍ خافت مجروح، ثم ابتسم.
وهكذا، وصلوا إلى القصر بلا أي خسائر تُذكر.
وفي اللحظة التي وضعوا فيها أقدامهم على الأرض،
شدّ انتباه ديلان صوتُ حوافر الخيل القادم من بعيد.
كان فارس من فرسان بلوتاروس، وقد أُرسل لاعتقال ريكام.
نزل الفارس الصغير عن ظهر جواده، فسأله ديلان.
“سيلين، ما الأمر؟“
“يا صاحب السمو، الكاهن ريكام أغلق أبواب المعبد!”
حين رأى ريكام الفرسان عند المعبد،
أغلق باب المصلى السفلي ورفض الخروج.
وكان من الصعب اقتحامه حتى على أفراد فرقة رايلا.
“ويبدو أنه… بدأ يهدد بالانتحار من الداخل، مدّعيًا المظلومية.”
إن مات ريكام الآن،
فلن يستطيعوا كشف تورّط البابا في أمر إخفاء مطالب الوحوش.
‘سيُدّعي المعبد أن ريكام تصرّف بمفرده.’
نهض ديلان وأشار بذقنه.
“هيبوليت، اختاري عشرة من الفرقة الأولى.”
“أمرك، سأتجهّز فورًا.”
ثم التفت إلى هيلي، وابتسم بلطف.
“سأذهب الآن.”
لم يكن ليسمح لهيلي بالدخول إلى المعبد،
وحتى لو سُمح لها، ما كان ليأخذها معه.
وضع ديلان يده برفق على كتفها، لامست أصابعه أطراف شعرها، فأحسّ بوخزٍ لطيفٍ أبقى أثرًا في قلبه.
“لقد بقيتِ طويلًا في البرد، فادخلي لترتاحي، هيلي.”
رغم أنّ نسيم تشرين الثاني كان قارسًا،
إلا أنّ صوته ونظراته كانا دافئَين كربيعٍ متفتّح.
“نعم، نعم، سأدخل لأدفئ جسدي قليلًا.”
“ودفّئي يديكِ أيضًا، ثم أمسكيني بها لاحقًا.”
“حسنًا، فأنت تعلم أنّ يديك باردتان.”
يدٌ باردة، تعني قلبًا دافئًا… لكنها لم تشأ أن تُفصح عن الحب الآن.
وبعد وداعٍ صغير بالأيدي،
رحل ديلان مع الفرسان إلى معبد بلوتاروس.
***
“قلتُ لك أن تُبدّل ملابسك.”
“أنا مرهق، مرهق جدًا.”
ألق موري بمعطفه وقبّعته ووشاحه بجانب الموقد، واستلقى أمامه بتعب.
جلست هيلي على الأريكة بجانب حارستها لوس.
لكن لوس لم تستطع أن تحافظ على الجدية أمام دفء النار، فذابت هي الأخرى سريعًا.
وبعد أن ارتخت أعصاب الجميع،
بدأوا يتبادلون الأحاديث الجانبية.
قال موري، وهو يتثاءب.
“انتهى كل شيء، أليس كذلك؟ قالوا إنهم لن يهاجموا إن استعدنا الصوف. يمكنني الآن البحث عن صندوقي!”
“صحيح، سنتوجه قريبًا إلى العاصمة، فلتأتي معنا.”
لاستشارة ديانا بشأن الصوف الذهبي،
ومساءلة البابا، عليهم أن يذهبوا إلى العاصمة.
لكن سرعان ما تغيّر وجه موري،
حين ربط فكرة الصندوق بمعابد بلوتاروس.
“لكن ذلك الكاهن ريكام… رجل حقير فعلًا. كيف له أن يكذب هكذا؟“
“بالضبط…”
حين فكّروا في أن مأساة الرواية نتجت عن تواطؤ المعبد، أحسّوا بالفراغ والغضب.
ضربت لوس ذراع الأريكة بقوّة وقالت.
“لو أُلقي القبض عليه، فقد أُوجه له ضربة بنفسي!”
مجرد ضربة؟!
نظرت إليها هيلي بصمت، وفكّرت في أنها فتاة طيبة فعلًا.
فهي نفسها كانت تنوي أن تخلع أضراسه.
“لماذا يُغلق باب المعبد وقد كُشفت حقيقته؟ كان عليه أن يستسلم بهدوء، ليرتاح الجميع.”
صمتت هيلي للحظة.
‘حقًّا، لماذا بقي ريكام هناك؟‘
لاحظت لوس ارتباكها، فسألت.
“ما الأمر، سيدتي؟“
“ثمّة شيء مريب في تصرّفه.”
“بأيّ معنى؟“
“أليس من الغريب؟ أنا من تفهم لغة الوحوش، وقد شاركت في الحملة، فكان لا بد له أن يعلم بانكشاف كذبه.”
حاولت طرد القلق من صدرها، ثم تابعت.
“لكن لم يهرب. لماذا ظلّ داخل المعبد؟“
لو كانت مكانه، لفرّت قبل وصول الفرسان.
لكنه على العكس، اجتذبهم إلى الأسفل.
‘لماذا يفعل ذلك؟‘
وبينما كانت هيلي ولوس تُفكّران في تصرّفات ريكام،
نادى موري بصوت مرتجف.
“هـ… هيلي.”
كان وجهه شاحبًا كما لم يكن حتى في برد الشتاء.
فسألته هيلي بقلقٍ نادر.
“ما بكِ؟“
“…لقد فُتح الصندوق قبل قليل.
ليس في العاصمة… بل هنا، في بلوتاروس، هيلي.”
حين توجّه ديلان إلى لقاء ريكام،
انفتح الصندوق المحتوي على الكابوس.
فبدلًا من التأوه، عضّت هيلي شفتها السفلى بصمت.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 48"