استمتعوا
“وماذا إن كنتُ قد سقطتُ أصلًا إلى القاع؟“
“هممم…”
على عكس القوى المقدسة، لا يمكن للسحر أن يُعيد الحياة لإنسان.
وبعد تفكير، قالت هي بهدوء.
“عليّ أن أتعلم الطب.”
لأنكِ لا يجب أن تموتي.
“لو رأيتكِ تموتين أمامي، ولم أستطع أن أفعل شيئًا… أظن أنني سأكره نفسي كثيرًا.”
ما كنت لأكره موتكِ، بل كنت سأكره عجز نفسي حينها.
نطقت كلماتها بصوت جاف.
أمسكت أوينوني يد ميديا بقوة، يدٌ لطالما كانت باردة،
لكن دفء أوينوني بدأ يتسلل إليها.
“إذا كنتِ تقولين إنك لم تفعلي شيئًا،
فأنتِ مخطئة… لقد فعلتِ شيئًا بالفعل.”
“أنا؟“
“نعم. في اليوم الذي التقينا فيه لأول مرة، كنت أنوي الانتحار.
كنت خائفة من أن أتوقف عن الحصول على الدعم لأن علاماتي انخفضت، فجلست أبكي… ثم التقيتك. وقدمتِ لي بعض الخبز… وكان لذيذًا جدًا! حين أكلته، شعرت بطاقة غريبة، وقررت أن أعيش يومًا آخر.”
“لكن من أنقذكِ لم أكن أنا، بل الخبز.”
“لولاكِ، لما كان هناك خبز من الأساس! كنت في حالة نفسية لا تسمح لي حتى بملاحظة أي شيء.”
أحقًا تكون الوقاية خيرًا من العلاج؟
‘الوقاية‘ قبل ‘الوفاة‘.
راودت ميديا هذه الكلمات،
فابتسمت وهي تنظر إلى أوينونه.
لقد كانت أيامًا سعيدة.
***
بينما كانت ميديا وأوينوني تتعلمان الطب، بدأن أيضًا بتعلم علم الأعشاب من كيركي، التي لم يكن لها مثيل في هذا المجال.
وفي ذلك الوقت، قررت أوينوني أن تصبح طبيبة.
وحين اعتادت الفتاتان العيش معًا كثلث في حضرة معلمتهما،
وقع ما لم يكن في الحسبان.
فقد قام منزل تان، تلك الأسرة المتغطرسة، بطرد كيركي،
كاهنة هيكات، من أرضهم.
غضبت كيركي، وأقسمت أنها لن تطأ هذه البلاد البائسة مجددًا، ثم غادرت تيلون إلى غير رجعة
وفي اليوم الذي عاد فيه العدد من ثلاثة إلى اثنتين، بكت أوينوني بشدة لرحيل معلمتها، بينما كانت ميديا جامدةً كالجثة، باردة لا تبكي.
كانت على يقين أن كيركي ستعود عاجلًا أم آجلًا إلى تيلون.
‘ستتجرّع جرعة تغيّر بها وجهها، وتظهر أمامي بوقاحة لتصفعني على جبيني وتقول: لماذا لا تدرسين؟‘
لكن يبدو أن أوينوني نظرت إلى الأمر بنظرة مختلفة.
في تلك الليلة، تقدّمت إلى ميديا باكية، وطلبت منها.
“ألا يمكن أن تتوقفي عن ذلك؟“
وما كانت بحاجة لأن توضّح ماذا تقصد بـ ‘ذلك‘.
كانت تقصد عبادة حاكمة هيكاتي، حاكمة السحر.
لكن ميديا رفضت.
فهي تحب صديقتها، كما تحب حاكمتها،
بل كانت هيكاتي تمثل كينونتها نفسها.
أوينوني كانت تدرك ذلك، لذا بقيت بجانبها كصديقة.
إيمان، سحر، صداقة.
لم تخسر ميديا أيًّا من ذلك.
***
أوينوني أصبحت طبيبة بارعة.
تركت العاصمة وافتتحت عيادتها الخاصة،
ثم وقعت في حب رجل لا يملك شيئًا يُدعى باريس.
وبينما كانت تستعد للزواج، بدت في قمة السعادة،
وكأنها امتلكت الدنيا وما فيها.
ولكن، شعرت ميديا بشيء غير مريح،
شعور ينبئها بالشر القادم، فقالت:
“ألا يمكن ان تتوقفي عن ذلك؟“
تمامًا كما فعلت أوينوني معها في الماضي.
لم تُوضح ميديا ما هو الشيء الذي لا تريده أن يتم،
لكن أوينوني فهمت، كما فهمت ميديا ذات يوم.
“لقد كنت يتيمة، فكان حلمي أن أتزوج الرجل الذي أحبه،
وأرزق منه بأطفال، ونعيش حياةً سعيدة.”
أومأت ميديا برأسها، وتمنّت لها السعادة،
وقدّمت لها هدية زفافٍ سخية.
كانتا أقرب الأصدقاء.
“لكن، ليتني كنت أكثر إصرارًا حينها على إيقافها…”
لكن كما هو الحال دائمًا،
الندم بعد وقوع الأمر لا فائدة منه ولا معنى.
مرّ الوقت، وتزوّج معظم من حولهما.
ولم يظهر أي خبر من كيركي التي غابت طويلًا.
بعد زواج أوينوني، بدأ الماركيز يقترح على ميديا الزواج أيضًا.
وبالرغم من استمرار صداقتهما، إلّا أن أوينوني ابتعدت عن العاصمة، وأصبح حديثها أكثر عن زوجها وأقل عن نفسها. فتضاءل القاسم المشترك بين الصديقتين.
وحينها ارتكبت ميديا أحمق قرارات حياتها.
تزوجت، مدفوعة بخوفها من الوحدة.
وحين أنجبت توأمًا، قالت.
“سأسمي الابنة الكبرى ديانا. كوني أنا من أنجبتها، أظن أن من حقي أن أختار اسمها. أما الأمير، فلم يُطلق عليه اسم بعد، لذا يمكنك أن تختار له اسماً، ليكن ديلاً إن شئت.”
“…ما الذي قلتَه قبل قليل؟ هل قلت ديلان؟“
“آه، خرج الاسم مني فجأة وأنا أتحدث.
لا بأس به، ما رأيك أن نعتمد هذا الاسم؟“
هكذا أصبح اسم الكبرى ديانا، واسم الأصغر ديلان.
ثم… اختفى السحر.
نتيجة كانت متوقعة، فقد أخبرتها كيركي من قبل.
الساحرة التي تنجب، تفقد قواها.
وما دامت غير قادرة على استخدام السحر أمام العامة أصلًا،
فما الفرق إن اختفى؟ شعرت أن لا بأس في أن تعيش حياتها هكذا، حتى ذلك اليوم—
اليوم الذي علمت فيه أن باريس قد هجر أوينوني.
تبيّن أنه الابن المفقود لأحد نبلاء مملكة جوريم، وحين عاد إلى بلده، وقع في حب امرأة أخرى، وتخلى عن أوينوني.
أي عار هذا؟! إن كان هناك من يستحق التمزّق، فهو هو، لا قلب صديقتها!
غضبت ميديا، لكنها أخرت غضبها وركضت لملاقاة صديقتها.
ظنت أنها ستراها تبكي، لكنها لم تكن تبكي.
لقد جفّت دموعها منذ زمن.
وكان جفاف عينيها يمنحها مظهرًا متماسكًا.
قالت أوينوني.
“سأغادر هذا المكان. أريد أن أستقر في مكان آخر.”
“إلى أين؟“
“لا أدري. سأتنقل إلى أن أجد مكانًا يروق لي.”
“حسنًا. فقط تذكّري شيئًا واحدًا: أنا دائمًا من أريد لكِ السعادة.”
“شكرًا لكِ.”
ورحلت الصديقة إلى بعيد. السحر كان قد اختفى منذ زمن.
يا هيكاتي…
لم يتبقّ لي سواكِ.
أغلقت ميديا يديها الفارغتين بإحكام،
وكأنها تحاول ألا تُفلت إيمانها غير المرئي.
***
كان التوأم، اللذان نشآ في كنف مربية،
يزوران ميديا من حين لآخر، وقد بدت أعينهم دائمًا متلألئة.
كانت تتفاجأ كل مرة من نموهما السريع.
‘هل كبرتما بهذه السرعة؟ تشبهان الأعشاب تمامًا…’
ثم يخطر ببالها.
‘ليت أعشابي الطبية تنمو بهذه السهولة…’
لكنها كانت نباتات صعبة المراس.
ورغم أن ميديا لم تبذل جهدًا خاصًا مع الأطفال،
إلا أنهم كانوا يحبونها.
سألت إحدى الوصيفات عن السبب،
فأجابت ببساطة. “لأنكِ والدتهم.”
‘أتحبونني فقط لأنني أنجبتكم؟‘
‘أما أنا… فلا أحبكما لمجرد أنني أنجبتكما.’
لم تكن تكرههما، لكنها لم تكن تحبهما أيضًا.
لم تشعر بشيء.
لم يكن ذلك بسبب فقدان السحر، بل كانت طبيعتها هكذا.
فقد كانت هي أيضًا لا تحب والديها لمجرد أنهما أنجباها.
حتى أختها في منزل الماركيز، لم تتعلق بها، ولا حتى بالمربية.
وكان التوأم يكبران كل مرة، ويعودان إلى ميديا.
وحين راقبتهم عن قرب، فكرت مجددًا.
‘متى ستتفتح نباتاتي؟‘
هذا العشب يُستخدم زهوره كمسكن للألم.
تنهدت وهي تُعرض عن مقولة ‘الصبر مفتاح الفرج‘.
***
وفي عام بدأ الأطفال فيه يظهرون مشاعر أكثر نضجًا وتفاعلًا إيجابيًا، ظهرت كيركي، متخفية في هيئة كبيرة الوصيفات.
“لقد أنجبتِ، إذًا فقدتِ قواكِ.”
تسارعت أنفاس ميديا حين أدركت من تكون.
‘أين كنتِ طوال هذه المدة؟‘
‘لو كنتِ هنا، لربما لم أقم بذلك القرار الغبي…’
لكنها كانت سعيدة للغاية بلقاء عمتها، حتى نسيت أن تلومها.
كان شوقها يكفي لالتهام أي لوم أو عتاب.
شرحت كيركي سبب غيابها.
“سُحبتُ عن غير قصد إلى بُعدٍ آخر. كان عالمًا غريبًا.
مبانٍ شاهقة، وشعور الناس أقرب لأهل الشرق. لكن، كما هنا،
كان هناك وحوش تظهر بين حين وآخر. يسمونها ‘زنزانة‘.
ولولا أنني أمتلك السحر، لافترسوني.”
“سعيدة أنكِ عدتِ سالمة.”
ثم سألت كيركي،
تلك التي كانت تُدعى ساحرة، من لم تعد تُسمى ساحرة.
“هل ندمتِ؟“
“نعم، ندمت. كل ليلة أندب حظي، وأتمنى العودة بالزمن إلى الوراء.”
ظنّت أنها ستتمكن من العيش دون سحر.
لكنها لم تستطع.
شعور بأنها فقدت زمنها ورومانسيتها الخاصة كان يُثقل قلبها.
لم تبكِ، لكنها كانت تتألم بصمت.
“لماذا فعلتِ ذلك إذًا؟ ألم تكوني تعرفين أنكِ ستندمين؟“
“…لأن الجميع كانوا يعيشون هكذا.”
الجميع حولها تزوج، وأنجب.
ففعلت مثلهم. وندمت.
“لكن، لمجرد أن الجميع يسلك طريقًا، لا يعني أنه مناسب لكِ أنتِ.”
أنا أعلم.
لكنني لم أستطع أن أتحمل الخروج عن القطيع،
ففقدت جزءًا من نفسي.
“أما زال هناك وسيلة لأستعيد قوتي؟“
“لا أدري… لكنني سأبحث عن طريقة. وأنتِ، لا تفقدي الأمل أبدًا.”
غادرت كيركي للبحث عن الحل.
أما ميديا، فبدأت تصلي بكل ما أوتيت من إيمان.
وفي كل ليلة، كانت تُصلي سرًا،
تمامًا كقردٍ سقط عن شجرته بسبب زلّة واحدة.
وفي إحدى الليالي، قُبض عليها وهي تُصلي للإلهة هيكاتي.
“جلالة الإمبراطورة، ما هذا بحق السماء…!”
قال أحدهم ذلك حين رآها في ذلك المكان المعتم، تركع أمام الشموع وتُصلّي.
لكن، لم يظهر عليها أي ارتباك.
بل بدت وكأنها ارتاحت.
وكان ارتباك الحاضرين أكبر من ارتباكها.
هبّت الريح عبر الباب المفتوح، فتراقصت ألسنة اللهب.
وتذكّرت ميديا وجه صديقتها العزيزة.
أوينوني.
لقد حدث ما كنتِ تخافينه.
يا لحسن حظكِ أنكِ لم تعودي في تيلون.
لو كنتِ هنا، وتعلّمتِ مع عمتي،
وعُرفتِ كصديقتي، لكانوا اتهموكِ بالهرطقة.
لأول مرة، شعرت بالسعادة لأن أوينوني لم تعد في هذا المكان.
أُقصيت الإمبراطورة ميديا عن العرش حين حاولت استعادة ذاتها، لكن في نهاية المطاف، كان ذلك جزءًا من رحلتها لاستعادتها.
***
وبينما كانت ميديا تسترجع ماضيها المغبرّ،
دخلت إليها إحدى الخادمات بوجهٍ شاحب.
“ما الأمر؟“
“الأمير الثاني… قد حضر لزيارتكِ، جلالتكِ…!”
“ما الذي يريده هذا الغبي الآن؟“
لكن، لم تكن الخادمة من أجابها على ذلك التساؤل المملوء بالضجر، بل جاءه الجواب من الشخص ذاته.
“غبي؟ إن قلتِ هذا، فإن قلبي يتألم حقًا.”
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 43"