استمتعوا
من وراء الضباب، وعلى حدود العالم،
كانت تعيش كائنات مخيفة يُطلق عليها البشر اسم ‘الوحوش‘،
وقد بثت الرهبة في النفوس منذ الأزل.
رغم امتلاكها قرونًا تتلألأ تحت أشعة الشمس، كانت تلك الكائنات ترعى الحشائش بهدوء كأنها بهائم وديعة لا تعرف الأذى.
كانت تفهم لغة البشر، غير أنها لا تستطيع النطق بها.
ولهذا، كانت تنتظر إنسانًا بسمعٍ مفتوح،
قادرٍ على فهم لغتهم ونقلها إلى بني جنسه.
كان الغرض من مجيئهم إلى هذا العالم هو إيصال رسالة إلى البشر.
“ملكنا يرغب في استعادة الأثر المقدّس الذي فُقد منذ زمن بعيد.”
“ولأجل استعادته، لا بد من الحوار مع البشر،
وللحوار نحتاج إلى إنسان ذي سمع مفتوح.”
كانت الوحوش تولد وفيها نفحة من قوى الحكام، وكذلك أولئك البشر ذوو السمع المفتوح، إذ يحملون ذات الأثر المقدّس، ما جعلهم قادرين على تمييز بعضهم بعضًا.
وفي أحد الأيام، أبصروا رجلًا بين فرسان بلوتاروس.
كان يرتدي معطفًا سميكًا تُرى من داخله ثياب بيضاء مشغولة بخيوط ذهبية. ذلك الرجل، ذو السمع المفتوح، كان يلبسها.
حين التقت العيون، عرف الإنسان الوحوش، وعرفت الوحوش الإنسان.
تكلمت الوحوش، ففهم الرجل حديثها.
لكن ما إن انقضى الحديث،
حتى شحب وجه الرجل وغادر المكان على الفور.
لقد أعرض عنهم بوضوح، وأدار ظهره وكأن لا شيء كان.
***
حين قالت هيلي إنه يجب وقف الهجوم، سألها ديلان.
“ما الذي تعنينه؟“
“الوحوش لم تكن تنوي إيذاءنا، بل أرادت أن تتحدث معنا.”
ومثل من يسألها عن دليلها، مال برأسه قليلاً.
“هل أخبرتك من قبل؟ بأنني أستطيع سماع صوت الحكام بأذني اليمنى فقط.”
“أجل، فعلتِ.”
“الأمر ذاته ينطبق هنا. وحدهم البشر ذوو السمع المفتوح يمكنهم سماع أصوات الوحوش. لم أكن وحدي، فموري سمعهم أيضًا. لم يأتوا للهجوم، بل جاؤوا طالبين شيئًا، ويريدون من شخص مثلي أن ينقل رسالتهم.”
غير أن تلك الرسالة لم تبلغ آذان البشر، فقوبلت الوحوش بالعدوان.
وبعد لحظة صمت ووجوم، قرر ديلان أن يُوقف الهجوم.
فأشار الفارس لوس بالراية ليعلن الأمر لكل الفرسان.
رفرفت الراية الحمراء بشدة، لكنها في تناقضٍ صارخ،
أوقفت اندفاع الجنود الذين كانوا على وشك الهجوم.
عندها نقلت هيلي وموري كلمات الوحوش إلى ديلان.
بدا أن شيئًا أزعجه، فعبس قليلًا وأمال رأسه متأملًا.
“تقولين إن إنسانًا ذا سمع مفتوح قد تجاهل الوحوش
(مرةً أخرى)؟“
هذا معناه أن شخصًا ما قد التقى بهم من قبل.
وبدل أن ينقل رسالة الوحوش، صمت وأدار ظهره.
“من عساه يكون؟… آه.”
***
“أظن أنه الكاهن الذي كان شديد الرفض يوم ظهرت الوحوش على الحدود.”
“بمجرد أن رأى الوحوش، أصرّ على العودة.”
كأن صاعقة عبرت عقل هيلي،
فتذكّرت وجه الرجل الذي نظر إليها بحدة.
كان اسمه ريكام.
ولم تتردد هيلي، فنطقت.
“إنه كاهن بلوتاروس. لا يملك القوة الشفائية، لكنه ذو سمع مفتوح.”
“وقد رافق الفرسان حين جاؤوا لمراقبة الوحوش.”
وبنبرة من أيقن الحقيقة، قال ديلان.
“رايلا، توجهي إلى المعبد واستدعي ريكام حالًا.”
“أمرك سموك.”
“هيلي، وماذا عنكِ؟“
“سأنزل لأُعالج الوحوش، ثم أسمع منهم ما يريدونه.
طالما أنهم يفهمون لغتنا، فالحوار ممكن.”
بناءً على ما سمعته سابقًا،
أدركت أن الوحوش قادرة على تمييز من يحمل نفحة الحكام.
بل هم من بادروا بطلب الحوار.
لذا، كانت واثقة أنهم لن يؤذوها.
“سأرافقك.”
وقبل أن تُبدي هيلي اعتراضًا، قال ديلان بنبرة ممزوجة بالندم.
“يجب أن أعتذر لهم عمّا صدر منّا، فهم يفهمون حديث البشر.”
***
رؤية دروع الفرسان جعلت الوحوش تثور وتضرب الأرض بأقدامها.
ورغم علمها أنهم لن يهاجموها، تراجعت هيلي قليلًا وقالت.
“أخبرتكم سابقًا أنني جئت لأستمع إليكم.”
ولما لم تهدأ الأرض، رفعت صوتها وقالت.
“جئت للحوار… وللاعتذار، ومعالجة المصابين.”
لكن الوحوش المصابة،
التي كانت تنزف وتتألم، لم تُبدِ استعدادًا للاقتراب من هيلي.
رأت أنه من الأفضل أن تهدّئهم بالكلام أولًا، ثم تعرض العلاج.
[إنها شخص مختلف عن الذي أتى سابقًا. اهدؤوا جميعًا.]
قالها أحدهم، فسكنت الأرض تدريجيًا.
وأظهرت هيلي لهم خلوّها من أي سلاح، وتقدمت بخطوات بطيئة.
“صحيح، لم أركم من قبل. وهذه أول مرة أدرك أنني أستطيع فهم حديثكم. هل تذكرون ملامح الإنسان الذي أتاكم قبلي؟“
[كان رجلاً يرتدي معطفًا أسود. ومن تحته قماش أبيض يلمع بخيوط ذهبية. وكان برفقة فرسانٍ يرتدون الدرع نفسه.]
نقلت هيلي كلام الوحوش إلى ديلان.
“القماش الأبيض بالخيوط الذهبية… هذا زي الكهنة.
ويومها كان برفقة فرسان بلوتاروس.”
تجمدت وجوه الفرسان، وكأن شتاء بلوتاروس قد سكن فيهم.
لقد عرفوا من كان وراء كل شيء.
‘لا بد أن البابا كان على علم.’
بل ربما كان هو من أمر بذلك.
كم هي مأساوية أن كل الكوارث في الرواية وقعت لأن أحدهم فشل في ترجمة الرسائل بشكل صحيح! يبدو أن الاصطحاب الرسمي يحتاج لمترجم حقيقي.
المعبد والإمبراطور كانوا يضغطون على ديلان للتخلص من الوحوش، لكنهم لم يرسلوا كاهنًا بقوة شفائية، بل جعلوا الوحوش التي لا تريد القتال تبدو كعدو، فقط لإشعال حرب.
وبما أن الوحوش لم تؤذِ جامعي الأعشاب أولًا، سألت هيلي.
“ماذا حدث مع جامعي الأعشاب الذين قُتلوا؟“
[وهل ترين قروننا كأعشاب طبية؟]
“إذًا، كانوا يطمعون في قرونكم… أعتذر.”
تنهد الفرسان، كأنهم شهقوا من وقع الصدمة.
‘أوغاد… كذبوا خوفًا من العقاب.’
هيلي تخلّت عن فكرة أن قرون الوحوش جميلة.
بل أحست ببعض الندم.
لكن لم يكن من الضروري أن تصرح بما فكرت به،
لذا قالت شيئًا آخر.
“الرجل الذي رآكم لم يخبرنا بالحقيقة. أنتم ترغبون في شيء، أليس كذلك؟ سأوصل رسالتكم بنفسي هذه المرة.”
ترجمتها كانت حاضرة أمام أعينهم، لا تشوبها شائبة.
راقبتها الوحوش طويلًا بعيون يختلط فيها الشك بالأمل،
ثم تكلم أحدهم.
[ملكنا يريد استعادة صوف الذهب،
الذي نهبتموه منا منذ زمن بعيد.]
كانوا هم أصحاب الصوف الذهبي الأصليين،
الذين سلبته منهم تيلون.
هيلي استحضرت في ذهنها كائنًا أسطوريًّا من قصص قديمة.
“ملككم… هل تعنون التنين؟“
[نعم. إنه الكائن الوحيد الذي نال نعمة الحكام.]
“لكن قيل إن التنين قُتل.”
[إنه فقط غفا في سبات طويل. ملكنا لا يزال حيًّا.]
تنينٌ أسطوري كان يُظن أنه مات على يد الأمير السادس إياسون في عهد مملكة تيلون، لكن الحقيقة أنه لم يُقتل، بل دخل في نوم عميق.
وهذا التنين يريد استعادة صوف الذهب الذي سُلب منه.
ما إن نطقت هيلي بكلمة تنين،
ولمّحت إلى بقائه حيًّا، حتى بدا القلق على وجوه الفرسان.
عودة التنين كانت صادمة، لكنها لم تكن ما شغل تفكير هيلي حقًا.
ما استرعى انتباهها كان أمرًا آخر.
شرحت بهدوء.
“ملك الوحوش هو تنين غفا منذ زمن،
وهو يريد استرداد صوف الذهب.”
“……إذًا لم يُقتل، بل نام.”
أسلافهم لم يقتلوا التنين، بل سكنوه.
وهنا، همست هيلي بصوت خافت لا يسمعه إلا ديلان والوحوش.
“وهو مخلوق نال نعمة الحكام.”
كائن نال نعمة الحكام…
اتسعت عينا ديلان، كما حدث مع هيلي من قبل.
رغم اختلاف توقيت سماعهما للحقيقة، إلا أن النتيجة كانت واحدة.
“اتحاد الكائن الذي نال نعمة الحكام مع العائلة الإمبراطورية سيقود تيلون إلى السلام.”
هكذا نطقت الاوراكل.
لكن المقصود لم يكن زواج هيلي من أحد أفراد العائلة الأمبراطورية.
بل كان اتحاد التنين، حامل نعمة الحكام، مع تيلون.
تذكّر ديلان محتوى رسالة ديانا.
كما قالت، الاوراكل لم تذكر ‘إنسانًا‘، بل ‘كائنًا‘.
نظر ديلان نحو هيلي ببطء.
وعلى وجهها الشاحب، ارتسمت ابتسامة هادئة.
وسط خليطٍ من المشاعر المتضاربة في داخلها،
لم يكن يسطع بوضوح سوى إحساسٍ عارم… بالتحرّر.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 47"