استمتعوا
“لقد عثرنا على مُرسل الرسالة.”
في الليلة التي سبقت مغادرتها إلى بلوتاروس، كانت هيلي قد تمددت على سريرها بحجّة ادّخار طاقتها استعدادًا لرحلة العربة المُرهقة. وبينما كانت مستلقية في كسل ظاهر، جاءها خادمها ويليام حاملاً تقريرًا.
بدأ حديثه بصوت هادئ رصين.
“الرسالة أُرسلت من صبي يُدعى ‘روان‘، في الثانية عشرة من عمره، يسكن في شارع تولافول.”
“لكن الصبي لم يكن هو من كتب الرسالة، أليس كذلك؟“
لا شك أنّ مجهولًا كلّف الصبي بإرسال رسالة كُتبت مسبقًا.
“نعم، امرأة زارته وأعطته مالًا، ثم جعلته ينسخ الرسالة بخطّه.”
اختارت عمدًا صبيًّا لا يُجيد القراءة، فطلبت منه نسخ الرسالة وإرسالها بدلاً منها. لاحظ ويليام أن ملامح هيلي لم تتغير كثيرًا، فتابع حديثه.
“لم يرَ وجهها جيدًا، لكنه قال إنه شمّ منها رائحة منعشة وعطرة.”
امرأةٌ تفوح منها رائحة العشب النديّ.
بدأ عبيرٌ مألوف من وهم الأعشاب العطرية يداعب أنف هيلي، لتتحوّل ملامحها فجأة إلى دهشة مشوبة بالاضطراب.
وما نطقت به شفاهها المرتعشة لم يكن تأوّهًا يعكس مشاعرها، بل كان اسم امرأة.
“…إينو.”
لم يخطر ببالها أحدٌ سواها. إذ إنّ رائحة العشب تلك، كانت تلازم إينو دائمًا كلّما التقت بها داخل القصر.
‘ما الذي تفكر فيه تلك المرأة لتفعل شيئًا كهذا؟‘
كان من الغريب أن يثير اسم إينو في نفسها الارتباك، لا الغضب. وبينما كانت تستعيد ملامحها ورائحتها بوضوح، قالت.
“راقبوا زوجة الماركيز ترافيا، وأي تصرف مريب يصدر منها، أبلغوني فورًا. ثمة احتمال كبير بأنها من أمر بإرسال الرسالة.”
“زوجة الماركيز…؟“
كان ويليام قد شارك في خطة هيلي وديلان لاستقدام نيفيلي، لذا اطّلع على الرسالة التي تحمل موقع اختبائها. ولأنّ نيفيلي وُجدت بالفعل في ذاك المكان، فقد علم بصحة الرسالة. إلا أنه لم يكن يعلم أنّ إينو هي من أرسلتها.
ولم يكن ثمّة منطق واضح يجعل من إينو ترافيا، زوجة الماركيز الحالية، تقدم على مساعدة ابنة زوجة الماركيز السابقة.
تملّكه التردّد للحظة، ثم سرعان ما تماسك وأومأ امتثالًا لأوامر هيلي.
***
مع انخفاض درجات الحرارة، توسّع الضباب الذي يُخيّم على الحدود التي يسيطر عليها الوحوش، ما دلّ على اتّساع نطاق تحركهم.
وقبل أسبوع، تسبّب أحد الوحوش بخطأ تجاوز الحدود، فأحرق أحد جامعي الأعشاب في بلوتاروس حيًّا. فتضاعف قلق السكان.
كانت تلك الوحوش تأخذ شكل الثيران، وتنفث لهيبًا حارقًا من أفواهها، ما صعّب على الفرسان الاقتراب منها.
وكان من اللافت أنّ قرونها لم تكن عادية، بل تكوّنت من أحجار كريمة نادرة.
ولذا، فقد اتّفق الجميع على ضرورة الاحتفاظ بالجلود والقرون بعد القضاء عليها.
ووافقت هيلي على ذلك خلال مشاركتها في اجتماع حملة الإبادة بصفتها حاملة للقوة الإلهية.
“لكن هناك مشكلة صغيرة، وهي أن عويل الوحوش عالٍ جدًا.”
“هل علينا ارتداء سدادات للأذنين؟“
“وهل سنسمع الأوامر إن فعلنا، أيها الغبي؟“
“مع ذلك، لِنأخذ بعضًا منها، فقد نحتاجها.”
وأثناء تتابع النقاش، همست هيلي لموري، الجالس بجوارها بصفته حاملًا للقوة الإلهية.
“أعتقد أنّ عدد المصابين بالحروق سيكون أكبر ممن يُصابون بنطح الثيران.”
وأثناء استرجاعها لتفاصيل التقرير في ذهنها، نقرَت بأصابعها على الطاولة.
‘بما أنّ السهام قادرة على اختراق الجلد، فهذه الوحوش ليست منيعة.’
المعركة لن تُخاض في أرض مستوية.
فرسان الإمبراطورية قرّروا التمركز في المرتفعات خارج مدى النيران، ليطلقوا سهامهم في هجومٍ خاطف.
“وهل تظنين أنّ أحدًا سيبقى ليصاب؟ قد يتحوّلون إلى رماد في لحظة!”
“هيا…”
‘قلتُها همسًا، فصرخ بها هذا الأحمق وكأنني لم أقل شيئًا!’
أطلق موري مزحة قاتمة بنبرة مبتهجة.
ولكن صوته كان مرتفعًا، مما أفسد سرّية همس هيلي،
فجُمّد جوّ القاعة فجأة.
ابتلع أحد الفرسان ريقه وتحدث بتوتر.
“…قيل إنّ قوتهم النارية ليست بهذه الشدة!”
“وإن لم تكن؟!”
“تفاصيل أقصى مدى للهيب مكتوبة في التقرير أمامك!”
“آه، لا أقرأ ما يزيد عن ثلاثة أسطر…”
قلّب موري صفحات التقرير بتذمّر، فانهالت عليه نظرات شكّ توحي بعدم الثقة في قدرته على علاج الجرحى.
لكن، ما باليد حيلة، فحاملو القوة الإلهية في بلوتاروس لا يتجاوزون هيلي وموري.
ظلّ الاجتماع مستمرًا حتى الليل،
حينها فقط تمكنت هيلي من مغادرة القاعة.
***
سارت هيلي إلى غرفتها بجسدٍ متعب،
ثم رمت بنفسها على السرير، آملة أن تغفو.
إلا أنّ فكرة باغتتها فجأة وأبعدت عنها النوم.
‘قالوا إنّ العشّاب احترق بالنار…’
* العشاب قصدهم الي يجمع الأعشاب
لكن لم تُعثر في مكانه على أي أثر لاحتراق الأعشاب.
رغم أن الوحوش قد نفثت النار، فإنّ الأرض المحيطة كانت سليمة تمامًا.
بدأت فكرة تجول في ذهنها: ربما كانت تلك الوحوش أقرب إلى الطبيعة، تعادي الإنسان باعتباره العدو الحقيقي لها.
‘لكن ما الفائدة؟ لم يتمكنوا حتى من إحراق الأحجار التي تُستخدم لقتلهم.’
فالأسلحة الباهظة لم تُجدِ نفعًا.
وحدها الحجارة العادية قادرة على إصابتهم،
وهم بدورهم لا يملكون القدرة على إحراقها.
وبينما كانت غارقة في تأملاتها،
قطع تفكيرها صوت طرقٍ على الباب.
“هيلي.”
صوت ديلان الذي بات مألوفًا للغاية.
جلست وذهبت لفتح الباب.
“نعم؟“
“هل يمكنني الدخول للحظة؟“
“بالطبع.”
دخل إلى الغرفة، لكن على غير عادته بدا متردّدًا،
وكأنه متحيّر في ما سيقوله.
تأمّلته هيلي بعينين تحملان دفئًا لطيفًا، ثم سألت.
“هل هناك ما يزعجك؟“
“في الحقيقة… أردت فقط قول شيء.”
“ما هو؟“
تنحنح ديلان قليلًا، ثم قال بنبرة أقرب إلى اقتراح رقيق.
“حين تنتهي الحملة… ما رأيك لو نحن-“
لكن قبل أن يتمّ كلامه،
اتّسعت عينا هيلي نصف المُغمضتين على نحو مفاجئ.
‘ما الذي يحاول قوله الآن!’
كلمات مثل ‘حين نعود‘ أو ‘لنقم بكذا بعد الحرب‘ لا تُقال في القصص إلا حين يودّع أحدهم الحياة.
فكأنّ من يتفوّه بها، يعلن موته مسبقًا.
“توقف!”
“همم؟“
“لا تُكمل.”
سارعت هيلي لتكميم فمه بكفّها.
فسألها بصوتٍ مكتوم.
“لماذا؟“
“أنت شخص يقرأ الكثير من الروايات، كيف لم تنتبه لهذا؟
كلّ من يقول مثل هذه الجملة يموت بعدها!”
كانت تعلم أنّ شخصيات القصص تموت بعد تلك العبارات لا بسببها، ومع ذلك…
‘لا بأس ببعض الحذر، خاصة وأنّنا أيضًا داخل قصة.’
بهذا، سحبت هيلي ديلان من حافة الموت الرمزيّ،
قبل أن يخطو خطوة أخرى نحو القدر.
تذكّر ديلان عبارته وتنهّد ضاحكًا ضحكة غامضة.
وقد لاحظ كيف تُفرط هيلي في الاستعداد للحملة بجديّة مفرطة.
لكنه شعر بالسرور حيال قلقها عليه.
أمسك بيدها التي كانت على فمه، وضمّها بأصابعه بلطف.
“إذًا، أنقذتِني؟ حقًا لا عجب أن تكوني قديسة سابقة.”
“تُفسّر الأمر بطريقتك مجددًا…”
“يقولون. التفسير أهم من الحلم ذاته.”
ابتسم بخفة، فضحكت هيلي مندهشة من ثقته بنفسه.
“لكل تفسير حدوده.”
“هل كان تفسيري خاطئًا؟“
سألها، وكأنه يقول،
“أليس لأنك قلقة عليّ تمنيتِ أن لا أقول تلك العبارة المشؤومة؟“
كانت عيناه تلمعان بالحياة وقد زالت عنه آثار التعب.
“…”
وشعرت هيلي بالارتباك.
صحيح أن قصده كان مطابقًا لنيّتها،
لكن سماع تفسيرها بصوتٍ عالٍ جعلها تشعر بالحرج.
وما لبثت أن أدركت أنّ كلتا يديها ما تزالان في قبضته.
“بما أنّكِ كنتِ تفسّرين كلمات الحاكم، فبمَ تُقيّمين تفسيري؟“
ديلان، الذي لطالما تفوّق في الأدب واللغات، كان واثقًا من تقييمه.
تأمّلته هيلي وهو يبتسم بعينين منحنية الأطراف،
فأظهرت وجهًا جامدًا مصطنعًا.
ثم تظاهرت بتجاهل ابتسامته،
وشدّت قبضتها على يده، لتسحبه نحوها.
كما حدث في تلك الليلة حين تظاهروا بالنوم في المعبد،
لم يقاوم ديلان وترك نفسه يُسحب إليها.
اقترب منها وهمس بصوت منخفض.
“…سأعدّ تفسيري دقيقًا جدًا إذًا.”
“نعم، دقيق للغاية.”
في عتمة الليل، أُغرقت هيلي بنظراته الذهبية الحارّة،
التي بدت كأنها نسيت كيف ترفّ.
انحنى نحوها ببطء، وأمال رأسه، ليتلامسا لا عبر الجبين هذه المرة، بل عبر الشفاه، في إحساس غريب عليهما كليهما.
فأغلب الناس يمرّون أولًا بالحب ثم الزواج،
لكنهما اختارا الزواج أولًا، ومن ثمّ بدأ حبّهما في النمو.
وبينما يغوص البحر من الضحل إلى العميق،
ويعود من العميق إلى الضحل، فإنّ مشاعرهما،
وإن بدت معكوسة، تسير في طريقها الطبيعي الآن.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 45"