استمتعوا
لحظة انفصال الشفاه المتلامسة، استرجع ديلان ماضيه.
لماذا دائمًا ما ينطق أبطال القصص بتلك العبارات؟
“حين تنتهي الحرب ونعود سالمين إلى الوطن، لنفتح متجرًا معًا“،
أو “إن نجحت هذه المهمة، هل تتزوجينني؟“
كان الشخصيات في القصص يقولون شيئًا كهذا،
ثم لا يعودون أبدًا.
‘ذلك لم يكن تعويذة موت، بل أملًا في المستقبل ليس إلا.’
ومع ذلك، مات كثيرون منهم على هذا النحو.
لذا، حين ينطق أحد الأبطال في موقف عصيب بكلمات تحمل رجاءً، يشعر القارئ بأن هذا الرجاء لن يتحقق.
في طفولته، قرأ ديلان قصة عن رجل أُوكلت إليه مهمة سرية من الملك.
في الليلة التي سبقت رحيله، قال لحبيبته من تحت نافذتها.
“حين تنتهي هذه المهمة، هل تتزوجينني؟“
ثم مات أثناء تأدية المهمة.
ولما علمت الحبيبة بموته، بكت بحرقة.
وقتها، تساءل ديلان في نفسه.
‘ألم يكن من الأفضل أن يقول لها ذلك بعد أن يعود سالمًا؟‘
فهو لم يكن واثقًا من نجاته، فلمَ يغرس في قلبها أملًا كاذبًا؟
لو لم تسمع اعترافه، لما انتظرته بذلك الحماس، ولما تألمت بموته كل هذا الألم.
‘…لطالما فكرت هكذا.’
ومع ذلك، هو أيضًا، كاد أن ينطق بأمل زائف أمام هيلي.
والسبب أنه لم يكن يرى ذلك الكلام أملًا زائفًا،
بل رغبة صادقة ملتهبة.
حتى في القصص، لم تكن تلك الكلمات عبثًا لأصحابها.
قد يراها القارئ خيبة مستقبلية، لأنه يعرف مجريات الحكاية،
لكن أولئك الشخصيات، لم يكونوا يعلمون.
ولم يدرك ديلان، الأحمق، صدق مشاعره تجاه المستقبل الذي يحلم به، إلا حين أسقط نفسه في دور ذلك البطل.
***
“أوه، أشعر وكأن أنفي سيتجمد ويسقط!”
في فجر يوم قتال الوحوش في شهر نوفمبر من بلوتاروس،
أطلق موري تلك الشكوى من داخل خيمة علاج الجرحى.
كان محاط بثياب من الفرو، وشال، وقفازات دافئة.
أما هيلي، فرغم أنها لم تكن مثل موري، فقد ارتدت ملابس ثقيلة.
كان الجو عاصفًا، وأوراق الشجر القليلة المتبقية تتمايل ببؤس تحت قسوة الرياح.
لذلك، بدلًا من توبيخها، تلقى موري مواساة صادقة.
“حقًا، سمعت أن بلوتاروس باردة، لكن لم أتوقع هذا الصقيع.”
بسبب الطقس المعتدل في يوم المهرجان،
كانت هيلي قد اعتقدت أن خريف بلوتاروس محتمل.
لكن بمجرد تجاوز وقت معين، بدأت الرياح الجليدية تعصف وكأنها تنحت في العظام.
كان عليها أن تتوقع هذه المحنة، خاصة بعد أن رأت رفوف الحانة تمتلئ بالمشروبات الكحولية الثقيلة.
“حين تنتهي المعركة،
عليك مساعدتي في استعادة صندوقي، اتفقنا؟“
“قلت لك، حاضر.”
أخبرت هيلي موري أن الصندوقين أصبحا الآن في يد الماركيز والبابا.
وما إن سمع ذلك حتى همّ بالهجوم على منزل النبلاء والكنيسة معًا، لولا أن هيلي أمسكت به.
فذلك الفتى الساذج، إن ذهب دون حذر، سيُستغل بأسوأ طريقة ممكنة.
ولتبقيه في بلوتاروس، اضطرت هيلي إلى قطع وعد.
أن ترافقه إلى العاصمة بعد انتهاء المعركة بنجاح.
‘رؤية والدي لن تكون صعبة، لكن… كيف أصل إلى البابا؟‘
ربما لو أثارت والدها قليلًا، لأمكنها دخول قصر الماركيز.
لكن المشكلة كانت في الكنيسة.
فهيلي، بعد أن نُبذت منها، لم يعد يُسمح لها بالدخول.
‘هل سنستطيع التسلل تحت جنح الليل؟‘
لكن إن كانت إيفي نفسها لم تجد شيئًا،
فلن يكون من السهل على هيلي وموري النجاح.
‘يا لهذا الأحمق، كيف يُسقط شيئًا بهذه الأهمية تحت السرير…!’
وهي تشتم الحاكم في سرّها على هذه الفوضى،
إذا بموري يصرخ.
“أنتِ تشتِمين الآن، أليس كذلك؟!”
رأى نظرة غير مألوفة في عينيها، فارتبك.
لكن هيلي ردّت ببرود.
“لا.”
“لا؟ لقد كنتِ تحدقين فيّ!”
“قلت لكَ ألف مرة، أنا عيني هكذا دائمًا.”
فكّر في حدة عينيها المعتادة، وهز رأسه بتردد، ثم تمتم.
“صحيح، لكن… كانت نظرتك أكثر برودة من المعتاد.”
“ربما خُدعك البرد.”
“ر… ربما.”
واستمر الحديث حول الصندوق المؤجل إلى ما بعد انتهاء المعركة، فقررت هيلي التركيز على ما سيحدث الآن.
أعادت استذكار الكتاب الذي رأته في حلمها، حين دهستها العربة.
لم تكن المعلومات عن المعركة كثيرة، لكنها كانت كل ما لديها.
المعركة الأولى ضد الوحوش، التي كان عددها قليلاً نسبيًا،
انتهت بنجاح على يد فرسان بلوتاروس.
لم يُطلق عليها ‘المعركة الأولى‘ وقتها،
لأن الجميع اعتقد أن الخطر انتهى.
لكن عند اللحظة التي ظن فيها الناس أن كل شيء انتهى،
تدفقت أعداد لا تُحصى من الوحوش وهاجمت الإقليم،
معلنة بدء المعركة الثانية.
‘…والمعركة الثانية كانت كارثة حقيقية.’
اجتاحت الوحوش المكان، تنفث النار، ولم يكن هناك من يصدها.
‘ولا حتى كاهن يمتلك قوى مقدسة.’
والأرض خلف الحدود التي احتلتها الوحوش لم تكن شاسعة.
‘فمن أين خرجت كل تلك الوحوش إذًا؟ هل نبتت من الأرض…؟‘
وبينما هيلي تفكر بما سيأتي، رتّبت الأدوات داخل الخيمة وخرجت، تكشف عن وشاحها الداكن.
كانت خصلات شعرها مشدودة بإحكام، فلم تعقها عن الرؤية رغم الرياح.
ضربها الهواء البارد مباشرة على وجهها، فتنبهت والتفتت.
تجمعت الوحوش السوداء،
التي لم تشعر بوجود البشر،في مجموعات صغيرة،
بينما تمركز فرسان بلوتاروس في أماكن مرتفعة وأحاطوا بهم.
حين يُطلق الفرسان السهام، ستطلق الوحوش النار كرد فعل.
وبما أن بين كل نوبة نارية وأخرى وقت انتظار، فالخطة كانت هي استغلال تلك الثغرة لدحرجة صخور ضخمة على الوحوش.
وبالفعل، وتحت قيادة ديلان، انطلقت السهام المزوّدة برؤوس حجرية، تهطل كالمطر نحو الوحوش.
صرخت الوحوش المصابة من الألم، ثم بدأت تطلق النار بجنون.
لكن نيرانها لم تؤذِ لا الفرسان ولا الطبيعة، وفقًا للتقارير.
كانت مقاومة بلا معنى.
‘…لحظة.’
فجأة، بدأت عينا هيلي ترتجفان،
بعدما كانت تراقب الوحوش ببرود.
“ما هذا… ما الذي يحدث هنا؟“
كما هي العادة، كانت الأصوات تتدفق إلى أذنيها.
الريح، همسات الفرسان، وقع الأقدام، وصراخ الوحوش.
لكن كان هناك صوت مختلف.
لم يكن واضحًا، لكن كان يحمل كلمات، يترافق مع بكاء شرس.
‘من أين يأتي هذا الصوت؟‘
لم يكن من الفرسان، فهم لم يُظهروا أيّ علامة على سماعه.
“لا يعقل…”
بدأت تُمعن في التركيز، وعلامات الشك واليقين ترتسم على وجهها، ثم غطّت أذنها اليسرى بيدها.
“هاه…”
الآن فقط، صار الصوت واضحًا.
رغم الضوضاء، كانت الكلمات مفهومة.
كانت تسمع صوت أحدهم… من أذنها اليمنى.
الأذن التي أُعيد بناؤها بقدرة الحاكم، تلك التي تسمع صوت الحكام، بدأت تنقل إليها صرخات مؤلمة.
[ألم… ألم لا يُحتمل! أنقذونا!]
[كيف للإنسان أن يتجاهل صوتنا بهذا العنف؟!]
[هناك من يسمع صوت الحكام بينكم… إنه هناك مجددًا!]
[أوقفوا الهجوم، وتحدثوا إلينا!]
“هيلي!”
خرج موري من الخيمة يلهث، وجهه الشاحب يفصح عن صدمة.
سألها بفزع.
“هل… سمعتِ ذلك؟“
“…سمعت.”
هزّت هيلي رأسها، وجهها يقطر قلقًا.
يبدو أن موري، الذي لا يزال يحتفظ ببقايا ضئيلة من القوة المقدسة، سمع الصوت أيضًا.
لكن… لمن تعود تلك الأصوات؟
كانت الأذن اليمنى مخصصة لسماع صوت الحكام.
لكن الحكام لم تكن هم من يتألم.
الكائنات التي كانت تتألم وتلوم البشر، كانت واضحة تمامًا.
هيلي، التي كانت تحدق في موري،
وجهت نظرها نحو الوحوش في الأسفل.
لطالما قيل إن صرخات الوحوش تمزق الآذان.
لكن ‘الصرخات‘… كانت كلمة بشرية بحتة.
فالوحوش، لم تكن تبكي… بل تتحدث.
“هيلي، إنهم يقولون إنهم لا يريدون القتال،
يطلبون أن نصغي إليهم… ماذا نفعل؟“
وسمعت هيلي ذلك بوضوح أيضًا.
“يجب أن نوقف الهجوم.”
كان لا بد من إيقاف الفرسان،
الذين على وشك إطلاق السهام ودحرجة الصخور.
فصرخت بصوت جهوري، تنادي الرجل صاحب القرار الأعلى.
“ديلان!”
“هيلي؟“
استدار فورًا، وقد علت وجهه علامات الاستغراب.
“ديلان، أوقف الهجوم حالًا! إنهم لا يريدون القتال!”
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 46"