استمتعوا
المكان الذي تقيم فيه ميديا المعزولة عن العرش، لم يكن يُسمح بدخوله إلا لخدم الماركيز تان وبعض أفراد العائلة الإمبراطورية.
لكن مع مرور الزمن، خفّت القيود تدريجيًّا. لذا، لم تكن ميديا ممنوعة من استقبال الرسائل أو القيام بالأمور المعتادة.
الشيء الوحيد الذي لم تستطع فعله هو مغادرة هذا القصر.
روز، التي جاءت لزيارة ميديا قبل ديلان وهيلي اللذين تأخر لقاؤهما مع ديانا، قدّمت لميديا صندوقًا مغلّفًا بعناية.
“هذه هدية.”
“شكرًا.”
أجابت بصوت رتيب خالٍ من المشاعر، كعادتها في كل شيء.
لم يكن شيء يوقظ بريق عينيها سوى الكتب التي تتحدث عن السحر وطب الأعشاب، ولم يكن قلبها ينبض إلا في المواضيع المتعلّقة بهما. كانت هكذا دومًا.
داخل الصندوق، وُجد كتاب قصص أطفال جديد.
“فرينا“
لم تكن ميديا تهتم بأدب الأطفال، لذا أمالت رأسها باستغراب،
ثم بدأت تتصفّح الكتاب مجاملةً لمهديته.
كانت رسوم الكتاب زاهية، وسرده يحمل جوًا من الحنين العذب.
لكن قلبها، بدلاً من أن يرفرف،
بدا كأنه يغوص في بركة من السكون.
بل وشعرت بصداع خفيف.
“ما رأيك؟ ممتع، أليس كذلك؟“
لم تكن تملك رأيًا خاصًا، لكنها أومأت برأسها،
متظاهرة بالاهتمام، مراعاة للياقات الاجتماعية.
“أجل، أفضل مما توقعت.”
روز بدأت تروي قصصًا من بلوتاروس، عن اعتقادهم أن الأيدي الباردة تدل على دفء القلب، وهو تعبير هناك عن أحبك.
“في المرة الماضية، أمسكت هيلي بيد أخي، فكانت باردة جدًا، فقالت له إن ذلك يعني أن قلبه دافئ. فدُهش ديلان وهرب من دون حتى أن يشرح لها المعنى!”
“يا له من فتى غريب.”
قالت ميديا ضاحكة بخفة، كما لو أنها تتحدث عن ابنٍ لا تعرفه.
ابتسامتها التي تشبه لهب الموقد المتقد،
كانت دافئة على عكس يديها الباردتين كالجليد.
تأثرت روز بذلك الدفء، فتطلعت إلى ميديا، وميديا كذلك نظرت إليها.
لكن ميديا لم تكن تنظر إلى روز بذاتها،
بل من خلالها، إلى من يقف خلفها في ذاكرتها.
المحظية الإمبراطورية آيترا،
التي ألقت بنفسها في النهر يائسة من الحياة.
استحضر ذهن ميديا وجه آيترا.
ورغم مرور الزمن، إلا أن ملامحها لم تمحَ من ذاكرتها.
‘كانت آيترا ماهرة في السباحة.’
بمجرد استذكارها، شعرت وكأن غبارًا من كتاب قديم تطاير عليها مثل قطرات ماء باردة.
ميديا وآيترا… سرٌ لا يعرفه سواهما.
لذلك، روز لن تعلم بهذا السر أبدًا، وسيظل غائبًا عن حياتها إلى الأبد.
***
بعد فترة، وصل ديلان وهيلي إلى قصر تان،
بعدما تشاورا مع ديانا حول مكان إقامة نيفيلي.
وقد قررا أن تعمل نيفيلي في قصر الاميرة الأولى.
عندما سمعت ميديا، التي كانت تأكل تفاحًا مجففًا، أن نيفيلي قادمة من شبه جزيرة بولا، لمع في عينيها بريق نادر.
“أكانت والدتك تقيم في شبه الجزيرة؟“
“نعم، هذا صحيح.”
الكلمات التالية من هيلي كانت كافية لتُفهم سبب انفعال ميديا.
“يا لها من صدفة. لديّ صديقة هناك،
درست معي طب الأعشاب، وكانت قريبة من عمتي أيضًا.”
أوينوني، رفيقة ميديا.
التقتا كابنة راعية لطالبة مبتعثة، ثم أصبحتا صديقتين.
استحضرت ميديا وجه صديقتها القديمة وضحكت برقة.
“تسكن في بستان هناك، وأتساءل إن كان هو نفسه الذي كانت نيفيلي فيه.”
مالك البستان كان قد بنى منزلاً كبيرًا يُؤجَّر للناس،
وصديقتها القديمة كانت تقيم هناك.
بل والفاكهة التي على الطاولة الآن، قد أُرسلت من أوينوني.
رغم أن الهدية أُرسلت باسم تان،
فإن أهل القصر علموا أنها تخصّ ميديا.
“ربما هي مصادفة تحوّلت إلى قدر.”
“أجل.”
وعندما أطلعتها هيلي على الموقع الدقيق الذي كانت نيفيلي تقيم فيه، أشرقت ميديا بابتسامة واسعة.
“كم هذا العالم صغير.”
لطالما اعتقدت ميديا أن العالم واسع.
‘تيلون شاسعة، فكيف بالعالم بأسره؟‘
لكن هناك أيامًا تدرك فيها ضيقه،
وذلك حين تتقاطع العلاقات البشرية.
عندما يعرف شخصٌ من محيطها أحدَ معارفها من عالمها البعيد، ينكمش هذا العالم الواسع فجأة.
كانت هذه واحدة من تلك اللحظات.
سماع اسم صديقة قديمة من لسان متعاقدة ابنها،
أخرج ضحكة لا إرادية من فمها.
فرحة غير متوقعة زارت قلبها بعد غياب طويل.
وبينما كانت تتناول الطعام بهذا المزاج المنعش،
كانت الشمس قد بدأت بالغروب خلف الجبال.
حين حان وقت الرحيل، ودّعها ديلان كعادته بكلمات مطوّلة، فاختصرت ميديا ردها كعادتها.
***
بعد رحيل ابنها ومتعاقدته، والأبناء الغرباء، قامت ميديا بتهوية الغرفة، ثم عادت إلى مكتبها وجلست في مكانها المألوف.
كانت تنوي مواصلة القراءة من حيث توقفت قبل قدوم ديلان ورفاقه.
أما الكتاب الذي أهدته روز فتركته مهملاً في زاوية المكتب.
لكن الصفحات لم تطاوعها هذه المرة.
فقد باغتها صداع شبيه بمن يهزّ رأسها بعنف.
‘لم يحدث لي هذا من قبل.’
ربما كان اليوم يومًا للاستغراق في الذكريات،
وليس للمطالعة، هكذا فكّرت ميديا ببساطة.
فاليوم استرجعت ذكريات آيترا، والآن أوينوني.
على المكتب، كان هناك إطار صغير لصورة رسمتها أوينوني لها بقلم الحبر.
ميديا التي فضّلت الأصدقاء على الزوج والولد، نادت اسم صديقتها في قلبها.
‘…أوينوني.’
عندما كانت ميديا صغيرة وتعيش في قصر تان،
كان الناس يقولون إنها لا تشبه الأطفال.
كانت دومًا هادئة لا تتفاعل مع ما حولها،
مشاعرها جافة، ولا تفهم عواطف الآخرين.
وكان شقيقها أبسير يشتكي دومًا.
“أختي ليست بشرًا، لا تملك أي مشاعر.”
“المشاعر ليست الدليل الوحيد على الإنسانية، فلا بأس.”
بعضهم كان يمازحها قائلاً إنها ‘تحيا حياتها الثانية‘،
وميديا لم تجد هذا الوصف بعيدًا عن الحقيقة.
كانت تشعر أحيانًا، بأنها عاشت هذا العالم من قبل.
عيناها الخاملتان كانتا لا تتوهجان إلا حين تتلقى دروسًا في السحر من عمتها كيركي.
تلك اللحظات كانت الأوقات الوحيدة التي تتخلل فيها الألوان عالمها الرمادي.
ثم، ذات يوم.
وصل طلاب مبتعثون إلى قصر تان، برعاية الماركيز.
جاؤوا للقاء الماركيز شخصيًّا.
في ذلك اليوم، كانت ميديا تخطط للهروب من المنزل مستغلة الازدحام. ولو لم تعلق أردافها في فتحة الجدار، لنجحت خطتها تمامًا.
ولأنها لم تكن تجيد بعد التحكم الدقيق في السحر، فلو استخدمته لهدمت الحائط.
حينها، وقعت عيناها على أوينوني.
جميع الطلاب غادروا بعد لقائهم بالماركيز، ما عدا أوينوني، التي كانت تبكي في ركن الحديقة الخلفية.
اقتربت منها ميديا بلا تردد.
“هل أنت مشغولة؟ ساعديني قليلًا.”
فتاة طيبة القلب مثل أوينوني،
رغم اندهاشها، ساعدت ميديا في الهروب.
ثم قالت ميديا، وهي تنفض عن ثيابها المستعارة من الخادمة.
“شكرًا. كنت في طريقي للخروج.
إن لم يكن لديك مانع، سأشتري لك شيئًا لذيذًا.”
أومأت أوينوني برأسها موافقة.
قالت إنها لم تشعر بطعم ما أكلته في لقاء الماركيز من شدة التوتر، ثم هجمت على المخبز.
ردات فعلها كانت ممتعة جدًا.
عندما يعجبها الطعام، تتسع عيناها كعيني غزال،
وإن لم يعجبها، يتجهم وجهها كما لو مضغت حشرة.
كانت تختلف عن ميديا في جوهرها.
وقد وجدت ميديا متعة كبيرة في مراقبتها،
حتى أصبحت تزورها باستمرار.
ومع كل زيارة، كانت تشعر بأن عالمها يكتسب ألوانًا جديدة.
‘عندما أكون معك، يصبح عالمي لوحة ممتدة لا يحدّها إطار.’
لكن صداقة خادمة مزيفة وابنة ماركيز مع طالبة مبتعثة لم تدم طويلًا.
إحدى الخادمات الحقيقيات نادت ميديا أمام أوينوني قائلة.
“آنستي، إلى أين تذهبين؟!”
‘تبًا لتلك الخادمة.’
ارتعبت أوينوني، ثم غضبت.
“أأنتِ ابنة الماركيز؟ قلتِ إنك خادمة!”
“لم أقل ذلك. فقط كنت أرتدي زي الخادمة عندما التقيتكِ.”
“لماذا خدعتِني؟“
“لأنكِ كنتِ ممتعة. بالمناسبة، الكلام الرسمي ممل.”
“هل أتحدث بدون تكليف؟“
“نعم.”
عندها فقط، ابتسمت ميديا.
لا، لم تبتسم ابتسامة عريضة، بل اكتفت برفع زاوية فمها قليلًا.
هكذا أصبحت ابنة الماركيز الهادئة صديقة لطالبة مليئة بالمشاعر.
‘ابنة الماركيز تان‘ كانت أول حقيقة انكشفت لأوينوني.
لكن ميديا لم تلبث أن كُشفت مرة أخرى،
ولم يكن ذلك خطأها هذه المرة.
لقد سقطت أوينوني في النهر.
“كخخ… لا أعرف السباحة!”
كانت تغوص وتعلو مرارًا،
ورأسها يختفي في الماء ويظهر من جديد.
“أنا أيضًا لا أجيد السباحة، فماذا أفعل؟“
تأملت ميديا الموقف بجدية،
ثم حين كادت أنفاس أوينوني تتوقف، التقطت غصنًا من الأرض.
لم يكن بإمكانها التحكم بالسحر بدقة باستخدام أصابعها فقط، لذا استعملت الغصن لتوجيه السحر.
وبينما هي تشير بالغصن نحو أوينوني،
قبضت عليه بقوة وسحبتها بالسحر من الماء.
ثم، وهي تسعل، ربتت على ظهرها،
وجففت جسدها المبلل بسحرها.
سألتها أوينوني بصوت مرتعش، ارتجافه ليس بسبب هوية صديقتها، بل لرعبها من الموت.
“…أأنتِ ساحرة؟“
“نعم. هل ستخبرين أحدًا؟“
لم تكن على وجه ميديا أي علامات توتر أو خوف وهي تسأل.
فأمسكت أوينوني بيدها قائلة.
“أبدًا! لكن… ما أنواع السحر التي يمكنك استخدامها أيضًا؟“
“عندما تريدين الموت بالقفز من مكان عالٍ،
يمكنني أن أبطئ سقوطك.”
سأضعك على الأرض برفق… وهكذا، ستُكتب لكِ النجاة.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 42"