استمتعوا
هَرَعَت هيلي إلى المكتب الذي كان ديلان يقضي فيه أغلب وقته، لكنها لم تجده هناك.
لم يكن في المكتب سوى جيروم، مساعده، جالسًا يعمل على الأوراق بمفرده.
“أين صاحب السمو؟“
“ذهب إلى الحديقة لبعض الوقت.”
الحديقة.
وما إن حددت وجهتها في ذهنها حتى اندفعت هيلي تهبط السلالم بسرعة.
وقد تكون التوت كاحلها قليلًا عند آخر درجة،
لكنها استعادت توازنها بسرعة.
صيف بلوتاروس، المغمور بأشعة الشمس.
وكان سيد هذا المكان، واقفًا أمام الزهور،
يبتسم ابتسامة زاهية لا تقل جمالًا عن تلك الزهور.
لأنه كان يعتبر هذه الحديقة فردوسًا خاصًا به.
ولم تلبث هيلي أن وصلت إلى المكان الذي كان فيه ديلان.
وما إن شعر بوجودها،
حتى التفت دون أن يُظهر أي بقايا من الأسف.
كانت أنفاسها متقطعة من الركض،
ووجهها الذي شحب من القلق بدأ يكتسي بحمرة خفيفة.
شعور غامر يفيض من صدرها،
دفعها لأن تكتفي بعضّ شفتها السفلى بدلًا من الكلام.
بدت كأنها على وشك البكاء.
ولما رأى ديلان هذا التعبير على وجهها، سألها بوجه متصلّب قليلًا.
“ما الأمر؟ هل حصل شيء؟“
“لا، ليس هذا تمامًا…”
لوّحت هيلي بيدها نافية، محاولة أن تبعث في نبرتها طمأنينة،
لكن الكلمات لم تكن تخرج بسهولة.
ليس فقط بسبب ضيق أنفاسها،
بل لأنها حين وقفت أمام ديلان لم تعرف من أين تبدأ شرح ما حدث.
تنفّست هواء الحديقة بعمق، تهدّئ نبضاتها، ثم بدأت تتحدث.
“يومها، عندما رأيت الكابوس… قلت لي أن أحاول فعل شيء داخل الحلم.”
“أجل، قلت ذلك.”
أومأ برأسه وهو يستحضر المحادثة السابقة.
“اتبعت نصيحتك، وحاولت فعل شيء في ذلك الحلم.
مددت يدي إلى شمعدان في الداخل وحرّكته.”
ظنت أنها تتحدث بهدوء، لكن صوتها كان يرتجف طوال الوقت.
كانت تكتم الكلمات التي تتدافع بلا ترتيب.
“بفضل ذلك، استطعت، في الحلم، أن ألتفت خلفي،
رغم أنني كنت على وشك مغادرة القبو دون أن أدرك شيئًا.
وهناك، رأيت إيدن مختبئًا.”
ديلان لم يُعر اهتمامًا كبيرًا للموقف بقدر ما فهم مشاعرها،
فابتسم بلطف.
“هذا جيد. هذه المرة، كانت النهاية مختلفة.”
“نعم، أمر جيد فعلًا.
لكن، ما يصعب تصديقه هو أن كل ذلك كان حقيقيًا.”
“ماذا…؟“
بدا أن ديلان لم يصدقها فعلًا، فأغمض عينيه وفتحها بدهشة.
وضحكت هيلي ضحكة صغيرة حين رأت تعابير وجهه المصدومة.
“أقول الحقيقة. هذا ما قالته موري.”
قالت ذلك بابتسامة خفيفة، تشرح أن كل تلك الأحلام كانت فرصة، وبفضل ديلان لم تفوّت تلك الفرصة.
ثم خفضت رأسها، وابتسامة هادئة ما تزال ترتسم على شفتيها.
“شكرًا لك. شكرًا لأنك نصحتني بما مكنني من مساعدة نفسي في الماضي.”
اقتربت ببطء من وجهه، ومدّت يديها لتغلف وجنتيه بكلتا يديها.
ومع لمستها الناعمة،
أغلق ديلان عينيه، وكأنه يعرف ما الذي ستفعله.
وكما توقّع، لامست هيلي جبينها بجبينه.
لكن ما إن ابتعدت حتى فتح عينيه،
وأحس أن الوقت كان قصيرًا جدًا.
رغم أنها كانت تستمتع بهذا القرب،
إلا أنها لم تكن تتمسك به طويلًا.
ولهذا، بقي شعور الحنين في قلبه وحده.
وتوقّع أن ترفع يديها عن وجنتيه أيضًا…
لكن ما فعلته بعدها كان عكس كل توقعاته الكئيبة.
نظرت إلى عينيه مجددًا،
ثم مالت مرة أخرى لتلامس جبينها بجبينه.
لم يتمكّن من إخفاء فرحته، فسألها.
“هل تدللينني مجددًا؟“
“نعم.”
“لماذا؟ أنا لا أمانع طبعًا، لكن…”
“لأنك… جميل، فقط من النظر إليك.”
فرح ديلان لأن ذلك لم يستغرق وقتًا طويلًا كما ظن.
واختفى شعور الأسى من بعد ملامسة جبينها.
نظر إليها بتردد، ثم قال.
“الآن، وأنا أنظر إليك… يبدو أننا نُكن لبعضنا مشاعر، أليس كذلك…؟“
كان يمشي على جليد رقيق، حذرًا.
قد لا يناسب هذا الحذر مكانته،
لكنه كان مناسبًا تمامًا لشخصيته، كما رأت هيلي.
عيونه التي كانت تنظر إلى الأرض،
ارتفعت كالقمر، لتلتقي بعينيها الزرقاوين.
“هل أنا محق؟“
“نعم…”
“إذًا، هل نواعد بعضنا؟ وأكون قد وجدت جوابًا لسؤالك الذي طرحته من قبل.”
تنفس ببطء، وسأل بصوت فيه ارتجاف طفيف،
حاول أن يخفيه بابتسامة عريضة مصطنعة.
“…”
نظرت إليه هيلي مائلة برأسها،
لكنها لم تُجب فورًا، فتحطّم قناع ديلان المزيف.
لم يكن يملك الرشاقة التي تميزت بها ديانا.
“ألا تريدين…؟“
“أنا متزوجة الآن، لذا من الصعب أن أواعد أحدًا.”
ضحكت أخيرًا، ورفعت يدها لتُظهر خاتم الزواج في إصبعها الأيسر.
وفي يد ديلان أيضًا كان هناك خاتم مطابق.
زواج صوري، لكنه زواج مع ذلك.
تنهد ديلان براحة، وضحك معها، وكأنه يمسح صدره بيد غير مرئية.
“ما رأيك أن تحتفظي بزوج وتخذي عشيق أيضًا؟ ثم تختارين الأفضل بيننا. يبدو حلًا منطقيًا، أليس كذلك؟“
“فكرة مغرية فعلًا.”
أمسك بيدها، ولعب بخاتم الزواج الذي يزيّن أصابعها البيضاء، ثم ضحك بعينيه الضاحكتين.
“كيف هو شعورك وأنتِ زوجة وعشيقة في آنٍ واحد، سيدتي؟“
“وكأنني في بوفيه مفتوح. لكن الآن لم يعد فيه إلا طبق واحد…”
“فقط طبق واحد؟“
“أشعر أنني خُدعت، وهذا يجعلني غاضبة قليلًا.”
“هاهاها!”
انفجر ديلان ضاحكًا، ضحكة تشبه زهرة غير معروفة نبتت في زاوية ما من الحديقة، زهرة يعشقها. شعرت هيلي بشيء غريب في قلبها، وظلت تنظر إلى وجهه مطولًا.
***
في قصر مركيز ترافيا، كانت إينو، التي كانت في السابق عشيقة الماركيز وأصبحت زوجته، تحتسي الشاي في غرفتها مع إيدن.
“الماركيز يبحث عن تلك المرأة، نيفيلي.”
قالت وهي تحدّق بإيدن الجالس أمامها، ونظراتها هادئة ومظلمة.
“كنت أظن أن أخي هو من قتلها… لكن يبدو أن الأمر لم يكن كذلك؟“
في بداية هذا العام، كانت هيلي في المعبد،
وادّعت أن الماركيز وإينو قتلا نيفيلي، حتى أنها حاولت الانتحار.
ورغم نفي الماركيز،
إلا أن أغلب الناس صدقوا تلك الرواية بسبب إتقانها.
“هاه، هراء. كل ما فعلته تلك المرأة أنها سرقت المال وهربت.
لم يكن هناك وقت لنتدخل أصلًا.”
أجابها إيدن بانزعاج.
ولو كان الماركيز حاضرًا، لما تحدث مع إينو بهذا الشكل.
بدا عليه الإرهاق، فغطى عينيه براحة يده.
“لكن الآن، لم يتبق الكثير.”
تمتم إيدن كمن يهمس في دعاء.
“لقد اقتربنا كثيرًا…”
حين توفي زوجا بارون كوتيا، كان إينو وإيدن لا يزالان طفلين.
فتولى خالهما منصب البارون مؤقتًا بحجة صغر سنهم،
لكن لم يُتح لهما استعادته.
كان عليهما أن يعيشا كأنهما أموات في ملحق القصر.
تمامًا كما حدث مع هيلي وفريكسوس.
وحين اكتشف إيدن أن إينو حامل من الماركيز،
بدأ يضع خططًا يائسة لإنقاذهما من مصير شنيع.
من كونهما ضحيتين، أصبحا الجلادين،
واضطهدوا أبناء العائلة الآخرين.
وحين يرث ميليكير لقب الماركيز، تكتمل خطة إيدن.
قالت إينو بصوت لطيف كعادتها.
“لا تقلق، كل شيء سيكون على ما يرام.”
“حسنًا، سأذهب الآن. اعتني بنفسك.”
“وأنت كذلك، أخي.”
تبادلا وداعًا قصيرًا، ثم غادر إيدن الغرفة.
وخلف الباب المغلق،
اختفى عن ناظري إينو، وبدأ يستعيد ذكريات الماضي.
في اليوم الذي قتل فيه فريكسوس، الابن الأكبر للماركيز…
تفاجأ كثيرًا عندما رآها فجأة تهرع إلى القبو.
‘قلت لها أن تمسك بها جيدًا ولا تدعها تأتي…’
إينو لم تُتم أبدًا أي مهمة أوكلت إليها بشكل سليم.
كان عليه قتلها هناك مباشرة.
لكنه تفاجأ لدرجة أنه اختبأ في زاوية القبو.
وتلقى ضربات مبرّحة بشمعدان فضي.
تعرض رأسه لعدة ضربات حتى فقد وعيه،
ونُقل للعلاج في القصر بفضل بعض الخدم.
سبب نجاته كان غريبًا، فقد كانت الطاقة المقدّسة التي تسربت من جسد هيلي كافية لإبقائه حيًا.
لم يستطع الحراك لفترة طويلة.
وكان وعيه الغامض هو الدليل الوحيد على أنه لم يمت.
وفي إحدى الليالي، جاء شخص ما إلى غرفته وبدأ يخنقه.
من يكون؟
لم يكن يرى، لكنه عرف من الرائحة المنبعثة، العطرة والباردة كالعشب.
‘إينو.’
لم يكن يملك أي قدرة على المقاومة.
اعتقد أنها ستقتله هذه المرة، لكنها تراجعت قبل لحظات.
لم تمدّ يدها إلى عنقه مجددًا، بل ذرفت بعض الدموع وغادرت.
رغم قدرتها على قتله، لم تفعل.
ولم يسألها لاحقًا عن ما حدث. قرر التظاهر بالجهل مؤقتًا.
“ما الذي يدور في رأسها يا ترى…”
تمتم وهو ينظر باتجاه الباب المغلق.
لكنه يعلم أن إينو لم تعد تملك شيئًا حقيقيًا.
حتى ميليكير، ابنها، سينسب إلى الماركيز ويحمل اسم ترافيا،
فلا شيء يُمكن أن يُنسب إليها فعلًا.
والأهم… هو أن مشاعر الماركيز التي أوصلتها إلى هذا المكان لم تكن قابلة للإمساك بها أصلًا.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 36"