استمتعوا
سخر الماركيز من تصرّف ديلان،
وقد علت شفتيه ابتسامة استخفاف.
“هاه، يبدو أن الارشيدوق قد أدرك طبعك السيئ، فاندهش.
لا أظن الأمر سيطول بينكما.”
كريك—
عاد صوت انفتاح الباب يتردد من جديد.
وعلى عكس ما ظنه الماركيز،
فإن ديلان قد عاد إلى الشرفة بعد ثوانٍ معدودة فقط.
ثم ناول هيلي زجاجة نبيذ جديدة،
فوجدت نفسها تحمل زجاجتين دفعة واحدة.
“إن احتجتِ إلى المزيد، فقولي.
سأكون واقفاً بالخارج، فادعيني متى ما شئتِ.”
ثم أعلن، بابتسامته البريئة،
عن استعداده لأن يكون شريكها في الجريمة دون تردد.
أُغلق الباب مرة أخرى، ولم يبقَ في الشرفة سوى الماركيز وهيلي. تحدثت الأخيرة بنبرة مفعمة بالارتياح.
“فيما يبدو، لم يندهش من طباعي السيئة.”
“……”
“وهذا يعني أن توقعك بألا يدوم الأمر طويلًا، كان خاطئًا يا أبي.”
مسحت هيلي يدها الملطخة بالنبيذ على ملابسها بلا مبالاة،
ثم دفعت الزجاجة المكسورة إلى الماركيز.
“أنا ذاهبة إلى المنزل الآن، لذا تفضّل بالتخلص من هذا من فضلك.”
وعندما أخذت الزجاجة السليمة فقط، نادت على ديلان،
ففتح الباب على الفور. ابتسمت بخفة وقالت.
“أظن أن ثلاثين دقيقة قد مرّت.”
“أجل. هل نعود إلى المنزل؟“
في الحقيقة لم تمر سوى عشر دقائق،
لكن ديلان مدّ يده دون أن يقول شيئًا.
فأومأت هيلي برأسها وأمسكت بها.
أما الماركيز، الذي بقي ممسكًا بزجاجة النبيذ دون أن يعلم،
فقد راقب الاثنين بصمت، ثم تمتم ساخرًا.
“يناسب بعضكما بعضًا، كما يُقال.”
***
ساد الصمت داخل العربة.
لم يكن لدى هيلي أي أفكار في رأسها،
في حين كان ديلان يحدّق بها كثيرًا على نحو غريب.
لكنها لم تشعر بالإحراج،
فقد اعتادت أن تُظهر أمامه أسوأ ما فيها.
بل على العكس، كانت تشعر بشيء من البهجة.
حتى أنها بدأت تدندن بلحنٍ خفيف، وهي تحتسي النبيذ مباشرة من الزجاجة التي أخذتها من الحفل، مما أضفى على مظهرها مسحة من الجنون الطفولي.
كان ديلان يمسح النبيذ عن ذراعها بصمت، لكنه لم يفهم سرّ سعادتها، فهي لم تكن منذ وقتٍ طويل في جدالٍ حاد مع والدها؟ والآن تبدو وكأنها في قمة المرح.
سألها وهو يتأمل وجهها المشرق.
“ما الذي يبعث فيكِ كل هذه السعادة؟“
‘حقًا، لماذا أنا سعيدة إلى هذا الحد؟ هل لأنني رأيت وجه والدي المذعور؟‘
لا، لم يكن ذلك السبب.
تريّثت هيلي قليلًا تفكّر في الجواب، ثم تذكرت ما قاله لها ديلان قبل قليل، فارتسمت ابتسامة على شفتيها.
“أجل. هل نعود إلى المنزل؟“
‘المنزل.’
لم يكن ‘المنزل‘ للجميع مكانًا دافئًا.
لبعضهم هو مأوى تتجدد فيه الروح،
وللبعض الآخر قد يكون جحيمًا لا يُطاق.
وعلى عكس من كانوا يأتون إلى المعبد ويغادرونه في إجازاتهم، كانت هيلي محبوسة فيه، غير قادرة على فهم فرحتهم بالعودة إلى ديارهم.
‘هل يخبئون كنزًا ذهبيًا في منازلهم؟‘ كانت تتساءل.
لكن الحقيقة أن أولئك كانوا يعودون لأعز ما لديهم، أثمن من الذهب نفسه.
أما هي، فلم يكن لديها أحد.
فقد كانت نيفيلي في بلادٍ بعيدة لا تمتّ بصلة إلى ‘المنزل‘.
قالت بهدوء مفعم بالدفء.
“لأني أحب العودة إلى المنزل.”
ضحك ديلان وسألها مازحًاط
“أتركتِ حزمة ذهب في القصر؟“
“أعزّ من الذهب. آه، في الواقع، لم أتركه هناك.”
“وأين هو إذًا؟“
أشارت إليه بأن يقترب منها.
وعندما اقترب، همست في أذنه.
“إنه معي الآن في العربة.”
“…هذا غير عادل.”
لم يكن هناك قواعد لاعتبارها خرقًا لها،
ولكن وجه ديلان الذي غطّاه بيده، كان كافيًا ليكشف تأثّره.
ابتسمت هيلي بمكر وقالت.
“هاه؟ وكيف عرفت ما أقصد؟
لا تخبرني أنك تظن أنني كنت أعنيك!”
“يا لكِ من شريرة، حقًا.”
ضحك ديلان وهو يهز رأسه،
وقد أضفت تلك المزحة المحببة دفئًا خاصًا على الرحلة.
نعم، لقد أحب العودة إلى ‘منزله‘، الذي يعني هيلي.
***
“لقد مر وقت طويل صاحبة السمو.”
“هل فقدتِ صوابك؟“
حدّقت هيلي بصديقتها وزميلتها، إيفي، بنظرات باردة.
“أيعقل؟ بالطبع لا، سموّكِ.”
وضعت هيلي يدها على جبينها وهي تتنهّد بيأس،
مسترجعة ذكريات سخريتها من البابا في الماضي.
“لم أظن أنني سأفهم يومًا مشاعر قداسته بهذه الطريقة.”
التقطت إيفي تعبير وجه صديقتها بمهارة، فانفجرت ضاحكة.
“هاهاهاها!”
ضحكت هيلي بدورها،
وقد سرّها أن صديقتها لم تتغيّر، ثم سألتها.
“كيف كنتِ؟“
“لا تسأليني! منذ رحيلكِ وأنا في وحدة قاتلة!”
في اليوم التالي مباشرة لحفل الخطوبة،
أرسلت هيلي خفيةً من يدعو إيفي إلى قصر الارشيدوق.
وبما أن سمعتها في العاصمة كانت في الحضيض،
فقد كانت اللقاءات العلنية محظورة.
قالت هيلي وهي تهز كتفيها.
“حقًا؟ أما أنا، فقد كنت بخير تمامًا.”
“أوه، هيلي!”
رسمت ملامحها تعبيرًا مزعجًا عن عمد،
فأزعجت إيفي، لكنها في الوقت ذاته شعرت بالاطمئنان.
بدا أن زواج العقد لم يكن سيئًا كما خُيّل إليها.
وهكذا، كان لقاؤهما القصير كافيًا ليؤكد لكل منهما أن الآخر لا يزال كما هو.
***
“كان ذلك في مهرجان الأرض، أظن؟ كنت أقطع الحطب بفأس أثناء العمل التطوعي، ثم دون قصد، ضربت قدم قداسته بالفأس.”
“من المؤكد أنه لم يكن الفأس الذي يؤمن به،
لذا لم يشعر بخيانة، لكن الألم لم يكن أقل.”
“لم أستطع الهروب من العقوبة.”
من يتبادل مثل هذه الأحاديث عن دهس قدم البابا بالفأس،
سوى هيلي وإيفي؟
ما زالت إيفي شخصًا منبوذًا في أوساط المعبد، وخصوصًا بعد اختفاء هيلي، حيث ظن الجميع أنها ستكف عن شغبها، لكنها خيّبت ظنونهم.
وبينما كانت هيلي تنصت، خفضت صوتها وسألت.
“أخبريني، هل أحضر والدي إلى المعبد صندوقًا غريبًا في أي وقت؟“
اتسعت عينا إيفي.
“نعم، فعل. كيف عرفتِ وأنتِ في بلوتاروس طوال الوقت؟
لو لم تذكريني، لكنت نسيت الأمر.”
اعتدلت في جلستها وشربت قليلًا من الماء، ثم تابعت.
“جاء والدكِ مع ذلك الوغد، إيدن، إلى قداسته.
راقبتهم خفية، وبالفعل، أخرجوا بعض الصناديق، كما قلتِ.”
‘صناديق‘ بصيغة الجمع.
تذكّرت هيلي ما قاله موري عن الصندوقين، وسألتها.
“هل كانا اثنين؟“
“أجل. ظننتها رشوة،
لكنهما كانا صغيرين جدًا على أن يحتويَا ذهبًا أو جواهر.
ولم يفتح البابا الصناديق أصلًا، فزاد ذلك من غرابتها.”
في تلك الليلة، قدّم الماركيز وإيدن صندوقًا للبابا،
لكنه لم يفتحه، بل اكتفى بتفحّصه كخبير تقييم.
“ثم… كان يهمهم بشيء بوجهٍ شديد الجدية،
لكني لم أستطع سماع ما قاله.”
حينها، تأكدت هيلي من ظنونها.
‘إنه الصندوق الذي يبحث عنه موري، لا شك في ذلك.’
كما ظنّت، فإن ‘صناديق النوم‘ التي كانت تحت سرير فريكسوس، انتهت بيد الماركيز.
فقرّرت أن تشارك صديقتها،
التي كانت شاهدة على الحادثة، بالمعلومة.
“ربما تحتوي على… النوم.”
“النوم؟ ذاك الذي نغفو فيه؟“
وضعت إيفي خدّيها فوق يديها،
غير مصدقة، لكن هيلي تفهّمت دهشتها.
“أجل. من يفتح الصندوق ومن حوله، يدخلون في سبات،
ويُقال إنهم يرون كوابيس. ولا يمكن لأي بشر إيقاظهم.”
“هذا يبدو كحكاية منسوبة لحاكم الأحلام…”
‘ما بها اليوم؟ حدسها حاد بشكل غريب!’
وأخيرًا، قرّرت هيلي أن تكشف عن مصدر المعلومات أيضًا،
فهي تثق بأن إيفي لن تنشرها.
“أجل. هو من قال ذلك. الصندوق من ذخائر حاكم الأحلام، وقد نزل إلى عالم البشر ليبحث عنه.”
“ماذا؟ وأين هو الآن؟ أليس من الأفضل أن يبحث عنه بنفسه؟ أليس بإمكانه التنقّل بسرعة خارقة؟“
“…إنه في بلوتاروس. لكنه معاقَب الآن، وقد فَقَد قواه.”
نقرت إيفي بلسانها بضيق، ثم أضافت.
“أما الصندوق، فواحد ذهب إلى قداسته، والآخر أخذه والدكِ معه.”
لا شك أن البابا شرح للماركيز ما هو الصندوق، فدفع له الأخير واحدًا مقابل المعرفة.
‘والثاني… لا بد أن والدي أخذه معه.’
ربما أراد أن يمتلك ذخيرة إلهية، أو ربما…
‘هل ينوي أبي استخدامه لإغراق أحدهم في النوم الأبدي؟‘
شعرت بالخطر الداهم.
‘آه، لو أنه فتحه وحده في غرفته، ونام للأبد… يا لسعادتي.’
لكنه رجل بالغ الحذر.
عندما سمع أن هيلي اكتسبت قوةً من الضوء تحت سرير فريكسوس، أمر بالبحث هناك، لكنه لم يفتح الصندوق بنفسه، بل سلّمه للبابا ليقيّمه.
‘هل خاف من عقاب الحاكم؟‘
لا بد أن أحد الصندوقين الآن في خزنة والدها،
وسيستخدمه يومًا ما لمصلحته.
فأين ذهب الآخر؟
اصحبت هيلي تخمّن مكانه، ثم تمتمت.
“لو كان بوسعي، لاقتحمت المعبد وبحثت في أدراج قداسته.”
“ليس هناك. لا بد أنهم أخرجوه إلى مكان خارج المعبد.”
جمدت هيلي في مكانها من الردّ الهادئ.
“إيفي… هل فتّشتِ مكتب البابا؟“
“أجل.”
“هل جننتِ؟! لم تكوني تعرفين ما في الصندوق!
أتريدين قضاء عمرك في كوابيس وتموتين؟!”
لو أنها فتحته دون قصد، لانتهى أمرها إلى سباتٍ أبدي.
بدأت هيلي بضرب ظهرها بجنون،
فدوّى صوت الصفعات في المكان.
أما إيفي، فقد صرخت دون أن تستسلم.
“ولكن ألا يثيرك الفضول؟!”
فضلًا عن ذلك، كان عليها أداء مهمّة.
كان عليها أن تنقل ما تعرفه إلى حاكمها، فقد كانت تلك رسالته لها.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 41"